«روبنسون كروزو» كاملة بالعربية

بعد أكثر من قرنين من كتابتها

TT

عرف روبنسون كروزو في ثقافتنا بأكثر من وجه: الأول أدبي، حيث رددت الثقافة العربية الكلام النقدي الغربي القائل بأن هذه الرواية تعتبر إلى جانب بضعة أعمال روائية للكاتب نفسه، ولغيره من الكتاب في الغرب أيضا، من الأعمال التأسيسية في حقل الرواية، والثاني ثقافي زعم فيه عدد من النقاد العرب أن دانييل ديفو تأثر بالعمل الفلسفي العربي الشهير المسمى "حي بن يقظان" للفيلسوف العربي ابن طفيل

على الرغم من ان اسم هذه الشخصية الروائية التي ابتكرها الكاتب الانجليزي دانييل ديفو في القرن الثامن عشر معروف ومتداول في الثقافة العربية منذ أول اتصال لها بالثقافة الغربية، فإن القارئ العربي لم يطلع على الرواية. ولم تترجم من قبل كاملة، إلى اللغة العربية، إلا هذه السنة. وقد عرف روبنسون كروزو في ثقافتنا بأكثر من وجه: الأول أدبي، حيث رددت الثقافة العربية الكلام النقدي الغربي القائل بأن هذه الرواية تعتبر إلى جانب بضعة أعمال روائية للكاتب نفسه، ولغيره من الكتاب في الغرب أيضا، من الأعمال التأسيسية في حقل الرواية، والثاني ثقافي زعم فيه عدد من النقاد العرب ان دانييل ديفو تأثر بالعمل الفلسفي العربي الشهير المسمى "حي بن يقظان" للفيلسوف العربي "ابن طفيل". وهو عمل ترجم إلى اللغات الأوروبية منذ القرن السادس عشر، وظهر تأثيره في عدد من الأعمال القصصية و الروائية الغربية. ولعل السبب الذي دفع بعض النقاد العرب إلى إدعاء مثل هذا التأثير، هو التشابه الظاهري بين قصة روبنسون كروزو وحي بن يقظان، فكلتا الشخصيتين تعيشان وحيدتين في جزيرة معزولة وبعيدة عن المجتمع البشري، وكلتاهما تعملان على اكتساب أسلوب للعيش، واستمرار الحياة، في وحدتهما، إلى جانب اكتسابهما المعارف والخبرات الحياتية الكفيلة بتأكيد وجودهما كإنسانين. غير أن الدكتور محمد غنيمي هلال ينفي ذلك في كتاب"الأدب المقارن" ويقول: لا نعتقد أن لقصة حي بن يقظان تأثيرا في قصة روبنسون كروزو، ويرى أن الشبه ظاهري ضئيل بين قصة(روبنسون) و(حي بن يقظان). أما الوجه الثالث الذي قدم فيه روبنسون كروزو لنا، فقد جاء من طريق غير طريق الأدب، وهو طريق السياسة، فقد نظر إليه في أدبيات السياسة على أنه السلف الروائي للسلوك الاستعماري للغرب بأسره، وذلك من خلال استعماره للجزيرة التي لجأ إليها بعد غرق سفينته في البحر. على أن رحلته الأصلية على ظهر تلك السفينة إنما كانت بغرض تجارة الرقيق أيضا. أضف إلى ذلك أنه استعبد في الجزيرة واحدا من سكانها الأصليين، وسماه " فرايدي" ورفض أن يعتقه فيما بعد ألا إذا أعلن مسيحيته. وهناك من فسر شخصية روبنسون كروزو تفسيرا اقتصاديا، ورأى أنه مثل تطلعات البرجوازي الصاعد، بكل ما تتضمنه من رغبة في السيطرة على وسائل الإنتاج، وأدواتها، وفي الفردانية، والتوثيق المالي، وخوض عمليات البيع والشراء بنجاح، والجشع.

اللافت في سيرة دانييل ديفو انه بدأ الكتابة الروائية في سن متأخرة جدا، ففي الستين من عمره، قرر أن يكرس حياته لتأليف الكتب، فكانت روبنسون كروزو باكورة هذه الأعمال، لكن مصير هذه الرواية في زمانه كان متفاوتا، فالنقاد الذين لم يحبوها أجمعوا على أن كاتبها تافه وعديم الثقافة وسيئ السمعة. ونظر إليه النقاد الفكتوريون فيما بعد على أنه سلف وقح للرواية عاجز عن التمييز بين الحقيقة والخيال، ويغيب الهدف الجدي لديه ليحل مكانه الكذب، واختيار الأوغاد كأبطال للرواية.

غير أن القراء في زمانه قد استقبلوا الرواية بكثير من الاحتفال، فبيعت بشكل جيد، وطبع منها في العام الأول أربع طبعات. فشجع هذا البيع السريع للرواية على القرصنة، وأعيد تأليف الرواية من قبل عديدين، خاصة ان الكتاب ذو صبغة عاطفية، والطبعات الخاصة بالأطفال، مستفيدين من العناصر الأكثر تشويقا في الرواية، وهي المغامرات، والسفر في البحر، والتنقل في الجزر المجهولة، والغريبة، أو الغرائبية.

ظن كثير من النقاد أن روبنسون كروزو هو دانييل ديفو نفسه، ولكن، وعلى الرغم من أوجه الشبه الكثيرة بين الكاتب والشخصية، فإنه صار من المعروف أن الكاتب استقى روايته من قصة بحار حقيقي، يدعى الكسندر سلكرك، كان على متن سفينة قراصنة مولتها الحكومة البريطانية، وأبحرت بهدف إبعاد السفن البرتغالية، والاسبانية، ولقد قام القبطان بالرد على بعض التذمر في السفينة بقسوة بالغة، استدعت تدخلا من قبل نائبه سلكرك، وفي مرة أخرى عارض سلكرك إبحار السفينة، بسبب عدم صلاحيتها لذلك، وانتهت المجادلة بأن ترك سلكرك على الشاطئ مع قطته في جزيرة خالية من البشر، وبعد أربع سنوات أنقذته حملة أخرى، وعادت به إلى موطنه، حيث دون رحلته، ومغامراته، القبطان الذي أنقذه. ويؤكد النقاد أن دانييل ديفو لم يأخذ سوى تلك الحادثة، من القصة الحقيقة للبحار سلكرك.

صور دانييل ديفو شخصية روبنسون كروزو تصويرا رومانسيا، واستطاع بفضل التقنيات الجديدة التي أدخلها على جسد الحكاية، أن يخلق صراعا داخل شخصية بطله مركزه هو الاختيار بين الوصايا الدينية، والدوافع الإنسانية، وهذا ما يمكن أن نسميه أحد أشكال التوتر الدرامي الذي هو أصل أي فعل روائي. ومن هنا اعتبر النقاد أن روبنسون كروزو واحد من النماذج الأصلية للرواية الحديثة، بل إن الرواية أصبحت بفضل ديفو، فنا شعبيا رفيعا، وقد أفرد لها "إيان واط" في كتابه الشهير" نشوء الرواية" فصلا كاملا، أشار فيه إلى أن تراث الرواية قد بدأ بهذا العمل، وأجهز به على علاقات النظام الاجتماعي التقليدي، واستقطب الانتباه إلى سنوح الفرصة لإقامة شبكة من العلاقات الشخصية وفق نمط جديد واع. كما أن هذه الرواية قد أسست إلى جانب غيرها من الراويات العظيمة واحدة من الحبكات الأساسية للأساطير الغربية، أهمها لهاث البطل خلف إحدى الشهوات التي يتميز بها الإنسان الغربي، وما عبر عنه روبنسون كروزو هو الجسارة على الاندفاع قدما اعتمادا على النفس،والتمركز الشديد على الذات، مما يحكم عليه بالعزلة.

ومن الملاحظ أنه على الرغم من الشهرة الواسعة التي حظيت بها هذه الرواية، والشخصية التي تمثلها، فإنها لم تستقبل في الثقافة العربية الاستقبال اللائق، كما قد نفترض، ولم تشر الصحافة الثقافية إلى صدورها، ولم تعن أي مراجعة أدبية أو صحافية بالتأكيد على أهميتها، وهكذا فقد مر صدورها مترجمة هذه العام بالكامل لأول مرة إلى العربية، (صدرت عن وزارة الثقافة السورية في سلسلة آفاق ثقافية) من دون أي اهتمام.