شبح السياحة يقضم عروض الفن الصيفية في أمستردام

«تجليات التخطيط» تعوض خسارة العودة إلى الستينات

TT

من المبالغة القول ان السذاجة التي تنطوي عليها معارض الصيف في معالجتها لشؤون الفن هي نوع من المكيدة التي تهدف الى الربح المادي المحض. هناك شيء من هذا القبيل في سلوك عدد كبير من المتاحف الجاهزة لاقتناص أكبر عدد ممكن من الزبائن العابرين، حاملي الكتب والخرائط السياحية، لكن الصحيح أيضا أن هناك عدداً آخر من المتاحف يسعى اثناء الصيف الى تقديم المعرفة من خلال الامتاع، وهو ما رأيته في محاولة «متحف ستيدلك» الوطني في امستردام بعودته الى فن ما بعد 1968.

في الطريق الى ذلك العنوان القوي والمثير "ما بعد 1968" في "متحف ستيدلك" الهولندي، يعثر المرء على معرضين جانبيين، حملا عنوانين غامضين بسبب سعتهما بعض الشيء وهما: "تجليات التخطيط" و"الحاضر". في المعرض الاول توزع ثلاثون رساما مقيما في هولندا بين خمسة مفاهيم للرسم الخطي. كل مفهوم منها طرح معنى مختلفا للتخطيط في محاولة لاكتشاف السر الذي ينطوي عليه سحر الخط لذاته في الرسم. كان معرضا شديد التقشف والزهد في مادته على الرغم من ثرائه التعبيري لدى عدد من الفنانين. لقد ذهب الفنانون الثلاثون المشاركون في المعرض بعيدا في استنطاق الخط، في اعتباره عنصرا لا يقوم الرسم إلا من خلاله وفي صفته مصدرا رئيسا ووحيدا للحكاية التي تولد من الفراغ. اما المعرض الجانبي الآخر الذي حمل عنوانا مرنا وهو "الحاضر"، فقد ضم أعمالا لعدد من الفائزين بجائزة "فنسنت فان غوخ"، وهي الاعمال التي ضمها "متحف ستيدلك" الى مقتنياته. بعض تلك الاعمال يتصل بالرسم والنحت بشكل مباشر، واما البعض الآخر فانه ينتمي الى الفن الجديد، حيث الوسائط والمواد الجديدة تلعب دورا متشددا في الحاق الجمال بالفكرة التي يعبر عنها الصنيع الفني. وكما في المعرض الاول فقد كانت هناك مسافات واضحة بين فنان وآخر، لا على مستوى الاداء التقني وحسب، بل وعلى مستوى قوة التعبير. فهناك على سبيل المثال رسوم هي أشبه بتلك التي يعرضها رسامو يوم الأحد، اجتازت بيسر الشارع لتحتل مكانا مميزا في واحد من أهم متاحف العالم للفن الحديث. وبسبب الخيبة التي يسببها وجود تلك الرسوم، يشعر المرء أن عليه أن يعيد حساباته، فقد يكون ضحية لمكيدة استهلاكية من غير أن يدري. غير أن الاعمال المجاورة لتلك الاعمال الهابطة في امكانها أن تعيد الميزان الى صوابه.

في "الحاضر" عرض باول التامير (بولندي ولد في وارسو عام 1967 حيث يعمل الان ويعيش) عملا يعود الى عام 1991، وهو بعنوان "الراقصون": أحد عشر رجلا وامرأة من كبار السن يؤدون وهم عراة رقصة مستلهمة من لوحة الفرنسي هنري ماتيس الشهيرة (الراقصون). الجديد في ما فعله التامير، هي التقنية التي استعملها وعرض من خلالها عمله: الفيديو صانعا وصنيعا. خمس شاشات وضعت في دائرة مغلقة، الداخل اليها يمكنه أن يرى في كل شاشة من الشاشات الخمس جزءا من الرقصة الدائرية. بمعنى أن الانتقال من شاشة الى أخرى يتيح للمشاهد متابعة الراقصين في مختلف أحوالهم وتحولاتهم الجسدية والنفسية. الرقصة لا تنتهي بل ان هناك ما يوحي باستمرارها الى الابد. في وجوه الراقصين المتعبة وفي حركتهم المرتبكة وفي اصرارهم على الاستمرار في الرقص، رغم الجهد الواضح، ما يمزج المتعة بالواجب. وفي عيون الراقصين المشعة يظهر أثر لرقيب خفي. عمل استثنائي في قوة تعبيره من هذا النوع، يمكن ان يقابله عمل الارجنتينة آماليا بيسا التي استعملت تقنية الفيديو وسيلة لاستدراك تجليات الخط، حيث قامت بتصوير رجل يرسم قلبا على أرض جليدية. فكانت الشاشات تظهر ذلك الرجل وهو يتماهى مع نتاجه الحي في مختلف حالاته. الرجل الوحيد لدى آماليا يكاد يكون واحدا من اولئك الراقصين لدى التامير.

"ما بعد 1968" هو المعرض الرئيس، بما ينطوي عليه عنوانه من اثارة وريبة. غير أنه في حقيقته لم يكن إلا مصيدة محترفين. ذلك لانه اعتمد في معروضاته على ما هو متوفر لدى المتحف من وثائق فنية تشير برفق خجول الى تلك المرحلة. ولولا وجود فيلم للالماني يوزف بويز (1921ـ 1986) وفيلمين لجورج وغلبرت لكان المعرض استعراضا للمنسي والمهمل من النتاج الفني الذي زخرت به نهاية ستينات القرن الماضي من غير أن يكون له أثر يذكر. كانت تلك المرحلة فاتحة لتيار ما بعد الحداثة. وكنت أمني النفس بالاطلاع على شيء من اسرار تلك البداية التي صنعت فن عصرنا، غير أن المعرض كان مخيبا بصغر حجمه وهامشية الاعمال المختارة. أسماء لم نسمع بها ولم نقرأ عنها شيئا ولا صلة لها بوقائع صارت جزءاً من التاريخ. فهل كان منظمو المعرض يقصدون توجيه الانظار الى ما لم ير من الأعمال الفنية والى من كانوا في الظل من فناني تلك المرحلة؟ ربما. لكن هذا ما لم يفصح عنه دليل المعرض الذي لم يشر الى أسباب هذا العرض الصيفي بشكل يقيني، مكتفيا بالعنوان المثير. أعتقد أن المسؤولين في "متحف ستيدلك" استطاعوا بذكاء أن يستدركوا خطأ هذا المعرض من خلال تنظيم معرضين جانبيين، هما أكثر أهمية منه. ففي معرض "تجليات التخطيط" يربح المشاهد معلومات نادرة عن الخط لا يمكنه الحصول عليها من خلال اطلاعه على اللوحات الملونة، وفي معرض "الحاضر" يمكنه الاطلاع على تجارب تكمن قيمتها في حراكها الجمالي المستمر. ومع ذلك فان شبح السياحة يظل قائما في كل ما يمكن أن يلتقيه المرء صيفا.