هل العلمانية الأميركية في خطر؟

مرشحو الانتخابات الرئاسية يتحدثون عن الدين وعلمانيون يحذرون

مرشح الحزب الجمهوري لرئاسة الجمهورية السناتور سام براونباك في زيارة لمدرسة مسيحية
TT

ظاهرة جديدة في أميركا صارت تبدو واضحة، في خطابات بعض المرشحين لرئاسة الجمهورية. فهؤلاء، لا يحاولون التقرب من رجال الدين فحسب، بل يحاولون دغدغة المشاعر الدينية للناخبين الأميركيين. وهو ما لم يكن شائعاً بين السياسيين، او محبباً من الناخبين. المثقفون العلمانيون غاضبون، ويحذرون من مغبة هذا السلوك في مجتمع يعتبر نفسه علمانياً بقوة. فهل تخسر أميركا علمانيتها تدريجياً أم أنها مجرد غيمة صيف عابرة؟

تحدث الشهر الماضي، السناتور سام براونباك، مرشح من الحزب الجمهوري لرئاسة الجمهورية، في ندوة انتخابية، عن اهمية الدين في الحياة، وقال: لولا المسيح، لما نالت الام تريزا (القسيسة الألبانية التي ساعدت بؤساء كلكتا) جائزة نوبل للسلام". وقال: ان نشيدها الديني المفضل كان "كلنا للمسيح"، وانشده بصوت عال.

اغضب ذلك اندرو ساليفان، مثقف مشهور يكتب في مجلة "اتلانتيك" الشهرية المحترمة، وكتب: "هذا استغلال سفيه للدين، رغم انه قانوني". واضاف: "يصور هذا شيئين: اولا، يفعل السياسي اي شيء ليكسب صوتا واحدا. ثانيا، يفعل رجل الدين اي شيء ليكسب سياسيا واحدا". ورد عليه رجل دين قائلاً: "يعتقد ساليفان، المثقف المتعالي، ان عامة الناس لا يقدرون على فهم امور الدين، ولهذا، لا بد ان يتحاشوا الحديث العام عنه. ويعتقد ان الدين مثل كتاب يضعه في ركن خاص، ويعود اليه متى يريد، وينسى ان الدين جزء من الحياة".

واشترك في النقاش السناتور براونباك نفسه، وانتقد ساليفان لأنه قال ان "تطرف بعض رجال الدين ربما سيكون سببا في حرب اميركية دينية".

ليس السناتور بروانباك المرشح الوحيد لرئاسة الجمهورية الذي يتحدث عن الدين في حملته الانتخابية، ولا ساليفان المثقف العلماني الوحيد الذي يعترض. الحديث عن الدين بهذه الصورة شيء جديد، ليس فقط في السياسة الاميركية، ولكن، ايضا، في الثقافة الاميركية. وهي ثقافة علمانية قوية وراسخة، عمرها اكثر من مائتي سنة، تحرض على فصل الدين عن السياسة.

العلمانية فلسفة اخلاقية لا تعتمد على الدين، وتؤمن بأن التطورات والاختراعات والابداعات الفنية والأدبية والعلمية لا تعتمد على الدين ايضا. ابو الفلسفة العلمانية هو جورج هوليووك، فيلسوف بريطاني قال سنة 1846: "نريد فكرة تختبر في هذه الدنيا، ونريد التأكد مما نقول قبل ان نموت، لأننا لسنا متأكدين مما سيحدث بعد الموت". وأضاف، في وقت لاحق، في كتاب "مبادئ العلمانية" :"يقدر الانسان ان يتطور جسمانيا وأخلاقيا وفكريا، من دون ان تكون له صلة بالكتاب المقدس (الانجيل والتوراة) ويقدر على ذلك الملحدون بصورة خاصة. هذه الحياة فلسفة منطقية تبرهن على نفسها فينا وفيما حولنا، والمنطق الطبيعي عقلاني نراه أمامنا ونحكم عليه. والعلمانية هي فلسفة الطبيعة التي حولنا".

لم يقل هوليووك ان العلمانية ضد الدين، لكنه قال ان العلمانية لا تحتاج الى دين، وليس فيها كيان يعبد او يقدس، ويقدر اي شخص ان ينتقدها أو يعارضها أو يغيرها أو يلغيها، من دون خوف، او تهديد بالقتل، أو قتل.

توفي ابو الفلسفة العقلانية سنة 1906، وخلفه جوزيف ماكيب، تلميذه البريطاني أيضا، حتى توفي سنة 1955. كتب التلميذ كتبا كثيرة، اشهرها "حياة وخطابات هوليووك" عن أستاذه، و"من روما الى العقلانية" عن تاريخ حياته، وذلك لأنه ولد في عائلة كاثوليكية متشددة، وصار قسيسا، وعاش في دير. وهناك كتاب "12 سنة في دير"، وهو عن خروجه من الدير، وتمرده على الدين، وتحوله إلى واحد من قادة الفلسفة العلمانية في التاريخ.

سجن ماكيب ستة شهور (سنة 1941) بتهمة الكفر، بعد ان قال في محاضرة ان الانسان يقدر ان يولد، ويعيش، ويموت، من دون ان يعرف دينا مكتوبا. واصدر، بعد السجن، مجلة "ريسونر" (المنطقي). وكاد يرسل الى السجن مرة اخرى لأنه اصدر الجريدة من دون رخصة، ومن دون ان يدفع ضرائب على دخلها. 

تجرأ ماكيب، واعلن: "أنا ملحد". ورفع شعار "اغنوستيك"، وهي كلمة يونانية قديمة معناها "من دون معرفة الحقيقة". اي انه لا يوجد انسان يعرف الحقيقة، ويعرف الله، ويعرف الدين، ويعرف ما بعد الحياة.

وفرق ماكيب بين "اغنوستيزم"(من دون معرفة)، و"ايثيزم" (الحاد). وقال ان الثانية معناها عدم الايمان بإله الكتب السماوية، ولكن الايمان بغيره (اي ان الكتب السماوية لا تملك الحقيقة). مثلما خلف ماكيب استاذه هوليووك، خلف بيل كوك استاذه ماكيب. وكتب كوك كتاب "متمرد حتى النفس الاخير: ماكيب والعقلانية"، ثم كتاب "تجمع الكفار: اتحاد الصحافيين العقلانيين"، ثم كتاب: "قاموس الالحاد والشك"، والآن هو استاذ في جامعة مانشستر. جاء الفلاسفة العلمانيون الاميركيون متأخرين عن زملائهم البريطانيين باكثر من مائة سنة. لكن، سبق السياسيون الاميركيون العلمانيون زملاءهم البريطانيين بأكثر من مائتي سنة. شرحت ذلك، قبل سنتين، واحدة من قادة الفكر العلماني في أميركا هي سوزان جاكوبي في كتاب: "مفكرون احرار: تاريخ العلمانية الأميركية". وقالت ان النقاش الرئيسي عن العلمانية في أميركا لم يكن في الجامعات والمجلات الفلسفية، ولم يكن عبارات معقدة ونظريات متداخلة، مثلما في بريطانيا، لكنه كان نقاشا سياسيا، اشترك فيه كل طوائف الشعب الاميركي، خاصة نقاش كتابة الدستور سنة 1781 (بعد استقلال اميركا بخمس سنوات).

نظر كاتبو الدستور الاميركي الى الموضوع كجزء من حرية الضمير، لا حرية الدين. وذلك لأنهم كانوا يعرفون ان بعضهم لا يهتم بالدين، او لا يؤمن بالله، او بينهم مسيحي موحد (يؤمن بالله ولا يؤمن بالتثليث) مثل توماس جفرسون (كتب جزءا كبيرا من الدستور، وصار الرئيس الثالث للجمهورية). وكانت هناك اقتراحات، منها: وضع عبارة "نحمد ملك السموات والارض" التي كانت في الدستور الكونفدرالي (الذي سبق الدستور الحالي). ووضع كلمة "بروفيدنس" (العناية الالهية)، لأنها "ربما تكون اكثر قبولا من كلمة (الله). ووضع عبارة "مع الله والمسيح"، لأن الاشارة الى المسيح "سوف تمنع اي يهودي من ان يكون رئيسا للولايات المتحدة" (كان العداء لليهود في ذلك الوقت قويا وعلنا).

لكن، فى النهاية، فاز رأي جفرسون بعد ان قال: "نريد دستورا يحمي اليهود والمسيحيين، والمحمديين (المسلمين)، والهندوس، والكفار، والتابعين لكل الملل". وظهر هذا واضحا في العبارة الدستورية التي تقول: "لن يصدر الكونغرس قانونا يؤسس دينا، او يمنع حرية التعبير".

وصارت العبارة اساس العلمانية الاميركية. وقالت سوزان جاكوبي: "لم يكن جفرسون ضد الدين. فقد عارض تدخل الحكومة في الدين، وايد تدخل الدين في الحكومة". وعكس عبارة "الدين والدولة"، ركز جفرسون على عبارة "الدين والحكومة"، اي انه لم يرفض دور الدين في الدولة. وكان هذا هو الحل الوسط الذي وصل اليه مع قادة مسيحيين متطرفين.

كان هؤلاء يريدون استبدال ديباجة الدستور التي تقول: "نحن، شعب الولايات المتحدة... نقر هذا الدستور" لتكون: "نحن شعب الولايات المتحدة ... تحت عناية الهية نقر هذا الدستور".

 الشهر الماضي، نشرت سوزان جاكوبي رأيا انتقدت فيه المرشحين لرئاسة الجمهورية، وقالت: "يهرولون نحو رجال دين لا يمثلون الا انفسهم". وانتقدت، ايضا، رجال الدين، قائلة: "قبل مائتي سنة، حاول رجال دين اعلان دستور مسيحي، لكنهم كانوا اكثر تعقلا من رجال الدين اليوم".

واعترفت بأن الدستور ليست فيه اشارة الى الدين (حتى لا تتدخل الحكومة في الدين). ولكن، هناك اشارات في اماكن اخرى، فنحن نجد في قسم الولاء عبارة "امة واحدة تحت الله"، وعلى العملة الأميركية "نثق في الله"، وفي السلام الجمهوري عبارة "لتحمد ارضنا الله"، وفي النشيد الوطني "ليحفظ الله اميركا". ويبدأ الكونغرس كل جلسة بصلاة، ويختتم تنصيب رئيس الجمهورية بعبارة: "ليحفظ الله اميركا".

أظهر نقاش الاميركيين ان الحكومة هي العلمانية لا الدولة، ولا يفرق المثقفون العرب بين الحكومة والدولة، من يعقوب صروف وحتى محمد عمارة.

قال د. فوزي النجار، ولد في لبنان وعمل استاذا في جامعة ميشيغان الاميركية، ان مؤسسي الفكر العلماني العربي هم: يعقوب صروف، وفارس نمر، ونيكولا حداد، وسلامة موسى، ولويس عوض، وكانوا كلهم مسيحيين. وكان علي عبد الرازق اول مسلم وسطهم. كتب "الاسلام واصول الحكم"، وقال فيه: "الاسلام دين لا دولة، رسالة لا حكومة، فكرة روحية لا مؤسسة سياسية". وطرده اسلاميون، بسبب هذا الرأي من الازهر، وهددوا طه حسين لأنه شكك في قصص انبياء مثل ابراهيم واسماعيل، ودعا الى فصل الدين عن السياسة في كتاب "مستقبل الثقافة في مصر".

وهناك يوسف ادريس، وفؤاد زكريا، وزكي نجيب محفوظ، وفرج فودة (تلميذ على عبد الرازق) الذي قتله الاسلاميون بسبب آرائه.

في الجانب الآخر، عارض ابو العلا المودودوي الديمقراطية، وقال ان سيادة الله فوق سيادة الناس، ووصف سيد قطب العلمانيين بأنهم كفار، والعلمانية مثل الجاهلية. ورحب محمد الغزالي بقتل كل علماني. وقال طارق البشري: "لن تتفق العلمانية والاسلام الا بالتلفيق".

غير ان محمد عمارة كان معتدلا، وقال ان اغلبية العلمانيين يؤمنون بالله، وان "الدولة ليست اساس الاسلام." (حتى هو، المعتدل، لم يفرق بين "الدولة" و"الحكومة"). 

ربما يحتاج المثقفون العرب (علمانيون واسلاميون) ليستفيدوا من نقاش المثقفين الاميركيين (علمانيين ومسيحيين)، وذلك لأنه لا يعترض على العلاقة بين الدين والدولة، ولكن بين الدين والحكومة.

اعترفت سوزان جاكوبي بأن العلمانية تأثرت بروح المسيحية، وان العلمانية ظهرت في أوروبا القديمة بسبب سيطرة الكنيسة على الحكومة، وان العلمانية لا تعتدي على الدين، بل تريد ان يحافظ الدين على "طهارته"، ولا يتدخل في السياسة والسياسيين، ويصبح عرضة للقيل والقال.

يقود النقاش ضد رجال الدين والسياسيين الذين يهرولون نحوهم، حالياً، مركز الفكر العلماني الاميركي في واشنطن: "سنتر فور انكواياري" (مركز البحث التساؤلي). ويوجد في مجلسه الاستشاري خمسة من الفائزين بجائزة نوبل، في الكيمياء والفيزياء والرياضيات، وتقع مكاتبه بالقرب من الكونغرس، وفيه صور كثيرة عن الطبيعة، اشارة الى فلسفة "المنطق الطبيعي". ووصفت جريدة "واشنطن بوست" المركز بأنه "يشجع التفكير" و"يدافع عن المنطق والعلوم، وحرية البحث"، ويرى ان كل شخص يجب ان يكون حرا في ان يفعل ما يريد، من دون اعتبار لما في الكتب السماوية.

وقالت اليزابيث دايير، مديرة مكتب واشنطن: "اليوم، يواجه التفكير العلمي تحديا لم يواجه مثله خلال المائتي سنة الماضية. ترسخت العقلانية، والطبيعية العلمية في المجتمع الاميركي، ولكن، أخيرا، يريد اصوليون مسيحيون، ومتطرفون دينيون، وحداثيون جدد عرقلة هذا التفكير الحر". 

لأن قادة الفكر العلماني الاميركي يعارضون تدخل رجال الدين المسيحي في السياسة، لابد انهم يرون نفس الشيء بالنسبة لرجال الدين في الدول الاسلامية. لكن، ليس هذا موضوعا رئيسيا اليوم، رغم ان حرب الارهاب وتدخل القوات الاميركية في دول اسلامية زادتا اهتمام الاميركيين بالاسلام وبالمسلمين. لكن، تعادي اغلبية هؤلاء الاسلام والمسلمين، مثل نورم الين الذي قال: "يتعطش الاسلام للدماء ويريد السيطرة على العالم، ويهدف لتدمير كل من يعارض ذلك".

واصدرت، أخيرا، دورية "فري انكواياري" (التفكير الحر) الناطقة بلسان العلمانيين الاميركيين، عددا خاصا عن الاسلام. وهذان عنوانان منها: "يمكن تطوير الاسلام (كتبه شخص اسمه "ابن وراق"، وقال انه تحول من الاسلام الى المسيحية) و"يجب ان يموت الاسلام" (كتبه عرفان خواجه، وهو محاضر في كلية ولاية نيوجيرسي).

 وهناك مركز "علمنة الاسلام" اليهودي (تابع لمركز "اسرائيل فورم")، وشعاره: "يرفض المسلمون نقد دينهم نقدا حقيقيا، ولا يحترمون حرية الفرد ولا يحترمون الآخرين".

ومن اهداف المركز تأسيس شبكة للعلمانيين العرب والدفاع عن المرأة في القرآن، ودراسة اصل القرآن "بحرية".

مع فوز عبد الله غول، وزير خارجية تركيا بمنصب رئاسة الجمهورية وسط بيانات من القوات المسلحة بأنها قلقة على علمانية تركيا، ووسط تركيز على غطاء رأس تضعه زوجته، زاد اهتمام (واستغراب) العلمانيين الاميركيين بالعلمانية في تركيا.

ويمكن تلخيص رأي العلمانيين الاميركيين بالاعتماد على تقرير ناقشه، قبل سنتين، في واشنطن، المؤتمر السنوي لأساتذه العلوم السياسية، واسمه: "العلمانية في الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا".

قال التقرير ان تركيا في علمانيتها اقرب الى فرنسا منها الى اميركا. واضاف: "العلمانية الاميركية سلبية، لأن الدولة لا تتدخل في الدين، ولا تنحاز الى دين، ولا تعتمد على الدين في قوانينها وتشريعاتها. لكن العلمانية الفرنسية ايجابية، لأن الدولة تضع قانونا للدين، يفصل العام عن الخاص، ويقنن العام (مثل ارتداء الحجاب في المدارس)، لكنه لا يتدخل في الخاص (مثل بناء المساجد والكنائس)."

ولهذا، لاحظ التقرير ان مشكلة الحجاب، التي ظهرت وتطورت في كل من تركيا وفرنسا، لم تظهر في اميركا، حيث لا يوجد قانون ينظمها. بالعكس، توجد قوانين في اميركا تسمح، في حالات معينة، بالحجاب، وتطويل الذقن، ولبس الطاقية داخل القوات المسلحة وقوات الشرطة، ولا تعترض قوانين اميركا على تعليق عقد عليه الصليب او الهلال، او خاتم سليمان على الرقبة، لانها لا تعتبرها شيئا يستحق الاهتمام.

كلام الصور:

 مؤسس العلمانية: هوليووك

 مؤسس العلمانية الأميركية: جفرسون

من قادة العلمانية الأميركية سوزان جاكوبي

تدخل السياسيين في الدين: السناتور براونباك في مدرسة مسيحية