اكتشف القدس بعيني عبد الله المندهشتين

يا الله ما أحلاها..

مشهد من فيلم «انا في القدس»
TT

المخرجة الفلسطينية منى جريدي من خلال فيلمها «أنا في القدس» الحائز على الجائزة الذهبية لـ«مهرجان تونس للإذاعة والتلفزيون» شهر يونيو الماضي، تقترح على مشاهديها زيارة القدس التي باتت حلماً لكل فلسطيني وعربي. كل ذلك، من خلال فتى فلسطيني عمره 13 عاما يزور هذه المدينة المحاصرة، والمحرمة عليه، للمرة الأولى، ويكتشف حياتها اليومية وتقاليدها وطقوسها، وإجراءات التهويد المتسارعة فيها. الفتى يعيش لحظات من الدهشة والاستغراب ويسوق المتفرج ليعيش المفاجأة معه حية ونابضة. إنه فيلم يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد.

يبدأ الفيلم الذي انتج بمناسبة الذكرى الأربعين لاحتلال القدس الشرقية، مع الفتى عبد الله، وأمه توقظه من النوم استعدادا للذهاب إلى القدس فيقول لها مطمئنا بأنه صغير وسيتمكن من الدخول إلى المدينة المقدسة.

جبر خضر، صاحب فكرة الفيلم والمشرف عليه قال لـ"الشرق الأوسط: بإن عبد الله من سكان غزة الذين قدموا إلى رام الله، قبل سنوات، وتقطعت بهم السبل، وباتوا غير قادرين على العودة إلى منازلهم في القطاع، وفي الوقت ذاته لا يغادرون رام الله. ولدت الفكرة عندما التقى جبر بعبد الله، وطلب منه الأخير أن يصحبه إلى القدس، التي يتمنى أن يزورها، وعندما جاءت الفرصة حقق له طلبه من خلال الفيلم.

من المشاهد الأولى، تنجح المخرجة في نقل مشاعر الدهشة لدى الطفل الذي كان وصوله إلى القدس، مثلما هو حال معظم الفلسطينيين، نوعا من الحلم. يلتقي عبد الله، هناك بعدد من أترابه المقدسيين، فيبدأون بالحديث عن أساليب ضرب جنود الاحتلال بالحجارة، ويذكرون أسماء أصدقاء لهم تم اعتقالهم. ويظهر عبد الله مذهولا، وهو يسير وسط أفراد الشرطة الإسرائيلية المدججين بالسلاح والهراوات، وهم يمتطون خيولهم، للحيلولة دون دخول المصلين إلى البلدة القديمة، للصلاة في المسجد الأقصى.

ينضم عبد الله إلى حشود الفلسطينيين الذين يقيمون صلواتهم أمام أبواب القدس، في العراء، يحيط بهم عدد كبير من الشرطة الإسرائيلية. وتبقى علامات الدهشة ظاهرة على ملامحه، ولا يستطيع إكمال صلاته، ثم يقرر الانسحاب، لأنه لا يستطيع اداء صلاة أرادها الاحتلال بهذا الشكل.

واثناء تجواله، يجد عبد الله نفسه في شوارع القدس القديمة، وسط مجموعة من الحجاج المسيحيين الأجانب وهم يقومون بطقوس ما يسمى بدورة الآلام، التي تنظم بعد ظهر كل جمعة، يقتفي فيها المشاركون خطوات السيد المسيح الأخيرة. ويسير عبد الله وسط المشاركين، الذين يمثل أحدهم المسيح وهو يتعرض للتعذيب، بينما يؤدي المشاركون طقوسا وأغاني فلكلورية ورقصات متعلقة بالمناسبة، من عادات الشعوب التي ينتمون إليها.

ويزور عبد الله كنيسة القيامة، ويشرح له أحد الشبان المسيحيين الفلسطينيين، عن هذه الكنيسة الضخمة، التي يوجد فيها ما يعرف بالقبر المقدس، ويتعرف أمام الكنيسة بزائر أجنبي ويلتقطان صورة تذكارية معا، ويدخل إلى الكنيسة ويجد نفسه وسط الطقوس المسيحية، ويشعل شمعة. يستطيع الفتى التواصل، مع عدد من الأجانب زوار المدينة، ومع سكانها وتجارها، ويدير احاديثا معهم، تتعلق بالاحتلال وبالمحتلين، بطريقته وفهمه للصراع.

ويسال عبد الله ببراءة أحد التجار، عن السكاكين التي يعرضها في متجره، وإذا كانت تستخدم لطعن المستوطنين، ويريه التاجر لوحة تذكارية وضعتها السلطات الإسرائيلية بالقرب من المتجر لذكرى موت مستوطن طعنا بالسكاكين، نفذها فلسطيني في المكان، فيعلق عبد الله: "أكيد أن اليهود آذوا اقاربا لهذا الشاب فجاء لينتقم وطعن المستوطن".

وتنقل المخرجة عبر بطلها، أجواء القدس القديمة من خلال أسواقها، وبائعات الخضار، والمحلات التي تعج بالقطع الاثرية والملابس التراثية، حتى يصل عبد الله إلى جزء من أسوار القدس التي تطل على الحرم القدسي الشريف. وعندما يرى قبة الصخرة المذهبة، ينزل ركضا للوصول إليها، ولكنه يصطدم بالحواجز الإسرائيلية في ساحة حارة المغاربة التي تحولت إلى ساحة حائط المبكى، ويتحرك الفتى مذهولا وسط المتدينين اليهود، والجنود الإسرائيليين، ويرى نشطاء من جمعية (عطيرت كهونيم) وهم يغنون داعين للتبرع، من اجل التوسع الاستيطاني في القدس، بالقرب من أعمال التدمير التي تحدث الآن في المكان، وأحدثت ضجة لدى بدئها في فبراير الماضي.

مخرجة الفيلم منى جريدي هي ابنة هذا المكان بالذات، هدمت قوات الاحتلال منزل عائلتها في حارة المغاربة في اليوم الأول لاحتلال القدس. ويلتقي عبد الله اثنين من سكان القدس، يقدمان له شرحا عن حارة المغاربة التي هدمتها السلطات الإسرائيلية بعد أيام من الاحتلال في يونيو 1967، وشردت سكانها، بينما قتل بعضهم تحت الأنقاض. ويقول له أحد الذين التقاهم بأن الإسرائيليين يواصلون الهدم والبحث عن آثار لهم في المكان ولا يجدون غير آثار رومانية وبيزنطية واسلامية.

وينتقل عبد الله، ليجد الجرافات الإسرائيلية وهي تهدم منزلا فلسطينيا، ثم يقف أحد الأطفال حاملا ما يشبه الميكرفون وتقف طفلة أخرى قبالته تحمل ما يشبه الكاميرا المصوبة نحوه، ونرى الطفل يقدم تقريرا عما يجري يحاكي ما يفعله مراسلو الفضائيات، ويختتم تقريره ذاكرا اسمه والمكان الذي يتحدث منه.

يواصل عبد الله سيره، إلى سوق القطانين المسقوف، الذي يزيد عمره على 700 عام، ويؤدي إلى الحرم القدسي الشريف، وهناك يلتقي أحد سدنة الحرم الشبان، ويطلب منه أن يساعده لزيارة المكان. ويدخل عبد الله إلى باحات الحرم القدسي، وهو في حالة عاطفية طاغية، يقف محلقا في القبة الذهبية التي تعلو مسجد قبة الصخرة، التي تحولت إلى رمز للمدينة القدس ويقول متأثرا مذهولا "يا الله... ما أحلاها!".

ويدخل عبد الله إلى مسجد قبة الصخرة، الذي بناه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وبسرعة يجد أصدقاء يقدمون لهم شرحا عن ما يراه، خصوصا الصخرة المرتبطة بالميثولوجيا الإسلامية عن المعراج.ويؤدي الصلاة، باطمئنان وسرور، في المسجد الأقصى، ويعيش لحظات من الأمان الروحي، ثم يخرج، لينضم إلى أطفال يلعبون الكرة في المساحات الخضراء أمام المسجد، ثم يعتلي إحدى الأشجار العتيقة، يمدد نفسه عليها ويأخذ بالغناء:

"حوصلك حتى لو عارف اني يمكن أموت

حوصلك ولازم تحسي باني بحبك موت".

ينتهي الفيلم، مثلما بدا، وعبد الله في فراشه، وأمه تحاول إيقاظه، وكأن كل ما رآه، هو مجرد حلم، رغم أن المسافة بين منزله والقدس، لا تتجاوز بضعة كيلومترات، حولها الاحتلال إلى سنوات ضوئية.

وعن الصعوبات التي واجهت طاقم الفيلم لإنجازه في القدس، قالت المخرجة بأنها واجهت صعوبات خصوصا في ساحة حارة المغاربة (المبكى) حيث التصوير ممنوع، فتم التصوير بشكل غير معلن، كذلك واجهت صعوبات في الحرم القدسي لأن التصوير أيضا ممنوع.

وقالت بأنها أرادت من خلال فيلمها إيصال رسالة حول القدس، ووضع سكانها واهلها، معتبرة أن إخراج الأفلام أحد أشكال المقاومة، مثلما هو حال سكان المدينة المقدسة المتشبثين بمنازلهم ومتاجرهم، ومصرين على استمرار حياتهم فيها، رغم التهويد المتسارع.

انتج الفيلم المركز الإعلامي بال ميديا، ونفذه غصوب علاء الدين، وهو يأتي ضمن سلسلة أفلام وثائقية وتاريخية انتجها المركز.