أين ذهب حرافيش نجيب محفوظ؟

في الذكرى الأولى لرحيله

TT

«لكن آفة حارتنا النسيان» هكذا يصف الروائي الراحل نجيب محفوظ الحارة في روايته «أولاد حارتنا»، ويبدو أن هذه العبارة انطبقت أكثر ما تنطبق على مصر كلها. فهذه الأيام، وبعد مرور عام فقط على رحيله، أصبح محفوظ طي النسيان، لا يذكره إلا القلة، وضاعت الوعود بتخليد ذكراه من المؤسسة الرسمية وتبخرت في الهواء، وتبخر كلام حرافيشه وأصدقائه عنه طيلة فترة حياته، لدرجة أن أحدا لم يزر قبره في ذكراه الأولى سوى المستعرب الأميركي روموند ستول الذي حضر خصيصا لهذا الغرض، وآخر الحرافيش توفيق صالح، والدكتور حسن الزيتي، حسبما ذكرت جريدة «الجمهورية» الرسمية. فلماذا يا ترى كل هذا الجحود؟

منذ عام تقريبا، كان الروائي نجيب محفوظ ملء السمع والبصر، وكان يحرص كل يوم على أن يلتقي مجموعة من الأصدقاء أطلق عليهم اسم «الحرافيش»، بعضهم صار متحدثا باسمه، وبعضهم أصدر عنه كتابا، أو كتبا. ويوم الجمعة الماضي مرت الذكرى الأولى لرحيل عميد الرواية العربية، وسط صمت غريب ومريب. فبخلاف ملف خاص أعدته جريدة «أخبار الأدب» التي يترأس تحريرها جمال الغيطاني، أحد حرافيش محفوظ، لا شيء آخر يذكر. صمتت آلات الإعلام، وجفت الأقلام، وسكت ضخ ماكينات الطباعة، ولحست المؤسسة الرسمية كل وعودها بتخليد ذكرى محفوظ في متحف باسمه، وتحويل أماكن رواياته إلى مزارات، وأن يظل اسما يردده الجميع. وعلى مستوى آخر صمتت حدة الحديث عن حرافيش محفوظ الذين كانوا يرافقونه في كل شيء في حياته، وبقي سؤال: إذا كانت الدولة لم تفعل شيئا لنجيب محفوظ بعد رحيله ، فماذا فعل حرافيشه. هل ما زالوا يجتمعون حتى الآن؟ هل ما زالوا يحافظون على ذكرى الروائي الرائد الراحل؟ سؤال تطرحه «الشرق الأوسط» على عدد من حرافيشه، فمن يجيب؟

الغيطاني: لم يعد هناك ثلاثاء

* الروائي جمال الغيطاني، رئيس تحرير جريدة «أخبار الأدب» لم يعد يلتقي بالحرافيش كل ثلاثاء، كما كان يفعل إبان حياة محفوظ، ويقول: «لم نعد نلتقي، لكن ما زالت بيننا علاقة. فنحن أصدقاء، يوسف القعيد وعماد العبودي، هما صديقا عمري، وما زلنا نتواصل». ويبرر عدم ذهابه إلى جلسة الثلاثاء بقوله «توقفت عن الذهاب لأنه لم يعد هناك ثلاثاء بالنسبة لي، لأن الثلاثاء كان يعني أن نكون مع الأستاذ نجيب».

يبدو الغيطاني حزينا لعدم اهتمام الإعلام بذكرى محفوظ الأولى، ويضيف «يوم ذكرى رحيله خرجت معظم الجرائد بدون أي شيء عنه، مع أن العالم كله ما زال يكتشف محفوظ حتى الآن من جديد، ويتساءل عن سر كتاباته». لكن يبدو أنه ليس بعض أصدقاء محفوظ فقط هم الذين لم يتذكروا ذكرى رحيله، فهناك وزارة الثقافة التي كانت وعدت بمتحف له ولم تنفذه، وهو ما يعلق جمال الغيطاني عليه ساخرا بقوله «ربما لأن وزير الثقافة مشغول باليونسكو».

القعيد: الاغتيال الثاني لمحفوظ

* يوسف القعيد أحد حواريي محفوظ، يرى أن الحرافيش مجموعة انقرضت أو كادت، فلم يتبق منهم على قيد الحياة سوى توفيق صالح والرسام جميل شفيق. وقد نشأت عام 1946 وكان من أعضائها الرسام الراحل بهجت عثمان، والفنان أحمد مظهر. ويضيف «أما نحن فأصدقاء نجيب محفوظ، كان يلتقي بنا في ست مجموعات، كل يوم مجموعة، ما عدا السبت، لم يكن يلتقي فيه أحداً، وكان يملي فيه على محمد سلماوي الكلمة التي تنشر في جريدة «الأهرام». وبحسب القعيد، كان محفوظ يلتقي أصدقاءه يوم الأحد في فندق «شبرد»، ويوم الاثنين في فندق «موفنبيك» المطار، ويوم الثلاثاء في عوامة «فرح بوت»، والأربعاء في «سوفينيل» المعادي، والخميس في «فلفلة بالمنيل» ويوم الجمعة في فيلا الدكتور يحيي الرخاوي. وكان كل يوم به مجموعة مختلفة عن الأخرى، وبعضهم لا يعرف البعض الآخر، مشيرا إلى أنه قبل محاولة اغتياله عام 1994 كان كل من يريد أن ينضم يسحب كرسيا ويجلس، لكن بعد المحاولة التي فشلت، وبسبب كبر سنه وتعبه، اقتصرت المجموعات على أفراد معينين.

مجموعة الثلاثاء التي كان يحضر فيها القعيد انفرط عقدها بحسب توصيفه. ويبرر ذلك بأن من كان يجمعهم فيها هو نجيب محفوظ، ويضيف: بعض الأصدقاء ما زال يذهب، لكني لا أذهب، لأن الأمر يشبه تحضير الأرواح، أو البكاء على الأطلال. كما أنه لا أحد يستطيع أن يجلس مكان محفوظ حتى نلتف حوله، مشيرا إلى أنه في البداية طرحت فكرة تكوين جمعية أصدقاء نجيب محفوظ، واشترطنا أن يكون لها هدف حقيقي وليس هدفا وقتيا، لكن لم يحدث شيء حتى الآن.

ويعتبر القعيد أن توقف الجلسات شيء محزن، مؤكدا أن محفوظ هو أكثر شخص كان يلتف حوله حواريوه في المقاهي، منذ الأربعينات، حين كان يجلس مع أصدقائه من أبناء جيله أو من سبقوه مثل عادل كامل، وعبد الحميد جودة السحار وعلي أحمد باكثير وغيرهم. لكن جلسة الثلاثاء تذكر القعيد بالتزام محفوظ ويقول «كان ملتزما، وكان يذهب حتى لو كان الثلاثاء موافقا ليوم العيد».

كلام كثير قيل بعد رحيل محفوظ لكن لم يتحقق منه شيء في رأي القعيد، مثل ما قيل عن إنشاء متحف نجيب محفوظ في وكالة محمد بك أبو الدهب، لكن قرار التخصيص لم يصدر حتى الآن، كما أن مشروع المحافظة لتحويل الأماكن التي كتب عنها في القاهرة الفاطمية مثل: زقاق المدق وقصر الشوق والسكرية إلى مزارات سياحية، لم يحدث فيه شيء، معتبرا هذا التجاهل هو الاغتيال الثاني لنجيب محفوظ. فلم يقدم له أحد شيئا كما قدم هو للعالم العربي الكثير. ويعلق القعيد على هذا بالعبارة التي كتبها محفوظ واصفا الحارة «ولكن آفة حارتنا النسيان».

سالم: وزارة الثقافة لم تقدم شيئا لمحفوظ

* الكاتب زكي سالم، أحد أصدقاء نجيب محفوظ والمقربين منه يعتقد أن أصدقاء نجيب محفوظ أناس عاديون في النهاية، لا يملكون أن يفعلوا شيئا، حتى لو كانوا كتابا ومبدعين. فالمؤسسات الثقافية هي الموكول بها هذا الدور، والمهم في رأيه هو ماذا فعلت الدولة لنجيب محفوظ؟ وكيف تعاملت مصر مع غياب هذه القامة الشامخة؟ وهل سعت للحفاظ على تراثه بأي شكل من الأشكال؟ ويجيب زكي سالم على نفسه: مصر لم تفعل شيئا للأسف خلال هذا العام.

مجموعة الثلاثاء ما زالت تلتقي، وهناك لقاء الجمعة الذي يضم شخوصا من لقاءات محفوظ في بقية الأيام، ويعتقد سالم أن الأهم من سؤال ما الذي فعله الحرافيش لمحفوظ، هو: ما الذي فعلته الدولة له، ويجيب ساخرا: «الحمد لله، لم تفعل شيئا، تكلمنا كثيرا وأنشئت لجنة برئاسة وزير الثقافة شخصيا، وخصص بيت في منطقة الباطنية لعمل متحف له، رغم أننا كنا نطالب بأن يكون في الجمالية التي نشأ فيها. وقالوا إنهم سيقيمون المتحف، لكن حتى هذه اللحظة لم يحدث شيء».

ويعلق سالم على هذا الأمر بأنه شيء محزن جدا، فمصر لن تنجب كل يوم رائدا مثل نجيب محفوظ، بل قد لا يتكرر كل قرن، أو عشرات السنين شخص آخر مثله، شرّف الأدب العربي كله بالحصول على نوبل. فمحفوظ ـ على حد تعبيره ـ ليس فردا بل تاريخ من الثقافة العربية والإنسانية، موضحا انه لا يفهم موقف محافظة القاهرة من عدم الاهتمام بالرجل وبتراثه.

ويرفض سالم أن يكون الحل في يد الأفراد، حتى لو كانوا حرافيشه، وأصدقاءه، فهو في يد المؤسسة الرسمية والدولة المصرية، من وزير الثقافة وحتى رئيس الجمهورية، معتبرا أنهم لم يقوموا بواجبهم تجاهه. فالمجلس الأعلى للثقافة الذي لا يكف عن إقامة المؤتمرات والندوات، لم يقدم شيئا عن محفوظ، ولم يتذكره، مشيرا إلى أمر آخر، وهو ضرورة تخليد محفوظ في المناهج التعليمية، حتى نحافظ على متابعة الأجيال القادمة له ولأدبه، وحتى لا نفاجأ في يوم بأجيال لا تعرف من هو نجيب محفوظ.

إذا كانت الدولة نسيت محفوظ، بعد عام واحد على رحيله، فماذا بعد عشر سنوات؟ سؤال مرير، لكن زكي سالم يفضل أن يطرح على المؤسسات الثقافية الرسمية.

الشربيني : لا نملك أن نقدم شيئا له

* الفنان التشكيلي محمد الشربيني أحد أصدقاء محفوظ، وواحد ممن كانوا يحضرون جلساته، يؤكد أن الحرافيش ما زالوا موجودين، وما زالوا يذهبون في ميعادهم إلى مكان اللقاء، مضيفا أن هناك أيضا لقاء جديدا كل جمعة للمجموعات كلها. غير أنه يقول «توقفنا مؤخرا منذ أول أغسطس لانشغال البعض»، ويضيف «كنا نلتقي في الفترة الأولى بعد الوفاة مباشرة نستعيد ذكرياتنا معه، ونقرأ «أحلام فترة النقاهة» بعدها توقف البعض واستمر البعض الآخر. ورغم رفض الشربيني التصريح بأسماء من توقفوا لكنه يقول «ما زلنا رغم ذلك على تواصل».

ولا يـحــب الشربيني إطلاق وصف «مجموعة اجترار الذكريات» على أصدقاء نجيب محفوظ، ويقول «نحن لا نجتر الذكريات، بل نستعيد مواقف معينة، فهو في سلوكه معلم للأجيال في مواجهة ما يحدث وحكمته تظهر في كتبه، ونقرأ نصوصه ونناقشها. وهناك فكرة طرحها الدكتور يحيي الرخاوي بإصدار دورية نصف سنوية حول أدبه لنشر دراسات نقدية حول نصوصه لكنها لم تنفذ حتى الآن».

وحين نسأل الشربيني، ماذا قدم الحرافيش، أقرب المقربين، لمحفوظ بعد رحيله؟ يجيب: ليس لدينا قدرات، نحن محبون لمحفوظ، كنا عينه وأذنه لكن كل واحد في اتجاه. ويستدرك «كنا نخطط لعمل جمعية لأصدقاء ومحبي نجيب محفوظ، لكن الإجراءات تأخذ وقتا كما تعلم»، ويضيف: «يجب على الدولة أن تتدخل، فالرجل أعطى للبلد الكثير» مؤكدا أنه بالنسبة لمصر لا يقل عن شكسبير بالنسبة لبريطانيا، وجوته بالنسبة لألمانيا، ويجب على الدولة أن تقدم له ما يستحق، مطالبا المثقفين ـ في المقابل ـ بأن يضغطوا على المؤسسة، لإنشاء متحف له.