السجن مدرسة في لبنان

مكتبات عامة ومحاضرات أسبوعية للراغبين

TT

شهدت العاصمة الايطالية روما أخيرا انعقاد "المؤتمر الدولي الدوري حول السجون"، بمشاركة العديد من الجمعيات التي ترعى شؤون السجناء في مختلف أنحاء العالم. وقد تمثل لبنان بوفد مميز، ضم مندوبين عن أكثر من مؤسسة تهتم بقضايا القابعين خلف القضبان تثقيفاً وتأهيلاً ومواساة. هذا المؤتمر شكل مناسبة ليتذكر البعض ان للسجناء حقوقاً معرفية، وان الالتفات اليها يعتبر بمثابة إنقاذ للسجين وأهله. ولكن ما الذي يحدث في لبنان تحديداً، وما أهميته؟

حكايا السجن تكاد تكون متشابهة في مختلف أنحاء العالم، وهي زاخرة بالغرائب التي لا نقع على مثيل لها إلا في الاساطير، لعل اغربها ان هذا المكان، الذي تفتقت عنه العبقرية الادمية كوسيلة من وسائل تحقيق العدالة الانسانية، يفتقد الى معايير العدالة الحقة. واستنادا الى هذا المعطى تأسست مرشدية السجون في لبنان عام 1984، ويسعها اليوم أن تقول أنها اضاءت بعض الشموع المتواضعة في غياهب الظلمة. فالمؤسسة تدير المأوى الاحترازي العائد لسجن رومية، حيث يلقى بعض السجناء المرضى معاملة مميزة، مقارنة بزملائهم العاديين: مقر مريح ونظيف، غذاء كاف، كذلك هم يجدون من يصغي الى مشاكلهم وهمومهم، لكن هؤلاء قلة، اي مجرد استثناء يؤكد قاعدة الحرمان الذي يعانيه السجناء، ولا ينفيها.

تتكون المرشدية العامة من عدة مرشديات فرعية تنسق التحرك في ما بينها بهدف التكامل سعيا وراء تحصيل بعض الحقوق البديهية للسجناء، وفي هذا الاطار يبادر المسؤول الروحي في "المرشدية الانجيلية المعمدانية" ميشال سلوم الى شرح الأهداف التي تتحرك مؤسسته بوحي منها، فيقول انها تتمحور حول السعي لاحاطة السجين بالرعاية استنادا الى احدى آيات الكتاب المقدس: "كنت محبوسا فأتيتم الي". ويضيف سلوم أن جوهر الرسالة الروحية لمرشديته تقوم على مبدأ تشجيع السجناء للعودة الى أنفسهم، والى ربهم، وافهامهم أن الله يحبهم حتى لو كانوا يحملون بعض الخطايا. ذلك ان السجين ليس وحده خاطئا، بل البشر جميعا هم كذلك. والخطيئة الاولى ارتكبها أبو البشرية آدم، عندما خالف الوصية الالهية بعدم الاقتراب من الشجرة المحرمة. يرى سلوم ان الانسان يخطىء لانه خاطىء بالطبيعة. فالشجرة البرية لا تنتظر ظهور ثمارها كي تبدو كذلك، لكن وجود الثمر يؤكد بريتها. أما الخلاص من الخطيئة، فيكون عبر الايمان، هذه هي الرسالة التي تحاول المرشدية ايصالها الى السجناء، لتمنحهم شعورا بالاستقرار النفسي، هم في امس الحاجة اليه.

آلية العمل مع السجناء تقوم على مبدا الاختيار، حيث يصار الى تسجيل أسماء الراغبين منهم في الاستماع الى المحاضرات الاسبوعية التي يقدمها بعض المرشدين، ويشدد محدثنا هنا على أن الخدمة التي يقدمها مع زملائه هي روحية صرف، حيث لا وجود لأي أبعاد طائفية او مذهبية. فالهدف ليس تغيير طائفة السجين، بل تغيير ما في قلبه، وتحقيق المصالحة بين المخلوق والخالق. من جهته المرشد فريد لحود، مسؤول العلاقات العامة والقانونية في المرشدية الانجيلية، ينطلق في حديثه من ابداء الاعتقاد أن السجن هو منزل محتمل لكل انسان. اذ يكفي أن تزل القدم الآدمية في خطوة غير محسوبة، حتى يجد المرء نفسه خلف القضبان. انطلاقا من هذه الرؤية لا يعود السجين كائنا قادما من كوكب آخر، بل هو ببساطة واحد منا، ادركته يد العقاب التي يفلت من قبضتها كثيرون.

تأسيسا على هذه القناعة، يتحرك المرشدون، يقول لحود، في سعي حثيث للتخفيف من أعباء السجن الملقاة على عاتق السجين وذويه. وهنا ثمة كثير يمكن القيام به على صعد شتى: انسانية وقانونية، وأيضا تنموية تتصل بعملية الارتقاء المهني والعلمي بالسجناء.

في الجانب الإنساني تتولى المرشدية تزويد السجناء باحتياجاتهم من الثياب والدواء والغذاء، وهي تقديمات تطال عائلاتهم كذلك، كما تتولى وضع ابنائهم في المدارس ودور الايتام لتتسنى لهم امكانية التحصيل الدراسي.

أما على المستوى القانوني فيتحرك المرشدون على خطوط متعددة: تعيين مواعيد الجلسات، دراسة الملفات، تقديم طلبات اخلاء السبيل، وطلبات استرحام للكفالات المرتفعة، اضافة الى ادغام العقوبات المتعددة، كما يتولون متابعة الشؤون الحياتية للسجناء، واطلاع القضاة عليها، بهدف الحفاظ على اللحمة بين السجين وعائلته، اذ يحصل أحيان ان تكون العائلة بأكملها، أي الاب والام والاطفال داخل السجن. كذلك يسعون الى الابقاء على اللحمة العائلية من زاوية الحرص على عدم قطع الرباط الزوجي بالطلاق.

تتركز الجهود أيضاً على اقامة دورات لمحو الامية، وتعليم اللغة الانكليزية، اضافة الى التدريب على طرق استخدام الكومبيوتر بالاتفاق مع معاهد متخصصة. فتقام دورات تعليمية يحصل المشاركون بنتيجتها على شهادات معترف بها. وقد تم أخيراً توزيع الشهادات الرسمية على 12 سجينة، خرجت بعضهن من السجن، وبدأن بممارسة العمل في اطار اختصاصهن.

ويصار اليوم الى تأهيل بعض السجناء في مجال الكومبيوتر ليتولوا بدورهم تعليم زملائهم، الأمر الذي من شأنه المساهمة في تنفيس الاحتقان، ومساعدة السجين على امتلاك مهنة تقيه شر العوز، بعد خروجه مجددا الى معترك الحياة.

أيضا كان للتحرك الذي مارسته المرشدية العامة للسجون ان سمح بوجود مكتبات داخل بعض السجون، تضم كتبا دينية بمعظمها، متنوعة كتنوع المجتمع اللبناني الموزاييكي، وهي تخضع للرقابة المسبقة من قبل المعنيين، حيث لا يسمح بادخال الكتب التي تمس بمعتقدات الآخرين.

يمكن القول ختاما أن ثمة شموعا مضاءة في ليل السجن الطويل، لكن الظلام يبقى، مع ذلك، دامسا حالكا.