مقتطف من رواية «قصيدة في التذلل» التي تصدر قريباً

TT

* لاحت بوادر ما أسماه بالكارثة، عندما أحس، ولأول مرة في حياته، أن كل ما قيل في تاريخ الإنسانية من شعر، بما في ذلك ما قاله هو، وصدر للناس في أكثر من ديوان، لا أهمية له، وأنه مجرد نصب على الناس، بالكلمات، ونصب على الشاعر أيضا من طرف المفردات. حاول أن يتدارك الأمر، فراح يفتح دواوين الشعر التي في حوزته، واحدا إثر الآخر، مرة يقصد قصيدا معينا يختاره من الفهرس العام، ومرة يفتح، كما صادف، غير أنه في كلتا الحالتين، سرعان ما يحول بصره إلى سطور أخرى، وإلى صفحة جديدة. توقف عند بيت أبي القاسم الشابي المشهور: «إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر». فضحك مقهقها، وهو يتساءل: أي فرق بين هذا الكلام والسلام عليكم وعليكم السلام. كل خطيب يريد أن يحمس الناس، يمكن أن يأتي بمثل هذا الكلام. ثم إن «يوما» هذه متسللة، أقحمها الوزن لا غير. بل إنها في غاية من الخطورة. فهو يفترض أن الشعب مستريح بدون الحياة، وقد يريدها ذات يوم.

أين الشعر يا ناس ؟؟

توقف عند قول امرئ القيس:«أفاطم مهلا بعض هذا التدلل، أغرك مني أن حبك قاتلي وأنك مهما تأمري القلب يفعل» فعلق ساخرا: هذا كلام صبية يمرحون في بهو المنزل. أيعقل أن يكون حب فاطمة ما، في هذه الدنيا، قاتلا؟ ثم إن هذا الولهان الكاذب لم يمت ولا مرة واحدة. في الحقيقة لم يمت إلا عندما استمات في طلب الملك.

الملك. هو الحياة. وهو الغريزة الوحيدة، التي تظل تلازم كل الكائنات، ناطقة وغير ناطقة. متحركة، وجامدة. بما في ذلك الحب.

الهيمنة، هي سر البقاء في الوجود.

لا. أنا مريض. إني أتراجع عن حب ما كنت أحب؟

مريض.

اعتراه قلق غامض، فقرر أن يراجع نفسه، فلعله... بل أكيد أن خللا ما يعتري حاسة تذوقه للفن الذي أبدع فيه هو كذلك.

أيعقل أن يكون إجماع الأولين والأخيرين مجرد وهم، ووقوع في فخ النصب والاحتيال؟

أيعقل أن يكون هو وحده، العبقري الفذ الذي تفطن لذلك؟

غادر المنزل، ليتفسح قليلا في الشارع، تاركا وراءه الزوجة والبنت. مطمئنا عليهما، كل الاطمئنان. فرغم الظروف الأمنية السيئة التي بدأت تعم البلاد، شيئا فشيئا، وهذه الجهة بالذات، لم يحدث في المنطقة السكنية هذه، ما يمكن أن يكدر الصفو، ويزعج الخاطر.

إنها محروسة من جميع الجهات، برجال مدججين بأسلحة مختلفة، كما أنها محاطة بكاميرات، ظاهرة وباطنة، وكل من يتحرك فيها صغيرا كان أو كبيرا، رجلا أو امرأة، يرصد، ويظهر في شاشات منبثة في أكثر من مكتب رقابة، بما في ذلك مكتب السيد الوالي. وربما سجل، إن لم يكن معروفا لديهم، أو إن اقتضت الحاجة، وأرسلت صورته، إلى مختلف جهات التوثيق.

ثم إن الدخول والخروج، لا يتمان إلا من بوابة واحدة، محصنة تمام التحصين، ما عدا السيد الوالي، طبعا، فله منفذ خاص به، يتغير أكثر من مرة في الأسبوع.

ظهر في أكثر من شاشة، تأمله أحدهم، وتساءل رافعا صوته كي يسمعه رفيقه في الجانب الآخر للهاتف الخاص بهم:

السيد المدير على غير طبيعته اليوم.

يبدو، كمن أصيب بضربة شمس، لا يدري لا اتجاهه ولا مقصده.

على غير عادته.

من يدري فالزمن الذي نحياه، يفاجئنا كل يوم بأسراره. تدخل ثالث من مرصد آخر:

يتحدث وحده. لا حول ولا قوة إلا بالله.

هل له مقصد حسبما يبدو لك ؟

هو يتجول ليس إلا.

لا تغفل عنه. المهم.

جماعة النحو والصرف والفهامة هؤلاء، لا يلامون. كل يوم لهم شأن.

ربما يظهر في التلفزيون عما قريب. لعله يستعد لما سيقول.

ربما.

فهمتك. توقفْ عند ربما هذه، وتمسك بها لنفسك... كما تسمع الناس يسمعونك، وكما تراهم ربما وربما.. هم كذلك.

شكرا حضرات.

طرح السيد المدير على نفسه أسئلة عديدة ومختلفة، تؤدي كلها، إلى محاولة معرفة، أصول الكارثة وتدرجها عبر الزمن، وتوصل إلى شبه وفاق بينه وبين نفسه، عندما استقر رأيه على أن الإدارة والتسيير، والمسؤولية بصفة عامة، إن لم يسلم المرء بأنها تقتل المواهب، كحب المال، تماما، فإنها على الأقل، تتطلب التلاؤم والانسجام، فترة معينة، قبل أن تجدد الموهبة نفسها بنفسها، كما كل خلية حية. الموهبة عطية ربانية، وهي كالجمرة، تظل خافتة تحت الرماد، إلى أن ينفض عنها وتهب عليها، نسمة فتستيقظ. تومض، تلتهب محمرة مزهوة، لتلهب كل ما حولها. فتكون نارا.

الحق الحق. هناك نوع من النصب والاحتيال، في الشعر، يقول قائلهم، باكيا على هيروشيما: «تفجرت قنبلة في هيروشيما، فتركت كل شيء هشيما». ترى لو انفجرت في طوكيو، ما عساه يقول بدل «هشيما»، ثم لو لم تكن في العربية عبارة «الهشيم» هذه، ما كان سيقول شاعرنا النصاب ؟

آخر، تنصب عليه الكلمات نفسها، تتحول إلى كائنات شيطانية، تتراقص أمامه حتى تغريه، كما فعلت مع صلاح عبد الصبور، في قوله: «يا من يعطيني يوما من البكارة، أعطيه ما أعطتني الدنيا من التجريب والمهارة»، اختلطت عليه المسكين، النظارة والطهارة والحقارة فالتجأ إلى البكارة. لا أدري ما كان سيفعل بالبكارة، لو أعطيناه شهرا كاملا بدل اليوم الذي طلبه. ثم من قال له إننا في حاجة إلى تجريبه وإلى مهارته التي لا ندري في أي ميدان هي.

ليته طالب برطل من البكارة بدل اليوم... فقد يكون جائعا.

قذارة وحق الله قذارة.

لقد استخرج هاتفه.

كلنا نراه.

هل بالإمكان التقاط بعض مما يقول؟

وهو كذلك. ركز على الكاميرا القريبة منه، رقم 17، وشغل الصوت.

كيف الحال عندكم؟

كما هي في كامل البلد. وربما، في كامل العالم العربي. وربما في كامل العالم الإسلامي: شطيح، ورديح.. وياللن يا للان. ترنن ترن... وبُمْ بُمْ..

... أقول لك. اسمعني جيدا. لقد اكتشفت أن كل طبول العرب تتشابه شكلا ومضمونا، وترسل نفس الأصوات. وتطن بنفس الإيقاعات. كما اكتشفت، أن كل بطون النساء العربيات، يمكن أن تهتز يمينا، كما يمكن أن تهتز يسارا، كما يمكن أن تفعل كل ذلك في ذات الوقت. تدور على نفسها منتفضة. المهم هو نظرة الرجل العربي وأين تتركز. وكل شيء نسبي.

دعك من هذا، لقد قلت لي نفس الكلام أول أمس. هل توقفت عبقريتك عن الإبداع؟

أي إبداع؟

الشعر؟

حدثني عن المهم يا رجل؟ هل هناك ترقيات تخصنا. هل لحقت الميزانية؟ هل تسلمت الراتب؟ يقال إنهم سيرفعون رواتب المديرين. حدثني عن دفتر البنزين وهل يكفيك؟ حدثني عن قامة ذات الخدر، وعن لون شعرها، وعينيها، وهل تقوم بالواجب. ماذا تفعل بحراوية؟ أما تزال معك؟

أرجوك ركز معي؟

ماذا؟

أشعر بالكارثة.

أعوذ بالله. خفض صوتك يا رجل، في السابق كانوا يقولون: للجدران آذان. أما الآن فيجب أن نقول: للسماء آذان وعيون وذاكرة، كذلك.

لقد فقدت حاسة الشعر.

هأهأ هأهأ. وهل انتبهت لهذا، اليوم فقط؟ أنا قلت للشعر والشعراء باي باي، منذ بدأت أسعى لهذا المنصب الخداع. أنت حديث عهد، في المهمة، وستفهم. الزمن طويل يا أخي والعودة للشعر والترهات، يمكن أن تتم فيما بعد. يصير قول الشعر كجمع المال، الشطارة والحيلة والاستعانة. يطول السفر وينقطع الطفر.

تقصد قول الشعر.

نعم، وإذا ما دعيت إلى أمسية، فاستخرج من دواوينك ما تيسر.. تحمس وأنت تقرأ، غاضبا، ذكرهم بأيام الرفض والتمرد. ليعلموا أن الجذوة، ما تزال متقدة. وترنم ناعسا عندما تتحدث عن الحب.. وكفى الله الشعراء الكذب.

اسمع. يكذب من يصف الشعر بغير البركان. ينفجر، ثم يخبو. قد يعاود النفثان، من حين لآخر، ولكن يفقد في كل حال، نفسه الأول.

تقول؟

إنني لم أعد أستسيغ ما يسمى بالشعر.. تصور أن أحدهم يطلب رطلا من البكارة.

هأهأ.. صلاح عبد الصبور.. أعطوه عشرة أرطال، وصدقني أنه لن يقوى على فعل أي شيء معها، لم يحدثنا التاريخ عن شاعر أرنب... لعله كان مسطولا لحظتها، فأراد أن يحلي لسانه.. هأهأ. نحن قردة، في الشكل لا غير، أما الباقي، فلعله للروائيين..هـأأهـأ.

هأهأ... كعادتك.

دعك منه. الشعر كدعوة الشر، يظهر من تلقاء نفسه ويصيبك من حيث لا تتوقع. هل قدمت برنامج النشاط للموسم القادم؟

ربما فعلت ذلك، غدا أو بعد غد. لقد طلبني سيادته للاجتماع، ولم يحدد التوقيت بعد.

لقد بدأ يتحدث في السياسة.. هل أسجل سيدي. سجل، وفي نفس الوقت، افتح الخط، على شاشة السيد الوالي. ربما يلذ له متابعة الحديث.

لحسن حظك، أنه يطلبك. أنا أدق الباب، وأدق على الأبواب، كما تقول فيروز، فما من مجيب...

لا. نحن من حيث الاجتماعات، واللقاءات، ما شاء الله. اسمع الهاتف من عندي وقد أطلنا الحديث.

سجله على النفقات الإضافية والسلام. يا سي عمر بن عبد العزيز. ألم تسمعهم يقولون: اخدم يا التاعس على الناعس، كلها يا الراقد بالنوم.

باي. باي. سأنصرف لديوان الأخطل الصغير.

بشارة الخوري. الهوى والشباب والأمل المنشود.

يشرب الكأس ذو الحجا ويبقي لغد في قرار الكأس شيا

لم يكن لي غد فأفرغت كأسي ولم أبق شيا

استعن بفريد الأطرش لكي تتذوقه. باي.

حضرات!

في الاستماع.

لقد وردت على لسان المتحدثين أسماء غريبة مريبة، لم أعرف منها سوى فريد الأطرش، وفيروز، وظني يذهب إلى أن هذين الاسمين مجرد رموز وإشارات... اربط كل ما يتعلق به بمكتبي وبمكتب السيد الوالي.