الباب الروماني لمدينة القدس بات رمزاً للهوية الفلسطينية

حير المنقبين حتى كشفت خارطة مادبا سره الدفين

TT

انه ليس باباً ككل الأبواب التي نعرفها او سمعنا عنها. فمنه تبدأ مدينة القدس، وانطلاقاً منه ايضا تقاس المسافات بين المدينة المقدسة وباقي المدن. تغيرت اشياء كثيرة في المدينة حتى نسيت اسماءها، إلا هذا الباب الذي صمد ليس فقط باسمه وإنما بمعماره وطقوس من يعيشون حوله، حتى بات يعتبر رمزاً يختزل تاريخ شعب بأكمله. انه «باب العمود»، وما أدراك ما «باب العمود»...

يثير الباب الرئيس للبلدة القديمة في القدس الاهتمام بعمارته وموقعه، وهو المعروف محليا باسم «باب العمود»، ويطلق عليه الغربيون اسم «باب دمشق» لأنه متجه نحو دمشق. وكانت ثمة طريق تربط القدس بدمشق، توجد دلائل على اهتمام حكام بني أمية بها، حيث عثر على شواهد تحدد المسافة بين المدينتين، تحمل اسم الخليفة عبد الملك بن مروان، وشواهد غيرها وجدت طريقها إلى متاحف العالم الكبرى، مثل اللوفر في باريس. فقد عثر المنقبون عام 1884 على بلاطة في (خان الحثرورة) وهو حصن خرب الآن، بين القدس ـ أريحا كتب عليها «.. وسلم أمر بعمارة هذا الطريق وصفه بالأميال عبد الله عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين رحمه الله، من دمشق إلى هذا الميل تسعة ومائة ميل..» وهي موجودة الآن في متحف اسطنبول. وعثر عام 1896 بالقرب من دير القلط، القريب من أريحا على بلاطة رخامية اخرى نقش عليها «أمر بعمارة هذا الطريق وصفه بالأميال عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين رحمه الله عليه من دمشق إلى هذا الميل سبعة أميال ومائة ميل..».

ويعتبر هذا الباب المشرع على شمال المدينة، أهم أبواب السور الذي يحيط بها، وبني مرارا وتكرارا، وآخر بناء له كان على يد السلطان العثماني سليمان القانوني عام 1537، كما يشير النقش الموجود على الباب.

وينظر إلى الباب والساحة التي أمامه، والفسحات الخضراء على جوانبه، كشيء يشبه «وسط البلد» في المدن الأخرى. وتمارس الفلاحات الفلسطينيات، بزيهن التقليدي، أمام الباب تقليدا يعود لزمن بعيد، حيث يجلسن لبيع منتوجاتهن من الخضار والفواكه التي تزرع بالطرق التقليدية، بدون أسمدة كيماوية، ويتعرضن الآن لهجمات شرطة بلدية القدس الإسرائيلية فتحدث مطاردات يومية أمام هذا الباب بين الفلاحات المتمسكات بإرث جداتهن وشرطة الاحتلال.

واللافت في أمر هذا الباب الذي يشبه قلعة أمنية، أن الفلسطينيين، ظلوا يطلقون عليه، طوال قرون اسم «باب العمود» والسبب يعود للإمبراطور الروماني هيدريانوس الذي أعاد بناء مدينة القدس، بعد هدمها من قبل سلفه تيطس، واطلق عليها اسم (ايليا كابتوليا) عام 1935، وهي التي عرفها العرب والمسلمون باسم (ايلياء).

وحظر هيدريانوس، الذي بنى مدينته الجديدة بمناسبة مرور 21 عاما لاعتلائه سدة الحكم، على اليهود ليس فقط الدخول الى المدينة، بل حتى النظر إليها من بعيد. ووضع داخل الباب الرئيس للمدينة الجديدة عمودا من الغرانيت الأسود ارتفاعه 14 مترا، يحمل تمثالا لهيدريانوس، واصبح العمود معلما بارزا للمدينة، نقشت عليه المسافات بين القدس والمدن الأخرى.

ويوجد ما يشير إلى ان العرب شقوا أو رمموا الطرق التي كانت تصل القدس بالمدن الأخرى، وهذا ما يتضح مثلا من حجر ابيض موجود الآن في متحف اللوفر في باريس، عثر عليه المنقبون عام 1893 على طريق الرملة ونقش عليه «أمر بعمارة هذا الطريق وصفه بالأميال عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين رحمة الله عليه، من ايليا إلى هذا الميل ثمانية أميال».

وفي عام 1902 عثر على حجر كلسي ابيض بالقرب من كنيسة أبو غوش على طريق الرملة كتب عليه «أمر بعمارة هذا الطريق وصفه بالأميال عبد الملك أمير المؤمنين رحمه الله عليه، من ايليا إلى هذا الميل سبعة أميال».

ولا يعرف ماذا كان يطلق الرومان على هذا الباب، ولكن الذاكرة الجمعية الفلسطينية سمته (باب العمود)، ولم تؤثر في هذه التسمية إلى اليوم، الفتوحات والغزوات العديدة التي تعرضت لها فلسطين، والأسماء الكثيرة التي أطلقت عليه وآخرها التسمية الإسرائيلية له وهي (باب نابلس) لانه متجه نحو مدينة نابلس.

والطريف أن الفلسطينيين الذين حافظوا على اسم (باب العمود)، وكأنه رمز للتمسك بهوية متحولة ومتطورة ومستوعبة، استهدفت بالغزوات والفتوحات، وانهر الدماء التي سالت على شوارع وأرصفة ووديان المدينة المقدسة، لم يهتموا بسبب التسمية أو لماذا يطلقون على الباب اسم (باب العمود)، ولو وقف باحث بالقرب من الباب وسأل عينة عشوائية عن سبب التسمية، لحصل على إجابات صحيحة نادرة، وعلى الأغلب فلن يحصل على شيء.

وبقي هذا الاسم رمزا لمجد المدينة الرومانية التي بناها هيدريانوس، الذي وضع مخططا جديدا للقدس، استبعد فيه وضعها السابق، وما زال هذا التخطيط هو الذي يظهر المدينة كما نعرفها الآن.

ويمكن الإشارة إلى أن شبكة شوارع القدس القديمة الحالية، تعود للعهد الروماني، التي صممت وفقا للمباني العامة التي أنشئت آنذاك مثل معبد افروديت آلهة الجمال، وهي موقع كنيسة القيامة اليوم. وكان من أهم هذه الشوارع هو شارع الكاردو الروماني، الشارع الرئيسي لايليا كابتوليا. وتم اكتشاف هذا الشارع المتميز بأعمدته، على يد الإسرائيليين، ورمم الاحتلال الإسرائيلي هذا الشارع، ووضع بين الأعمدة القديمة المهيبة مجسما للشمعدان اليهودي، عنوان لا يخلو من دلالة مقحمة، للانطلاق في هذا الشارع، ورممت المخازن الصغيرة الجميلة، التي كانت تستخدم أيام الرومان، ويقف فيها الآن تجار إسرائيليون يبيعون التحف واللوحات الفنية، وقطع الآثار وغيرها.

وبقي باب العمود يحير بعض الاثاريين والبحاثة والرحالة، حتى تم اكتشاف خارطة مادبا الفسيفسائية في العقد الثامن من القرن التاسع عشر، في المدينة الأردنية التي تقع بالقرب من العاصمة الأردنية عمان.

والخارطة عبارة عن أرضية فسيفسائية لكنيسة الروم الأرثوذكس في مدينة مادبا، تضم مواقع رئيسية في فلسطين والأردن ومصر، ومن بينها خارطة لمدينة القدس، التي تبدو في مركز الأرض المقدسة كما يقدمها واضعو الخارطة المهمة.

وتعود هذه الخارطة للقرن السادس الميلادي، وفيها يمكن رؤية شوارع مدينة القدس التي ما زالت حتى الآن نابضة بالناس وبالحجيج والشوارع المسقوفة والأقواس والشبابيك.

ووفقا للخارطة، فإنها تبدأ من باب العمود الذي رمزت إليه برسم لعمود هيدريانوس، مما جعل المختصين يتأكدون من وجود هذا العمود والباب الذي يحمل اسمه، ليس فقط في الذاكرة الجمعية الفلسطينية التي حمته من الضياع، ولكن وجوده بالفعل على ارض الواقع.

ولكن أين كان هذا العمود، وأين الباب الذي بناه هيدريانوس، ليكون مدخلا للمدينة؟

اهتم علماء الآثار البريطانيون بالأمر، بعد أن تبين أن باب العمود القديم والتمثال الذي يقف على العمود، وفقا لخارطة مادبا يقع في نفس المكان الذي يوجد فيه الباب الحالي.

ولم تفض الحفريات التي نفذها هؤلاء عن نتيجة كبيرة، ولم تكتمل بسبب التطورات السياسية في فلسطين، وواصل إسرائيليون البحث، حتى عثروا على باب العمود القديم تحت الباب الحالي، وربما المفاجأة كانت أنه اصغر بكثير واقل فخامة من الباب العثماني الضخم الحالي.

وتم اكتشاف برج الحراسة الروماني، ومعصرة زيتون حجرية مع الحجر الضخم المستخدم في هرس الزيتون، وتوالت الاكتشافات؛ ومن بينها أنقاض كنيسة القديس ابراهام، وبرج صليبي من القرن الثاني عشر، وصهريج ماء من العصر العربي في القرن الثامن، وغيرها من مكتشفات، تتعلق بمجد القدس في عصور مختلفة، ليس من بينها ما يتعلق بما كان يبحث عنه الآثاريون الإسرائيليون ويطلقون عليه التاريخ اليهودي للقدس.

واهتم الإسرائيليون كثيرا بإبراز ما كشفوا عنه، والذي نظر له بأهمية من قبل الآثاريين في العالم، وصمموا نموذجا لباب العمود الروماني بألوانه الأصلية القديمة، على فيلم كان يعرض في نفس المكان، وكان يمكن للسائحين أن يصعدوا من الباب القديم المكتشف إلى سور القدس للقيام بجولة على الأقدام فوق السور، ولكن الاهتمام الإسرائيلي فتر بالاكتشاف ثم انعدم، وتم الان إغلاق منطقة الباب القديم، وعدم السماح لاحد بالدخول دون تفسير مقنع.

واصبح الباب المكتشف مهملا، وفي كثير من الأحيان تتجمع بجانبه النفايات، وكأنه توجد نزعة انتقامية، تكونت لدى الجهات المحتلة الآن للقدس، بعد أن تبين أن الاحتفاء بالباب لدى اكتشافه لم يكن إلا سحابة صيف عابرة.

وخارج باب العمود ينتشر أفراد حرس الحدود والشرطة الإسرائيلية، يوقفون الشبان للتحقيق أو الاعتقال، ويطاردون الفلاحات. ومنذ سنوات طويلة، تعود إلى ما قبل الاحتلال، ما زال شخص واحد فقط صامدا في المكان، هو إبراهيم شبانة، الذي يوصف أحيانا بأنه صعلوك القدس القديمة وحارس باب العمود.

وشبانة صاحب بسطة لبيع الكتب والمجلات أمام باب العمود، لم تنجح محاولات الشرطة الإسرائيلية العديدة، في نقله من مكانه، وعلى بسطته هذه يستقبل الكتاب والصحافيين ويضيفهم القهوة مستعيدا زمنا اجمل كان للقدس.

ويعتبر شبانة، الذي احترف الصحافة الفنية في ستينات القرن الماضي، وكتب للصحف الفلسطينية الصادرة في القدس، من الشخصيات الظريفة، التي كانت تحمل طموحا يوما ما. ومن على بسطته ألف شبانة عدة كتب في السابق خصوصا عن المطرب عبد الحليم حافظ، الذي كان تجمعه به مراسلات عديدة. ولدى وفاة عبد الحليم، فتح شبانة بيت عزاء له في القدس. ولم يكن شبانة يكتفي ببيع الصحف والكتب والمجلات، ولكنه كان يعيرها لمن لا يملك ثمنها، مجانا، خصوصا للواتي والذين كان يستشعر لديهم موهبة أدبية وصحافية مبشرة.

والآن يبدو شبانة، وكأنه يواجه شرطة الاحتلال وحده، مدافعا عن باب العمود، وقد أثقلته الأعوام، ومن مكانه يراقب ممارسات الجنود وهم يوقفون الشبان. ويقول شبانة لـ«الشرق الأوسط» بأسى «من ينجح من هؤلاء في الدخول من باب العمود إلى المدينة تترصده كاميرات التصوير المبثوثة في كل زاوية، فيشعر بانتهاك خصوصيته». ثم يطلق ضحكة يريد أن يسمعها لجنود الاحتلال الذين يقفون على بعد أمتار.