العلاقة بين الأديان وحرية التعبير.. توافق أم تصادم؟

طرح إشكالياتها في كتاب جماعي

تقييد الحركة لا يتعارض وحرية الفكر في السجون
TT

يناقش هذا الكتاب إشكالية الحرية في إطار طبيعة العلاقة بين الأديان والثقافات، التي أصبحت مصدرا أساسيا للتوتر في مجتمعات عربية وأوروبية كثيرة، ويناقش في السياق نفسه درجات الحريات الصحافية بين بلدٍ عربي وآخر، ويرى أن البلدان العربية مقيدة للحريات الصحافية بشكل عام، إذ لا تلعب الصحافة فيها دورا رقابيا حاسما في تشكيل الوعي باتجاه إدراك المواطن لحقوقه، وحرياته الأساسية.

شارك في الكتاب عدة كتاب وباحثين عرب وأجانب، وهو ثمرة لبرنامج "حرية الرأي والتعبير عن الثقافات" وحصيلة تعاون مشترك ما بين منظمات عربية وأورومتوسطية. ويستهدف هذا البرنامج دعم الحوار وتبادل الخبرات بين الصحافيين المصريين والدنماركيين على ضفتي المتوسط، إثر واقعة نشر الرسوم المسيئة لشخص الرسول الكريم في بعض الصحف الدنماركية، في محاولة حوارية هادئة ما بين الجانبين بعيدا عن ردود الفعل الانفعالية من الطرفين.

في البداية يذهب رجب سعد طه محرر الكتاب إلى أن الأزمات الثقافية التي اعتدنا أن تثار، بين العالمين العربي/الإسلامي والغربي تبدو، في جانبها الإيجابي، كما لو كانت دافعًا قويًّا على التأمل العميق، في بنية هذه العلاقة وتجلياتها المتنوعة. ويرى أن عدم السماح للمسلمات في فرنسا بارتداء الحجاب في المدارس لم يكن أولى علامات التوتر القائم ما بين هذين العالمين، ولم تكن الرسوم الكارتونية الدنماركية المسيئة للرسول الكريم ثانية العلامات، ولن تكون آخرها محاضرة بابا الفاتيكان، والتي بدت أشبه بصب الزيت فوق النار.

وحول حدود العلاقة بين الأديان وحرية التعبير، يرى بهي الدين حسن في مقاله "التوتر بين المسلمين والغرب، فشل متبادل بين الجانبين" أن الرسوم لم تكن سوى المحطة الأخيرة في مسيرة هذا التوتر المزمن، ولكن سبقتها قبل ذلك محطات مهمة أخرى، مثل الموقف من رواية "آيات شيطانية" لسلمان رشدي، وعدم السماح بارتداء الحجاب في المدارس الفرنسية، واغتيال الفنان الهولندي ثيوفان جوخ بسبب إخراجه فيلما عده قاتلوه مسيئا للإسلام. وثمة العديد من الوقائع الأقل ذيوعا، والتي لعبت دورا حيويا في منح التوتر ديمومته وتواصله بين الأحداث الأكثر انتشارا وبخاصة على الصعيد الإعلامي.

أنماط التوتر

وإذا كان من الممكن تفسير حدة هذا التوتر الديني في بعض المجتمعات العربية بعجزها عن حل إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، فمن الممكن كذلك – حسبما يرى حسن- إرجاع أنماط التوتر الجديدة في المجتمعات الأوروبية – والتي نجحت منذ زمن طويل في حل هذه الإشكالية- إلى فشل هذه المجتمعات في إدماج المهاجرين المسلمين، وبخوفها المتزايد، غير المبرر أحيانا، من تأثير المسلمين على نمط الحياة الأوروبية، واستخدام المعايير المزدوجة في التعامل مع القضايا الحساسة المتعلقة بالشرق الأوسط، وخاصة القضية الفلسطينية، وبتأثير ديناميكيات العولمة التي كان من نتائجها أن يؤدي نشر رسم كارتوني في أقصى شمال أوروبا إلى إحراق سفارات أوروبية في كل من سوريا وباكستان...إلخ.

ويخلص بهي الدين حسن إلى أنه يمكن القول إن مثل هذه الأحداث قد وضعت حرية الرأي والتعبير في قلب الجدل العالمي، وما صاحبه من عنف أو تهديد بالعنف. وفي المقابل، نلاحظ أن أشد ما أبرزته هو الافتقار الخطير للقيادة على جميع المستويات ونزوعها النفعي، سواء إلى تصعيد التوترات وإبراز الانقسامات، أو إلى تبني إجراءات مواءمة سياسياً، فيما كانت حرية الرأي والتعبير وحرية المعتقد بمثابة الرهينة وكبش الفداء وضحية هذه التطورات مجتمعة، مما يتطلب التركيز على القيم الإنسانية المشتركة والفهم المشترك لحقوق الإنسان واعتماد الحوار كآلية مستدامة بديلا عن الصراع، والابتعاد – الآن وأكثر من أي وقت مضى- عن أية محاولات لحماية " حقوق معينة" من دون مراعاة الحقوق الأخرى، أي بلوغ التوازن السليم بين حقوق الإنسان بدلا من اللجوء إلى المعايير المزدوجة واختيار حق دون آخر وتسييس جملة المبادئ الحقوقية مثلما هو حاصل الآن.

* أقنعة الوصاية

* بعد ذلك انتقل الكتاب في فصله الثاني لبحث إشكالية حرية الرأي والتعبير في مصر بصفة خاصة، حيث تناول محمود الورداني في مقاله " أزمة رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ"، الخلفيات التي أفضت إلى تطور الأزمة، وقال فيه:" إذا كان نجيب محفوظ بقامته الشامخة، وإنجازه الضخم كمنشئ ومؤسس للرواية العربية قد تعرض للاغتيال بسبب "أولاد حارتنا"، فإن هناك الكثير من الأعمال الأدبية والفنية والفكرية قد تعرضت لأشكال متنوعة من القمع والمصادرة خلال العقدين الماضيين". ويرى الورداني أن استخدام سلاح التكفير كجزء من عملية القمع الشاملة، لم يشهر في وجه المفكرين والأدباء من جانب الاتجاهات والتيارات الدينية المتطرفة وحدها، بل كثيراً وغالباً ما قامت أجهزة الدولة بذلك الدور. والمتتبع لحالات القمع والمصادرة تاريخياً، سيلاحظ اختلاط الديني بالسياسي، وهو ما تجلى على نحو ساطع في حالة مصادرة كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق في عشرينات القرن الماضي، والتي انتهت بطرده وعزله من وظيفته على مدى عشرين عاماً.

ومن جانبه بحث الدكتور علي مبروك في مقاله" الوصاية الدينية على الحريات الأكاديمية - نصر أبو زيد نموذجا" إشكالية المصادرة الأكاديمية كنسق مهيمن على الحياة التعليمية في مصر، موضحا أن مثل هذا النسق يبدو كنتيجة طبيعية لهيمنة نسق تراثي معين يضع نفسه مع النص في هوية واحدة. واستنادا لذلك، يبدو أن ثمة إمكانية لعلاقتين مع النص؛ إحداهما تتمثل في علاقة "الهوية"، وثانيتهما تتمثل في علاقة "المغايرة". وهكذا تتكشَّف الحدود الايديولوجية والمعرفية لمفهوم "سلطة النص". وهنا يتجلى الجانب الآخر لمعركة أبو زيد؛ التي لم تكن- والحال هذه- ضد أشباح الايديولوجية المنفلتة فحسب، بل ضد الإفقار المعرفي الكامل للنص، والذي لا بد أن تنتهي إليه أية ايديولوجيا تعمل على نحو خفي ومنفلت مثلما هو الحال في نسق التراث المهيمن.

وبحسبه يكون أبو زيد قد فضح تماماً ايديولوجيا الهيمنة هذه؛ بما أنها تستتر وراء أقنعة التراث، أو حتى النسق المهيمن داخله، ومع ذلك راحت هذه القوى التراثية المهيمنة تطارده، إلى أن نجحت في إقصائه، ليس فقط من الجامعة، بل ومن الوطن بأسره، وإن فشلت في إخماد الجذوة المتقدة لحرية البحث والتعبير؛ وعلى نحو يجعل الباب مفتوحاً أمام معارك جديدة ضد الوصاية.

إن المحصلة النهائية للأوراق المهمة المقدمة في هذا الكتاب تؤكد أنه لم تعد الرقابة على الأعمال الأدبية والفنية في مصر حكراً على أجهزة الدولة فحسب، بل أصبح هناك دور للمؤسسات الدينية متمثلة في الأزهر، يضاهي دور أجهزة الدولة في هذا المجال، بعد أن كان دوره مقصوراً على مراجعة القرآن وكتب السنة والكتب التي تناقش موضوعات دينية للتأكد من صحتها. ففي يناير1994 قام شيخ الأزهر آنذاك بإرسال خطاب إلى الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة يطلب فيه إصدار فتوى قانونية حول تحديد اختصاصات الأزهر في التصدي للأعمال الفنية والمصنفات السمعية والبصرية، وأصدر المجلس فتوى تؤكد أن للأزهر وحده الرأي الملزم لوزارة الثقافة في تقدير الشأن الإسلامي للترخيص أو رفض الترخيص للمصنفات السمعية أو السمعية البصرية.

من ثم تثير أوراق الكتاب تساؤلات عدة حول دور مجمع البحوث الإسلامية وما إذا كان ينصب دوره في ضبط المصحف الشريف والأحاديث النبوية حتى لا يجرؤ أحد على تحريفهما، أم يمتد إلى الرقابة على جميع الكتب، وتأويل أجزاء منها تأويلاً يؤدي إلى مصادرتها؟ وهل يمثل منح الضبطية القضائية لمفتشي الأزهر عودة لعصور محاكم التفتيش وردة على فكرة الدولة المدنية؟ أم أن هذه الضبطية تهدف فقط إلى حماية الدين والثقافة الإسلامية ؟ وهل من المقبول أن تتحول مؤسسة علمية تختص بدراسة العلم الشرعي إلى ممارسة دور رقابي على حركة التأليف والمصنفات الأدبية والفنية؟ وهل لرجال الدين أن يمارسوا نوعاً من الولاية والوصاية على حرية الفكر والإبداع ؟، وأخيراً كيف السبيل إلى الموازنة بين الحق الإنساني في حرية الفكر والتعبير، وبين الحق الثقافي في حماية القيم والمعتقدات؟!...إلخ.

يبدو أن تعاظم دور الرقابة وحسبما يشير الكتاب- سيؤدي بالفعل إلى مزيد من التساؤل حول شرعية المصادرة والحق في الرأي والتعبير، وما بين هذا وذاك سيبقى من الصعوبة بمكان فض الاشتباك القائم ما بين الحق في التعبير وإساءة استخدامه.