هل يسقط قصرا أنطونيوس والنشاشيبي في قبضة إسرائيل؟

جزء من تاريخ القدس يتبدد

قصر اسعاف النشاشيبي
TT

كشفت صحيفة «هآرتس» مؤخراً عن خطة جهنمية لقضم منطقة من القدس، لا تتسم فقط بقيمتها المعمارية التراثية وتاريخها العربي، ولكنها أيضاً شكلت مزاراً لعدد كبير من الأدباء والسياسيين والفنانين ومادة للشعر والنثر الحديثين. فقصر أنطونيوس وكذلك قصر النشاشيبي اللذان تستعد إسرائيل لنهشهما من أيدي العرب، ليسا مجرد قصرين عاديين، انهما تاريخ من اللقاءات الأدبية والنقاشات السياسية، والحفلات الموسيقية العامرة التي كانت تعيشها القدس العربية. فأية خطة تنتهجها إسرائيل لتقطف بعد طول انتظار هذا الكنز الثمين...

لا يتأثر الموروث الثقافي والمعماري الفلسطيني في بلدة القدس القديمة، فقط، من عمليات التهويد، ولكنه يمتد إلى أحياء المدينة الأخرى خارج الأسوار، مثل حي الشيخ جراح شمال المدينة الذي اخذ اسمه من وجود ضريح طبيب صلاح الدين الأيوبي فيه، الأمير حسام الدين بن شرف الدين عيسى الجراحي.

وكشفت مؤخرا صحيفة «هارتس» العبرية، عن أحد الأساليب التي لجأت لها المؤسسة الإسرائيلية، لتهويد إحدى المناطق في الحي التي أصبحت شهيرة والتي تدعى «كرم المفتي».

و«كرم المفتي» مستهدف من قبل السلطات الإسرائيلية، منذ عام 1967، لان السيطرة عليه تؤمن تواصلا لبؤر استيطانية يهودية من حي الشيخ جراح إلى حي وادي الجوز. وتعثرت الجهود الإسرائيلية للاستحواذ على كرم المفتي، الذي آلت ملكيته لشركة استثمارية عربية قبل الاحتلال.

وعاد الحديث عن الكرم، بعد أن نشرت «هارتس»، أن «دائرة أراضي إسرائيل»، أقدمت على تأجير أرض الكرم، لجمعية (عطيرت كوهانيم) الاستيطانية، مشيرة إلى التعاون الوثيق بين المؤسستين، بهدف سلب الأراضي العربية وتهويد القدس وتطهيرها عرقيا من الفلسطينيين.

وتوجد تفاصيل كثيرة في هذه القضية التي ينظر إليها الفلسطينيون بخطورة بالغة ضمن مخطط تهويد المدينة المقدسة المتسارع، ولكنها أيضا تستهدف جزءا مهما من تاريخ القدس المعماري والثقافي والسياسي.

واكتسب كرم المفتي اسمه، من مالكه السابق المفتي أمين الحسيني، قائد الحركة الوطنية الفلسطينية، قبل النكبة، وتبلغ مساحة الكرم 20 دونما. ويقع في الكرم بناية قديمة، على تلة مرتفعة، أقيمت في أواسط القرن التاسع عشر، وكانت إحدى البنايات الأولى التي بدأ المقدسيون تشييدها، خارج أسوار المدينة، التي لفحتها رياح الحداثة آنذاك.

وتعرف البناية باسم «قصر المفتي»، والأرض التي حولها كرم المفتي. والبناية التي شيدها أفراد من عائلة الحسيني، مكونة من طابق واحد، ومبنية بأحجار مشذبة، سقفها مقبب بقبب حجرية، وجوانب أبوابها ونوافذها مزينة، ومنحوتة بنقوش حجرية تظهر الفنون المعمارية العربية الإسلامية.

واستخدمت هذه البناية، كبيت صيفي لعائلة الحسيني، على غرار البنايات التي كان يطلق عليها القصور الصيفية، والتي كانت تملكها العائلات المقدسية الثرية في كرومها تقضي فيها شهور الصيف، للاستجمام في الهواء الطلق، ومتابعة أملاكها. وفي السنوات 1890-1895 وسع مفتي القدس الشيخ طاهر الحسيني، والد الحاج أمين الحسيني، هذا المنزل الصيفي وحوله إلى فيلا فخمة للعائلة.

وظهرت هذه البناية، في الخرائط التي وضعت لمدينة القدس، باسم قصر المفتي، ومن بينها خارطة تعود لعامي 1864-1865، تحمل اسم واضعها ويلسون، وكذلك عرفت بنفس الاسم في خارطة تعود لعام 1894، والأمر نفسه بالنسبة لخارطة وزارة البحرية البريطانية في أربعينات القرن الماضي.

وتحولت البناية، على عهد الشيخ طاهر، إلى مكان تلتقي فيه الشخصيات المحلية، والدينية، والأدبية، ونزل فيها حكام وزعماء من الداخل والخارج، كما يذكر المؤرخ الاسرائيلي شمعون ليندمان، في بحث له عنها نشره في سبعينات القرن الماضي.

وعندما توفي الشيخ طاهر الحسيني عام 1908، آلت البناية إلى أبنائه، وفيما بعد ارتبطت بابنه الحاج أمين الحسيني، الذي اجر القصر إلى مستشاره الحميم جورج انطونيوس، وهو في نفس الوقت المؤرخ الفلسطيني والعربي البارز صاحب كتاب «يقظة العرب»، وهو احد الكتب التاريخية التي قل نظيرها، والتي جلبت لانطونيوس شهرة عربية وعالمية.

وانطونيوس من اصل لبناني، أما زوجته كيتي، فهي ابنة فارس نمر صاحب صحيفة المقطم اليومية القاهرية. وبالإضافة إلى دور الاثنين السياسي، وتأثيرهما البالغ على الحاج أمين، فانهما لعبا دورا في صنع المشهد الثقافي المقدسي والفلسطيني في عصرهما.

ويقول الصحافي ناصر الدين النشاشيبي الذي يسكن في حي الشيخ جراح، بان القصر الذي سكنه انطونيوس كان محجة لمئات المواطنين والشخصيات العربية والأجنبية الذي كان يستضيفهم انطونيوس وزوجته. وتوفي انطونيوس مبكرا عام 1942، ولكن زوجته كيتي واصلت نشاطها الثقافي وحولت القصر إلى صالون أدبي وثقافي وسياسي، وقال النشاشيبي لـ«الشرق الأوسط» بأنها كتبت على بابه الرئيسي الآية الكريمة «ادخلوها بسلام آمنين»، مشيرا إلى أن القصر كان يعج بالحياة بفضل كيتي، أرملة انطونيوس التي واصلت استقبال الشخصيات العامة ومنهم مثلا، المارشال مونتغمري الذي كان «في مقدمة من يأتي إلى القصر لزيارة صاحبته والتعرف على أوراق صاحبه ومؤلفاته». ومن بين الزوار الكثر أيضا، كما يؤكد النشاشيبي الذي عاصر تلك الفترة غلوب باشا، القائد البريطاني للجيش الأردني المعروف باسم (أبوحنيك)، والسياسي العراقي نوري السعيد، والأمير عبد الله بن الحسين.

ويقول النشاشيبي إنه في «صالونات هذا القصر عقدت اخطر الاجتماعات السياسية للبحث في قضية فلسطين، وفيها التقى ممثلو اللجان الدولية للبحث في قضايا الشرق الأوسط، مثل حلف بغداد، والحلف التركي الباكستاني، وغيرهما».

ويضيف «في حديقة هذا القصر، ترك العرب كغيرهم من كبار رجالات الإنجليز والفرنسيين بصماتهم، واحلى ذكرياتهم على أنغام الموسيقى المتصاعدة من اكبر الفرق الموسيقية في فلسطين ولبنان ومصر، بل لعل أحلى مزيج ثقافي التقى فيه عقل الفلسطيني مع عقل المصري مع عقل اللبناني، كان ملعبه قصر جورج انطونيوس الأبيض، المطل على اجمل مناظر القدس».

وارتبط القصر، بذكريات لدى كثير من الشخصيات الأدبية الفلسطينية التي لمعت لاحقا مثل جبرا إبراهيم جبرا، الذي تحدث عن سيدة القصر كيتي ودورها الأدبي والثقافي في القدس بعد النكبة الفلسطينية، وكيف كانت مثلا تنظم جولات للمثقفين على أسوار المدينة التاريخية. وكان لكيتي أيضا دور إنساني بالغ الأهمية بإنشائها مؤسسة لإيواء الأطفال الفلسطينيين ضحايا المجازر الصهيونية مثل مجزرة دير ياسين.

وكتب المؤرخ وليد الخالدي، عن ذكرياته مع المؤرخ البارز البرت حوراني، الذي نزل ضيفا في القصر، لدى زيارته فلسطين، قائلا «تم لقائي مع ألبرت في كرم المفتي، وهو عبارة عن فيلا رائعة من الحجر مشرفة على البلدة القديمة، وكان الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس، قد بناها مقراً لإقامته. وقد شُيّدت في حديقة كبيرة على المنحدر الجنوبي للشيخ جراح، في الطريق إلى جبل سكوبس ومقبرة الحرب العالمية الأولى. ونظراً إلى الأوضاع السياسية والأمنية الطارئة، لم يقم المفتي في هذا المنزل قط، وأجّره (وباعه لاحقاً) لمستشاره المقرب إليه جورج أنطونيوس. وكان جورج قد توفي في سنة 1942، وشغلت المنزل أرملته كاتي (ابنة فارس نمر باشا، صاحب جريدة «المقطّم» القاهرية، المولود في لبنان) وابنتهما الوحيدة ثريا (توتو). وكانت كاتي، وهي مضيفة حيوية، حاضرة البديهة وسخية، تعقد المجالس في كرم المفتي وتدعو إليها القادة الفلسطينيين والنخبة المثقفة والعسكريين والموظفين المدنيين البريطانيين الكبار وزوجاتهم للاختلاط والتعارف».

ويضيف الخالدي «عندما أتيت للاجتماع بألبرت، وكان مقيماً كضيف في كرم المفتي، قادني حاجب نوبي إلى غرفة جلوس محاطة بالكتب ومفروشة بذوق فكتوري رفيع. مضت بضع دقائق قبل أن يدخل ألبرت، وكان محمر الوجه قليلاً، الأمر الذي أضفى عليه مسحة كهنوتية. لم أعد أذكر ما بحثنا فيه، سوى أننا عرضنا عدة موضوعات. وقد ترك فيّ صوته المنخفض، ولطفه، ولهجته وطريقته الواثقة، وتعليقاته الذكية الموزونة، أثراً دائماً. استمر الاجتماع أكثر من ساعة، واتفقنا على إدامة التواصل».

وفي فترة لاحقة تركت كيتي القصر، واستقرت في مصر حيث توفيت، ومنذ عام 1967، تمنع سلطات الاحتلال شركة فنادق القدس العربية التي اشترت الأرض والقصر، من التصرف في المنطقة، واخذت بقضمها، واخيرا أجرتها للجمعية الاستيطانية «عطيرت كوهانيم» وهو الأمر الذي يثير الضجة الان حول كرم المفتي.

ويعلق النشاشيبي على المخططات الإسرائيلية التي تستهدف القصر والكرم، لبناء وحدات استيطانية يهودية قائلا ان «التاريخ يتلاشى أمام السياسة، وتغيب الثقافة أمام التوسع. ودفاعنا عن كرم وقصر المفتي هو دفاع عن تاريخ العرب، ووفاء لذكرى كاتب عبقري اسمه جورج انطونيوس، جاء إلينا وعاش وكتب عنا ومات في وسطنا، ولم تبق منه إلا مجموعة حجارة بيضاء كتب على بابها: ادخلوها بسلام أمنيين».

ولا تتوقف خطط التهويد في الشيخ جراح، على قصر وكرم المفتي، وفي هذا الحي، وليس بعيدا عن الكرم، تقع بعض المعالم الثقافية مثل القصر الذي كتب وعاش فيه أديب العربية إسعاف النشاشيبي (1882-1948م).

بنى النشاشيبي قصره في حي الشيخ جراح، وزخرفه بقطع الموازييك الأزرق التي ما زالت تزينه حتى الان.

وفي هذا القصر حل كثيرون من أعلام الأدب العربي مثل الشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير)، وحافظ إبراهيم شاعر النيل، والشاعر العراقي معروف الرصافي، الذي نزل ضيفا في هذا القصر وذكره في قصيدته التي يقول فيها:

ويل لبغداد مما سوف تذكرني عنها وعن الليالي في الدواوين

واستذكر القدس وقصر النشاشيبي بقوله:

وكان فيها النشاشيبي يسعفني وكنت فيها خليلا للسكاكيني

والإشارة واضحة لإسعاف النشاشيبي، والمفكر الفلسطيني خليل السكاكيني.

ولا يعرف ماذا كان سيكتب الرصافي، لو قدر له أن يعيش ليرى حال القصر الان، فعلى بعد أمتار قليلة منه، أقامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي نصبا تذكاريا للقتلى من العصابات الصهيونية الذين وقعوا خلال معركة شنها على قافلة لها المقاومون العرب عام 1948.

وتحول هذا النصب إلى حائط مبكى جديد لليهود، يأتون إليه بالحافلات، ويقفون بجانب قصر أديب العربية، الشاهد على مرحلة فكرية هامة من تاريخ القدس، وهم يبكون قتلاهم الذين سقطوا على يد المقاومين. ولحماية هؤلاء، أقامت سلطات الاحتلال أبراجا عسكرية يناوب فيها على مدار الساعة جنود إسرائيليون.

وبالتوازي مع هذا النشاط الإسرائيلي، أقدمت سلطات الاحتلال خلال السنوات القليلة الماضية، على طرد عشرات العائلات الفلسطينية من الحي، بالقرب من قصر إسعاف النشاشيبي، وأسكنت فيها مستوطنين يهودا، بحجة أن هذه المنازل تعود ملكيتها ليهود.

وتقع هذه المنازل بالقرب من المقام الإسلامي المعروف باسم (الشيخ السعدي) الذي حوله الإسرائيليون إلى قبر شمعون الصديق وسيطروا عليه، وعلى الساحة التي أمامه، ويشكل القبر، والمنازل المحيطة به، والنصب التذكاري، نواة لمستوطنة يهودية وسط الحي العربي، تتوسع كل يوم، بينما يبقى قصر أديب العربية واقفا حزينا شاهدا على ما يجري في زهرة المدائن، مثل قصر المفتي.