تجسيد حي لمبدأ «الوحدة في التنوع»

«دعوة إلى الضحك».. رحلة الراحل فؤاد الخوري مع الاكتشافات الثقافية الإنسانية

TT

من الأقوال المأثورة لداهية السياسة البريطاني بنجامين ديزرائيلي قوله :"لا تقرأ التاريخ. لا تقرأ غير السيَر، ففيها تروى قصص الحياة بلا نظريات".

من قصص الحياة المثيرة الغنية من دون نظريات فوقية، ما تحمله للقارئ سيرة ذاتية صدرت حديثاً في كتاب "دعوة إلى الضحك" An Invitation to Laughter للبروفيسور فؤاد إسحق الخوري (1935 – 2003)، أحد ألمع الأكاديميين العرب المعاصرين في مجال الأنثروبولوجيا (علم الإنسان).

عام 1985 تعرّفت فعلياً على فؤاد الخوري، وزوجته السيدة سونيا، التي اضطلعت بمهمة إعداد الكتاب للطبع بعد وفاة فؤاد المفاجئة. قبل هذا التاريخ كنت أشاهده داخل حرم الجامعة الأميركية في بيروت وأسمع عنه، لكن لم يسعدني الحظ أن أدرس في أي من فصوله الدراسية. وكانت الحرب اللبنانية تداعياتها قد أقنعت فؤاد وسونيا بالابتعاد عن لبنان والاستقرار في بريطانيا مع ولديهما سوسن وفواز. وعام 1987 تقاعد فؤاد مبكراً من منصب الأستاذية (بروفيسور) في الجامعة التي تخرّج فيها، وأمضى ضمن هيئتها التعليمية زهاء 23 سنة منذ عام 1964.

فؤاد، الذي تشرفت بصداقته وعائلته في ما بعد، كان شخصية استثنائية في علمها وعفويتها وحبها للحياة والمعرفة.

كان نهماً في تحصيل العلم ورائعاً في بناء الصداقة، ممتع الصحبة خفيف الظل، يتذوق الدعابة ويتلذذ بها. حتى أنه عندما يحتد النقاش ويعزّ التفاهم كان بكل طيبة وتهذيب، يحسم الأمر بضحكة مجلجلة من ضحكاته القلبية الصادقة... فتحسم الإشكال وترضي الكل ولو من دون تسليم.

لهذا لم أفاجأ أبداً بعنوان "دعوة إلى الضحك" الذي اختاره فؤاد لسيرته الذاتية. وكنت منذ اللحظة الأولى متشوقاً لقراءته لأنني كنت قادراً على تصوّر ما يمكن أن يختزنه ذلك "المنجم" الزاخر بالدّرر. تلك الرحلة الحياتية الغنية لعقل موسوعي متوقّد لا يكتفي من الحياة بقشورها، ولا ترويه قمة جبل الجليد من الظواهر السياسية والثقافية والاجتماعية التي شغف بها فبحثها وتعمق فيها.

نجاح فؤاد الخوري ـ ابن البيئة الريفية المكافحة ـ في الإحاطة بما أحاط به، وهو كثير، عائد إلى عدة عوامل منها، بلا شك، الذكاء الفطري والإرادة القوية والاجتهاد في التحصيل العلمي. غير أن ما ساعده كثيراً على التفوق في علم واسع ممتع كعلم الإنسان، كما أحسب، نشأته في منطقة غنية بتلاوينها الاجتماعية، وتأثره بها.

فقد ولد فؤاد في بلدة بينو الجميلة، الواقعة في منطقة عكار بأقصى شمال لبنان. وعكار، التي غدت اليوم محافظة، تضم تشكيلة طائفية وعرقية وطبقية مدهشة حتى إذا قيست بالمناطق الأخرى من لبنان، الذي يضم أصلاً فسيفساء ثقافية ودينية رائعة. فقرب بلدته المسيحية الأرثوذكسية توجد بلدات مارونية ومسلمة سنيّة، وإلى الغرب منها في السهل الساحلي هناك قرى علوية، وشمالاً تقع قريتان يقطنهما الأتراك / التركمان، وعبر تاريخ المنطقة تعاقب عليها أمراء وحكام وأعيان من مختلف الأصول.

من هذا المنبت، سار فؤاد في رحلة اكتشافات دائمة مثيرة، سجّلها في كتاب سيرة حياته "البطوطية" الرائعة بأجمل الصور وأظرف الانطباعات ... من القرية إلى مدينة طرابلس الحاضرة العريقة الوقورة، ومنها إلى العاصمة بيروت "الكوزموبوليتانية" المنفتحة على العالم. وبعد بيروت أميركا ذلك الخضم الكبير.

عند كل محطة اكتشف شيئاً أغنى نظرته النفاذة إلى هويته.

في بيئته القرويّة الأولى، تعرّف إلى مسيحيته. ومن ثم بمرور السنين وتراكم التجارب تنبه إلى أوجه لبنانيته وعروبته. لكن الاكتشاف الأبرز لعالم اجتماع مثله... كان الإسلام الذي اعتبره جزءاً أساسياً من هويته المجتمعية والثقافية، ولو عاش (وتوفي) مسيحياً.

حتى قبل إكمال الدكتوراه، بل في سياق مشروع الأطروحة، انتقل فؤاد إلى إفريقيا الغربية، حيث أجرى أبحاثاً ميدانية مستفيضة وتعرّف هناك من دراسة القبائل والشعوب والجاليات المهاجرة إلى جانب من الثقافة الإسلامية مختلف إلى حد بعيد عما عرفه في عكار وطرابلس وبيروت. وبعد الدكتوراه، عاد إلى بيروت، حيث بدأ التدريس في الجامعة الأميركية. ومن هنا فتح صفحة مشرقة وغنية في دراساته وأبحاثه.

بصفة خاصة، أجرى أبحاثاً متميزة في منطقة الخليج العربي، التي أحبها كثيراً، أثمرت كتباً ودراسات قيمة، عدد منها كان مثيراً للجدل، لا سيما في موضوع العلاقة بين الدولة والدين، وأبرزها: "القبيلة والدولة في البحرين" Tribe and State in Bahrain(1980- بالإنجليزية)، و"إمامة الشهيد وإمامة البطل: التنظيم الديني لدى الطوائف والأقليات في العالم العربي" (1988- أعيد طبعه غير مرة بأكثر من لغة أجنبية منها الإنجليزية Imams and Emirs).

وبعد الاستقرار في بريطانيا، متأثراً من الحرب الأهلية اللبنانية وتداعياتها، واصل فؤاد بهمّة أبحاثه وكتاباته المتميزة. والمثير للإعجاب أنه رغم سقوطه ضحية مرض الشلل الارتعاشي (مرض باركنسون) القاسي واظب حتى الفترة الأخيرة من حياته على العمل والبحث الدؤوب.