«خرائط الروح».. تنقيب في ما أهمله التاريخ

الروائي الليبي أحمد إبراهيم الفقيه في رواية من اثني عشر جزءا

TT

صراع الذاكرة مع النسيان، هي السمة الأساسية لرواية "خرائط الروح" للكاتب الليبي أحمد ابراهيم الفقيه المؤلفة من اثني عشر جزءاً. إنها رواية ذات أبعاد أسطورية، وتداخلات درامية وتقاطعات إنسانية، عبر رحلة عثمان الحبشي الهارب من الملاحقة الأخلاقية والنبذ القبلي في صحراء قاحلة تعجز عن إدراك امكاناته، واستيعاب طموحاته.

لقد خرج عثمان الشيخ من قريته ذليلا، حقيرا، بعد ضبطه متلبسا مع عزيزة، فكان خروجه تحقيقا للذات، عبر المعاناة المرة ومكابدة الحصول على خبز المدينة، مدينة طرابلس التي يصل اليها معدما في زمن الاحتلال الإيطالي، فترة حكم المارشال ايتالو بالبو، ومباشرة بعد اعدام عمر المختار، و انتهاء الثورة المسلحة التي قادها، وانحسار حركة التحرر الوطني. وليجد عثمان الشيخ نفسه، امام واقع مختلف عن واقع الواحة الصحراوية التي جاء منها، فيعمل إسكافيا، لان تعليمه الديني لا يؤهله لأي عمل آخر في دولة الاحتلال الإيطالي، ثم يجد نفسه منخرطا في الجيش الإيطالي الذي تعده إيطاليا لغزو الحبشة، ليكون ضمن جنود هذه الحملة، ولتشهد الملحمة التي يخوضها في الحياة واحدا من اكثر فصولها قوة وإثارة، حيث يقع في الأسر الحبشي وينجو من الذبح باعجوبة، و يحقق بطولات تتيح له فرص الترقي والاعتراف بمهاراته القتالية. ومن حرب الحبشة يجد نفسه مقذوفا به في الحرب العالمية الثانية في الصحراء الغربية ليبدأ محاربا في صف الإيطاليين ضد الحلفاء، ثم ينتقل بسبب ظروف وملابسات محلية ودولية الى ان يصبح محاربا مع الجيش الشعبي الليبي المنخرط في صفوف الحلفاء ويسهم في هزيمة الجيش الإيطالي، الألماني.

كان الحبشي رمزا وتعبيرا عن المفارقات الكبيرة التي عاشها جيل من الليبيين، متعايشا مع تلك المتناقضات، ليصل بتفكيره البرجماتي الى ان يكون مساعدا للوالي البريطاني الذي تسلم الحكم بعد سقوط الإدارة الإيطالية في طرابلس.

وتتواصل المسيرة عبر أسلوب مليء بالتوتر ولحظات التصعيد والانفراج واستخدام تقنيات سردية كثيرة التنوع، وتلوينات في المعالجة والتناول يدخل فيها الديالوج والمونولوج واللغة المتدفقة، ذات الأبعاد التراثية والشعرية، واللعب بين تخوم الواقع والفنتازيا، والحقيقة والخيال، وعدم الاكتفاء بالسارد الواحد العليم بكل شيء، وانما يستخدم أيضاً ضمير المتكلم وضمير المخاطب، ويجلب شخصيات تتكلم بنفسها داخل النص غير بطل الرواية، وينتقل بسهولة بين الماضي والحاضر واستشراف المستقبل، مستفيدا من واقع يزخر بالأحداث والتحولات الكبرى المعجونة بطين الحياة الشعبية وعبير الأرض والناس.

لا يكتفي الروائي برصد الصراعات السياسية التي تظهر على السطح وانما يغوص بعمق وقوة ودربة وفهم للوقائع التاريخية والنفسية التي تصنع الأحداث التي تجد انعكاسها من خلال فكر وفعل ووجدان هذا عثمان الحبشي الذي يدور حوله هذا العمل الكبير، في ضعفه وقوته، في لحظات انكساره وانتصاره، في استجابته لقوة الغريزة او مقاومته لها، لتكون الرواية رحلة مع خرائط الروح والمسالك التي تسلكها والمنعرجات التي تعبرها والمنخفضات والسفوح التي تسقط فيها أو الذرى التي تصعد اليها. نرى الحبشي وهو يمر باختبار القوة والسلطة، ثم سقوطه من هذه السلطة هاربا باتجاه الصحراء التي خرج منها، ونحو الحمادة الحمراء التي شهدت سنواته الأولى وهو يدرج في هذه الحياة، بعد ان عاش رحلة ثرية، وسلك دروبا صعبة وعرة، وانتقل من الغابة الى مدن الرمل، ومن الرقص مع الذئاب في الأدغال الى التبرك بغبرة المسك في حلقات الصوفيين، ومن زغاريد الحرب والقتال في حقول الموت والقتل الى زغاريد الجن في حقاف وكهوف الهروج السود في الصحراء الليبية. وهنا تمثل الرحلة في الصحراء والعيش في متاهتها، رحلة للتطهر وعودة للجذور ومواجهة للذات مع نفسها والتقاء بجوهرها الانساني الذي تاهت عنه لسنوات طويلة.

عثمان الحبشي تعبير اذن عما حدث للذات الليبية التي ترتبط بجذورها الصحراوية وتحاول ان تتواصل مع الحداثة، وتحمل داخلها وفي عمقها، الزماني والمكاني، الارض والتاريخ، تلك الرقائق الحضارية التي صنعت تراثها ( الاساطير، وطقوس اللاهوت الصوفي الصحراوي اذا جازت التسمية)، كما تحمل في طبيعتها النارية تمردا وفحولة ومجابهة للبيئة القاسية وظروف الحياة الشاقة، وثورات متواصلة ضد موجات الغزو الاجنبيى، وبطولة نادرة في المحافظة على جوهر الحرية الذي يمثل جوهر العيش والبقاء بالنسبة لابن الصحراء، وهي فصول عاشها عثمان الحبشي نضالا وتحررا واستشهادا، دون ان تكون الرواية رواية صحراء حقا، ما عدا في جزء منها، لا يزيد على ثلاث روايات مكرسة تكريسا كاملا للصحراء.

اما بقية اجزاء الرواية، التي تنقل بالتالي اجزاء من حياة عثمان الحبشي، فهي متوزعة على مختلف البيئات والبلدان في حالة اشتباك مع اوطان وثقافات ومجتمعات غير ليبيا، فهي في الحبشة وادغالها في العمق الافريقي، هي في الحرب العالمية واطرافها من عرب ليبيين وعرب مصريين والمان وبريطانيين، ومسرحها طبعا في الصحراء الغربية بجانبها الليبي والمصري ومشاركة من جنود مجلوبين من قارات العالم الخمس، ثم هي في النضال ضد الفرنسيين الذي يتوحد فيه الليبيون مع الجزائريين مع التونسيين وتجسيد هذه اللحمة التي ربطت بين الشعوب الثلاثة، كما ظهرت في الرواية شخصيات كثيرة ،اجنبية اوروبية، اغلبها ايطالية في العهد الفاشي دون ان تكون كلها شخصيات فاشية ، ثم شخصيات كثيرة نسائية محورية مثل ثريا وحورية من طرابلس وفرانشيسكا الايطالية وسارة اليهودية وميرانا الهندية البريطانية، حيث تتوهج لحظات الحب في هذه الرواية حتى لتصبح في بعض اجزائها رواية حب بامتياز.

التاريخ في الرواية يختلف تماما بالطبع عن ذلك الذي نقرأه في كتب التاريخ. فنرى وايتالو بالبو مرشال الفضاء الذي ارسله موسيليني ليكون حاكما في ليبيا خلال عقد الثلاثينات، له هنا وجه انساني، رغم هويته الفاشية الاستعمارية. لا يستطيع ان يرسمه الا عمل سردي روائي، يهتم بالجانب الاخر له كانسان عاشق. إنه يحب فتاة ليبية هي حورية، التي كانت عونه في طموحه لان يستقل بليبيا عن ايطاليا، خاصة بعد ان انضمت ايطاليا الى المانيا في الحرب العالمية، وهي شراكة كان يعارضها، وحاول تخريبها من خلال القيام بشيء يشبه ما عمله الجنرال ديجول وهو ينشىء خارج فرنسا وفي معارضة لحكومة فيشى دولة فرنسا الحرة، هذا الحاكم الذي مات قتيلا بما اسموه نيرانا صديقة، في ذلك الوقت، اتضح فيما بعد ان رمي طائرته بقنابل المدافع الايطالية لم يكن خطأ وانما بأوامر من موسيليني الذي تسربت اليه عن طريق مخابراته وعن طريق الجوستابو مخابرات حليفه هتلر بعض نوايا هذا الحاكم الذي تقدمه الرواية منذ البداية حاكما مختلفا عن سابقيه الدموييين واشهرهم جزار ليبيا جرسياني، فقد جاء بسياسة الاستيعاب بدل سياسة الانهاء والاقصاء لسابقيه، لتظهر شخصيته على المستوى الروائي شخصية شديدة التركيب والتعقيد، يختلط فيها الضوء بالظل والشر بالخير والحب بالحقد والكراهية.