التعصب أنواع.. ويصيب المجتمعات أيضا

اعتبره علماء الاجتماع شكلاً من أشكال العصاب

«سيكولوجية العلاقات بين الجماعات» ـ المؤلف: د.أحمد زايد ـ الناشر: المجلس الأعلى للثقافة والآداب والفنون في الكويت، سلسلة «عالم المعرفة»
TT

يتميز المتسلطون والمتعصبون بعدم الاستقرار الوجداني، لشعورهم بعدم الأمان والقلق والتوتر الناتج عما يتعرضون له من إحباط مما يؤدي بهم إلى البحث عن كبش فداء ليحملوه مسؤولية فشلهم ويوجهوا له عدوانهم.

تبدو الحرائق السياسية الهائلة هذه الأيام في العالم عموما وفي الشرق خصوصا، خارجة عن التوقعات نتيجة انفلات مشاعر تحتاج إلى تأمل وتشخيص، فالعالم الذي أنهى التاريخ كما يقول فوكوياما، كان لا بد له من أن يدفن الصراعات والنزاعات العنيفة، ويدخل التعصب العرقي والديني والمذهبي المتاحف، لتبدأ مرحلة النزاعات الاقتصادية والتجارية، لكن هذا لم يحصل.

يحاول د. أحمد زايد أن يتصدى لعلمية تحليل هذه الظاهرة وتشريحها عبر كتابه «سيكولوجية العلاقات بين الجماعات»، علّ معرفة تفاصيلها تقود إلى تعامل ناجع معها. ويبدو توقيت الكتاب دقيقا، فالمنطقة العربية تغلي بعشرات الصراعات التي هي من مخلفات التاريخ فيما انتقل العالم إلى «نزاعات المستقبل». ولا شك أن مقاربة هذه الحالة خطوة حقيقية في الاتجاه الصحيح من قبل النخب العربية التي جرف بعضها إلى دوامات الكراهية التي تحركها مشاعر العامة وأحيانا الغوغاء. 

في فصل «التعصب الاجتماعي»، يشير الكتاب إلى آراء العديد من علماء الاجتماع الذين يعتبرون التعصب والتسلط شكلين من أشكال العصاب. فالمتسلطون والمتعصبون يتميزون بعدم الاستقرار الوجداني لشعورهم بعدم الأمان والقلق والتوتر الناتج عما يتعرضون له من إحباط، مما يؤدي بهم إلى البحث عن كبش فداء ليحملوه مسؤولية فشلهم ويوجهوا له عدوانهم، بل إن بعض هؤلاء الباحثين أكد على أن هناك علاقة بين التعصب والمرض العقلي، خاصة البارانويا، حيث ان البناء اللاشعوري للمتعصب يشبه البناء الشعوري للبارانوي.

أما المؤرخ الأمريكي الشهير ريتشارد هوفستارد فيؤكد أن الأفراد والجماعات المتعصبة، يظهر عليهم نمط الحياة البارانويي.

ويلفت هذا العالم النظر إلى أن معدلات المرض العقلي تنتشر في الأماكن التي يشيع بين أفرادها التعصب العنصري، كما كان الحال في جنوب إفريقيا. ولكن العكس غير صحيح، فليس كل مريض عقلي متعصباً. الباحثة ماري جودا خلصت إلى استنتاج هو أن المتعصب يعاني نقص في الصحة العقلية، ويؤيدها كثير  من الباحثين أمثال كريتش وكراتشفيلد في أن التعصب لا يوجد في الغالب إلا بين الشخصيات التي تعاني من السادية ومشاعر العدوان والإحباط. وهذه الشخصيات لا تكون قادرة على فهم الآخرين، وتعيش عالما مملوءا بالشكوك الموجهة نحو أعضاء جماعة أخرى وهذه الشكوك تجد متنفسا في إظهار السلوك المرضي. ويختلف العلماء في تعريف التعصب فالبعض يصفه بنقيض الحرية والتسامح وهو على العموم، وفق التعريف الانكليزي، حكم مسبق من دون أي سند على موضوع وقبل فحص الحقائق المتاحة عنه. وينظر إليه علميا على أنه اتجاه سلبي غير منطقي وغير عادل تجاه جماعة لاننتمي إليها.

كيف ينشأ التعصب؟ التعصب يتكون عند الفرد من محصلة تجارب وخبرات وتفاعلات اجتماعية تزوده بها عملية التنشئة الاجتماعية ويمر بثلاث مراحل. أولاً، مرحلة التمييز ويقصد بها قدرة الطفل على التمييز بين أفراد الجماعات المختلفة نتيجة التعزيز التفاضلي أثناء عملية التلقي من المحيط القريب. ثانياً، مرحلة التوحد، أي انضمام الطفل إلى الجماعة التي ينتمي إليها وتوحده معها. ثالثاً، مرحلة التقويم وهنا تظهر الاستجابات التي قد تشير إلى نوع من التعالي أو إلى نوع من الشعور بالنقص تبعا للحكم الذي يشعر الطفل بأن المجتمع قد أصدره على الجماعة التي ينتمي إليها. وقد أثبتت التجارب أن الأطفال يتعلمون الأفكار النمطية والعنصرية والعرقية في عمر صغير جدا، ودلت أبحاث في الولايات المتحدة على أن الدرجة العالية من الوعي وما يرتبط بها من دلالات اجتماعية تظهر بعد سن الرابعة حيث يمر وعي الطفل أثناء تبني الاتجاهات العنصرية بثلاث مراحل هي: ظهور الوعي العرقي بعمر ثلاث سنوات، وهنا يعي الطفل هويته العرقية والهويات العرقية الأخرى. وبين عمر 4 و8 سنوات يتعلم الطفل العديد من المصطلحات والمفاهيم التي يستخدمها في وصف أعضاء الجماعات العرقية الأخرى لكن الطفل لا يقوم هنا بالتعميم 3. أما في سن 8 سنوات وبعدها فينمي الطفل اتجاها عرقيا تفضيليا باتجاه نماذج محددة وهنا تمكن رؤية صورة كاملة من التنميط والعدوان تميز سلوكه ويكتسب الطفل الاتجاهات السلبية ضد جماعات اجتماعية معينة، لأنه عرضة دائما لمثل هذه الاتجاهات سواء من الوالدين أو الأصدقاء أو لأنه يتلقى مكافأة لتبنيه هذه الاتجاهات.

ويرى علماء المجتمع أن المجتمعات تطلق السلوك العنصري المتعصب إذا واجهت ظروفا معينة ومنها: تنوع أعراق المجتمع وأديانه، وخوف الطبقات النافذة من انتقال أفراد من طبقات أدنى إلى مراكز اجتماعية منافسة، وسرعة حدوث تغيرات اجتماعية تخل بنظم ومؤسسات اجتماعية، والجهل وعدم الاتصال مع الجماعات الأخرى، وحجم الأقلية موضع التعصب، والمنافسة في ميادين العمل، وأخيراً الأفكار النمطية التي تؤدي إلى تشوهات في الإدراك  والاتجاهات.

وللتعصب صور عديدة كالتعصب القومي والعرقي  والديني، والأخير أصبح أكثر أشكال التعصب حاليا مدعاة لاهتمام الباحثي. والواقع أن نتيجة البحوث في هذا الشأن لم توضح علاقة صريحة بين الدين والتعصب، بل إن دراسات مبكرة وجدت تضاربا بين الدين والتعصب.

ومن خصائص التعصب أيضاً النرجسية أو عشق الذات.  والشخصية المتعصبة تذعن لاتجاه جماعتها وخاصة السلبية التي تنفس من خلالها عن المكبوت من مشاعر الكراهية والإحباط، وعقد التفوق كما كان الحال في روديسيا سابقا وفي فلسطين حاليا. ولكن السؤال الذي يحير العلماء الاجتماعيين هو الخصائص المسؤولة عن تفسير التعصب رغم الافتراض، أنه رد فعل نفسي على الإرغام للتخلي عن الأنانية  يؤدي إلى بعض المكاسب مثل: تبرير العدوانية المرضية والسلوك غير المقبول اجتماعيا وخدمة تطلعات ثقافية غير مقبولة، وأخيرا مساعدة الفرد على الثراء وتقديم إيضاح مقبول عن فقر بعض الناس. ومن وظائف التعصب ان المتعصب يجعل له احتياطا اجتماعيا في المتعصب ضده ينسب إليه كل المفاسد ويحمله كل أسباب المصائب.

ولكن ظهرت نظريات لتفسير التعصب غير علم نفس الأفراد مثل نظريات الجماعات السيكولوجية (نظريتا الصراع الواقعي والحرمان النسبي التي تقول، إن المنافسة بين الجماعات لتحقيق مصادر قيمية معينة تنتهي إلى خلق التعصب كما حدث في الولايات المتحدة عندما تحطمت القيود التي تجعل المنافسة حرة في النواحي الاقتصادية  بين 1877 و1914 مما زاد الحوادث العرقية).

 وتبدو تجربة «كهف اللصوص» الشهيرة مؤيدة لهذه النظرية، ففي هذه التجربة قسم الباحثون أطفال معسكر إلى مجموعتين منفصلتين تمارسان نشاطاتهما مستقلتين إلى أن تعلق كل طفل بمجموعته التي اختارت علمها وراياتها الخاصة بها. وفي المرحلة التالية أدخلت المجموعتان في حالة منافسة جادة انتهت إلى إطلاق حالة صراع وعداء شديدين وأفكار نمطية متبادلة. وملخص القول إن المنافسة على المصادر النادرة خاصة الاقتصادية وعدم عدالة التوزيع أفضت إلى ميول الصراع. لكن خلل هذه النظرية يكمن في أن فترات الازدهار الاقتصادي لا تنهي التعصب ولا تخفيه كما هو الحال في الولايات المتحدة، مما ترك المجال لقبول نظرية الحرمان النسبي المرتبطة بنظرية «الاحباط ـ العدوان».

أما كيف يقاوم التعصب فهو أمر معقد، لأن للمتعصب أفكارا ومعتقدات صارت جزءا متكاملا من بناء شخصيته تصعب إزاحته ومع هذا فقد اقترحت عدة أساليب لمواجهة التعصب منها: الاتصال المباشر بين الجماعات، مما يخفف ويزرع في صحة الأفكار النمطية، والبرامج التربوية لنشر قيم التسامح والمودة. وقد وجد أن زيادة مستوى التعليم تنقص مستويات التعصب ففي الجامعات يقل مستوى التعصب لارتقاء النشاط الفكري وزيادة الاحتكاك بين الاختلافات الطبقية والعرقية، ومن الوسائل الناجعة في لجم التعصب المشاركة في صنع القرار والعمل على خلق قيم إيجابية واضحة والتزود بالمعلومات، عن مصادر الأفكار النمطية، وأخيرا العلاج النفسي للمتعصبين.