الشائعة كيف تنمو وتكبر.. ثم تنطفىء؟

يعتبرها المؤلف أول وسيلة إعلامية في التاريخ

كاسترو: الإشاعات تطارده طوال حياته
TT

الشائعة تطير وتزحف وتتعرج وتعدو، وهذا ما يجعلها على المستوى المادي أشبه بحيوان مباغت وسريع الحركة يتعذر أسره، ولا ينتمي إلى أية فصيلة معروفة. أما تأثيرها في البشر فأشبه بالتنويم المغناطيسي. رغم وجود الشائعات في الحياة العربية، لكنها لم تُعالج ثقافياً بطريقة توحي بأهميتها، هذا إذا استثنينا وجودها في العلوم العسكرية، حيث يتم تناولها ضمن الحرب النفسية. لذلك أول ما يثير في كتاب جان - نويل كابفيرير حول موضوع الشائعات.

إنه موضوع واسع ومثير، والكتاب مكتوب بأسلوب حيوي ومشوق، ولا أبالغ إذا قلت إنه أسلوب يعلّم الكتّاب كيفية إدارة موضوع بهذه السعة والتشعبات، حيث يتم تطوير الفكرة الأساسية للبحث باستمرار اعتماداً على المزيد من القصص والأحداث التي اقترنت بشائعات خطيرة تتعلق بمصير شخصيات هامة وشركات كبرى وجرائم وحروب ومنافسات محمومة كانت الشائعات تؤججها دائماً، مع تشريق وتغريب في الثقافات الغربية المحلية على خلفية البحث عن الأسس الانتربولوجية والاجتماعية والفلوكلورية لهذا العالم الغريب (الشائعات)، حيث يعود المؤلف بين وقت وآخر لأهم الشائعات التي حدثت في التاريخ القديم.

يقول كابفيرير:"إن كلمة شائعة تَستحضر بالنسبة للعامة ظاهرة غامضة وشبه سحرية يعكسها تحليل المفردات الرائجة. فالشائعة تطير وتزحف وتتعرج وتعدو، وهذا ما يجعلها على المستوى المادي أشبه بحيوان مباغت وسريع الحركة يتعذر أسره، ولا ينتمي إلى أية فصيلة معروفة. أما تأثيرها في البشر فأشبه بالتنويم المغناطيسي، خصوصاً أنها تبهر وتغوي وتسحر الألباب وتُلهب الحماس". لكن هذا الكتاب يطرح فرضية محورية مفادها أن هذا المفهوم خاطئ. فالشائعة أبعد ما تكون عن الغموض، بل انها تخضع لمنطق قوي من الممكن تفكيك آلياته. وفي أيامنا هذه بات من الممكن تقديم اجابات فضلى على الأسئلة الكبيرة التي تثيرها الشائعات، فمن أين تنشأ، وكيف تتبلور، ولماذا تظهر في وقت ما في مجموعة محددة أو مكان معين؟! إلى ذلك، من الممكن تفسير الشائعات: ما الذي يجعلها مكروهة؟ وما القواعد التي تحكم مرسلتها؟ وما هي المرسلة الخفية التي تتجاوز المضمون الصريح للشائعات؟ وانطلاقاً من هذه المفارقة نكون أحد المفاتيح الرئيسية للموضوع.

بالإضافة إلى تحليلاته ووجهات نظره، يستشهد المؤلف بأهم المفكرين الذين عرّفوا الشائعة ودرسوها كظاهرة قبله، لنكتشف أن هناك العديد من مراكز البحوث المتخصصة بدراسة هذه الظاهرة في الولايات المتحدة وأوروبا، ليس من أجل مواجهتها وتقليل أضرارها على الثقافة الاجتماعية ومصالح الجهات المعنية فقط، بل أيضاً بصفتها مظهراً من مظاهر السلوك البشري الملتوي وغير المثير للاطمئنان!

يبدأ كابفيرير كتابه، بإيراد أربع شائعات شهيرة وذات دلالات كبيرة في عدة دول غربية. فمنذ عام 1981 تتلقى شركة بركتر أند غامبل التي هي إحدى أكبر الشركات الأميركية المنتجة للسلع الاستهلاكية الأساسية، آلاف الاتصالات الهاتفية في الشهر الواحد من مستهلكين قلقين، للاستفسار عن مدى صحة شائعة تقول ان للشركة المعنية علاقة بالشيطان. وبحسب هذه الشائعة، يُخفي شعار الشركة المتمثل بوجه إنسان يحدق إلى نجوم، لا عد لها ولا حصر، مجموعة من الرموز الشيطانية. فإذا حدق الناظر إلى الشعار ملياً سيكتشف أن النجوم ترسم بطريقة انتظامها العدد الشيطاني الشهير 666 ويبدو أن هذا الرسم جاء ليدعم ما روّجت له الشائعة ومفاده أن شركة بروكتر أند غامبل تحالفت مع الشيطان من أجل مضاعفة حجم أعمالها وخصصت ما نسبته 10 بالمائة من أرباحها لإحدى الملل التي تعبد الشيطان. ان هذه الشائعة التي أُطلقت قرابة عام 1980 في غرب المسسبي، ما لبثت أن تعاظمت لتبلغ أصداؤها الجزء الشرقي من الولايات المتحدة. واللافت أنها أشعلت نيران حرب لم تكن بروكتر أند غامبل مستعدة لها على الاطلاق. فكانت حرب نجوم من نوع خاص جداً دفعت العديد من المجموعات الدينية التي أثارت حفيظتها دلالة النجوم البريئة إلى المطالبة بمقاطعة المنتجات التي تحمل الشعار المشؤوم. وفي آخر عام 1966 مسّت الشائعة أحد المتاجر الشهيرة للملابس الجاهزة في مدينة روان شمال فرنسا، بأنه غطاء للمتاجرة بالرقيق الأبيض. وعلى الأثر كثرت التهديدات الهاتفية، فاضطرت مديرة المتجر التي فشل نفيها للشائعة في اخمادها، إلى الاستسلام والرحيل عن المدينة. وبعد مرور ثلاث سنوات عادت شائعة مماثلة لتنقض بسمومها على مدينة أورليان، فهجر الزبائن ستة متاجر شهيرة لبيع الملابس الجاهزة تديرها إسرائيليات بعدما انتشرت شائعة عن اختفاء شابات اختُطفن من غرفة القياس. وقيل ان رجال الشرطة عثروا في أقبية المتجر على شابتين أو ثلاث خُدرن وأُعددن بغية تسليمهن إلى احدى شبكات المتاجرة بالرقيق. وحققت شائعة أورليان انتشاراً بالغ الأهمية، وهذا ما أستدعى تجنيد الصحافة الباريسية والمحلية ومختلف الجمعيات والمرافق العامة من أجل اخمادها أو على الأقل إسكات مروجيها. في يناير (كانون الثاني) 1973 انتشرت شائعة أخرى في الأروقة السياسية الفرنسية، مضمونها ان الرئيس جورج بومبيدو يعاني مرضاً عضالاً يهدد حياته، وانه لن يُكمل ولايته – سبع سنوات - إلى نهايتها، مع العلم ان هذه الشائعة شهدت انتشاراً واسعاً على نطاق فرنسا بعدما أصبحت متداولة في الصحافة ووسائل الإعلام التي راحت تغذي أسئلة العامة. وإذ ذاك بات مرض الرئيس، الذي لم يتأكد رسمياً، الموضوع الأول في أية محادثة. وشاءت الأقدار أن يُتوفى رئيس الجمهورية فعلياً بعد مرور سنة واحدة جراء اصابته بمرض خطير.

في نوفمبر (تشرين الثاني) 1963 اغتيل جون كندي في الولايات المتحدة عندما كان موكبه يجتاز مدينة دلاس، كما هو معروف. وأثبتت نتائج التحقيق الواردة في تقرير وارن الشهير ان الوحيد المسؤول عن اغتيال الرئيس كندي هو لي أوزوالد. لكن شائعة قد خرجت إلى النور منذ الأيام الأولى للاغتيال، تفيد أن أشخاصاً عدة كانوا في ذلك اليوم في دالاس من أجل أطلاق النار على الرئيس. وهذا ما يشير إلى وجود مؤامرة حقيقية. وإذ وجه بعضهم أصابع الاتهام إلى فيدل كاسترو، تحدث بعض آخر عن تورط وكالة الاستخبارات المركزية. لكن المؤكد أن الفرضية الرسمية التي تحدثت عن مطلق واحد للنار لم تُقنع البتة الرأي العام الأميركي كله. يورد المؤلف هذه الشائعات الأربع التي لاقت انتشاراً واسعاً ليشير إلى كيفية تسرب الشائعة إلى الرأي العام، وإثارتها بلبلة واسعة تؤثر في المصير الاقتصادي لضحية الشائعة أو تحرف الحقيقة حول موضوع أو جريمة معينة، من دون أن يعرف أحد من هو مصدر الشائعة، لكنها تنتشر "وتبلغ الذروة قبل أن تعود وتتراجع وتتفكك إلى نيران خامدة كثيراً ما تنطفىء في الأخير". انما لا بد من الإشارة إلى أن الشائعات الأربع المذكورة آنفاً مختلفة كلياً، فشائعة أورليان لم يكن لها أي أساس، تماماً كما لم يكن لشركة بروكتر أند غامبل أي علاقة بالشيطان. في المقابل ثبت أن الشائعة التي روّجت للمرض المميت الذي أصاب الرئيس بومبيدو هي حقيقة لم تنشأ من فراغ. أما الشائعة المتصلة بنتائج تقرير وارن فما من دليل يؤكدها أو ينفيها، ويبقى الشك قائماً حيالها.. بعد ذلك يرى المؤلف أن من غير الممكن تحليل ظاهرة الشائعات من دون الحديث عن دورها في الحياة اليومية. فكيف يتفاعل المرء مع الشائعة، وكيف يستخدمها ولأي غاية، وما تداعياتها المتوقعة وغير المتوقعة؟ .. الخ.

في بداية الفصل السابع المعنون:"نهاية الشائعة ومدلول الصمت"، ص131، يقول جان نويل كابفيرير:" قدر كل شائعة أن تخمد. ولعل المرادفات التي يشيع استخدامها للتعبير عن نهاية الشائعات تنطق بالمعاني والدلالات. فنحن نتحدث في معظم الأحيان عن (موت) الشائعة، عن (قتلها) عن (اخمادها) عن (اسكاتها). ولا شك في ان هذه الكلمات تترجم النية التي أشرنا إليها من قبل في تحويل الشائعة إلى شيء حي له كيانه الخاص، حتى لكأنها نوع من حيون حي، وحشي وغالباً خطير. وإذ ذاك تنفصل العامة عن الشائعة وتجعلها عنصراً خارج ذاتها، وهذا ما يسمح لها بأن تصوِّر نفسها - أي العامة - بعد فوات الأوان، ضحية لهذه القوة الخارجية. وقد تفسر هذه الظاهرة الطابع السحري الذي يميز الأسئلة المطروحة عموماً بشأن نهاية الشائعات. فكيف يتوارى هذا الكائن الخفي الذي يصعب ادراكه؟ هذه اللقطة المكثفة والحيوية عن الشائعة ومرحلة اخمادها تبدو وكأنها نهاية للكتاب، لكنها في الواقع بداية أخرى لهذا الكتاب الغني المثير للفضول حقاً، بفصوله الغنية المتنوعة والمكتوبة بلغة علمية ثرية ذات نكهة أدبية مرنة تستوعب مفارقات الموضوع الكثيرة، حيث قلّب المؤلف جميع النظريات والدراسات الصادرة في مراكز البحوث المتخصصة في العديد من دول أوروبا والولايات المتحدة، والتي تناولت ظاهرة الشائعات بخلفياتها السياسية والاقتصادية والنفسية عبر التاريخ والأحداث الشهيرة التي تميزت بشائعات لعبت دوراً سلبياً أو ايجابياً في زمانها. وكانت الترجمة العربية ناجحة، إذ استطاعت المترجمة أن تحافظ على سلاسة النص الأصلي وجماليته.