الكاتب الكولومبي سانتياغو غامبوا يقتفي آثار عوليس

باريس عندما تكون عنيفة تتعالى على عشاقها

سانتياغو غامبوا يصوغ عوالم وبورتريهات هائلة التشابك
TT

جابت أسطورة عوليس منذ قرون ضفاف البحر الأبيض المتوسط دون أن تفقد ذرة من عنفوانها وطراواتها الأسطورية، حيث غذت طوال السنين خيال الكتاب والسينمائيين والرسامين. واليوم تعود هذه الأسطورة، أكثر بهاء من ذي قبل، عند أديبين بارزين من شباب أمريكا اللاتينية، هما هكتور تيزون الأرجنتيني صاحب رواية "جمال العالم" والكاتب الكولومبي الواعد سانتياغو غامبوا، المقيم في باريس، مؤلف رواية "مرض عوليس". ورغم أن هذا الجيل الجديد خرج من معطف غارسيا ماركيز، كارلوس فوينتيس، بورخيس، خوليو كورتازا أوكتافيو باز، فإنه ضاق ذرعا بالمركزية الأوروبية التي صنفت أدب أمريكا اللاتينية حسب نظرتها واستيهاماتها الثقافية. لذلك فهؤلاء الكتاب الصاعدون ينتقدون هذه العين المتعالية التي سجنتهم في زنزانة "الواقعية السحرية"، لأنهم أحرار منها مثل الطيور المحلقة عاليا في كبد السماء.

أحد أبرز الشباب المجددين في أدب أمريكا اللاتينية اليوم هو الكولومبي سانتياغو غامبوا. فمن أين أتى وإلى أين يذهب؟ ولد سانتياغو غامبوا سنة 1966 ببوغوتا عاصمة كولومبيا. وقد فتن منذ حداثة سنه بالقراءة والسفر، إذ عاش في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا، حيث يقيم اليوم ملحقا ثقافيا لكولومبيا باليونيسكو. نشر سانتياغو أربع روايات هامة أثارت انتباه الجمهور والنقد معا، هي "أسرى الوردة البيضاء، "الخسارة مسألة منهجية"، "إستيبان البطل". وهذه الرواية الأخيرة تمتح من مادة الحياة الشخصية للكاتب، بعكس الأولى التي تنتمي لجنس الرواية البوليسية. هذا العصب السيرذاتي هو البنية السردية التي تحكمت في روايته الناجحة الأخيرة "مرض عوليس". إذ يتذكر الكاتب سانتياغو غامبوا في هذه الرواية القوية سنوات هجرته في باريس، عندما كان طالبا في السوربون حيث كان يعيش في فقر مدقع، لم يكن يخرجه منه سوى خياله المجنح. يستدعي واقع "المرض" شخصية إستيبان: "في تلك الفترة، كانت الحياة تتهكم علي. كان ذلك في بداية التسعينيات. معدما، كنت أعيش في باريس، مدينة اللذات المأهولة بالأغنياء. حياتي لم تكن تساوي قرشا واحدا. كانت تشبه حياة هؤلاء الغرباء الذين يدخلون من الأبواب الخلفية متخطين القمامة مثل الحشرات والفئران". يصف المؤلف بدقة الطبيب الجراح السوداوية المادية والأحاسيس المتضاربة التي تمزق حياة المهاجرين السريين في باريس، المدينة القاسية التي لا تمكنهم سوى من العتمة ومن الأقبية المتوحشة والقوانين الظالمة أو الغرف البائسة المتناهية الصغر Chambritas. يكشف سانتياغو غامبوا جحيم نظام جديد للعبودية، حيث يكد المهاجر السري أكثر ليربح فتات موائد الأغنياء. طاقته في هذا العالم البربري اليأس والعزلة. لكن رغم "العبودية" ينتزع العبيد من السواد المحيط بهم لحظات هاربة من الفرح والسعادة. يرقصون، يضحكون، يبكون، يحبون. يخرج من بينهم إستيبان طالب الأدب الذي يحاول كتابة رواية دون أن ينهيها. أمله في الحياة أن يصبح كاتبا. وهو نسخة طبق الأصل من سانتياغو غامبوا.

يبرع المؤلف الكولومبي في صوغ عوالم وبورتريهات سردية هائلة التشابك والتعقيد والمتعة. إنه حكواتي ماهر، يبتدع الحكايات كما يبتدع طفل هندسات عجيبة على رمال البحر. حكاياته ساخرة، قاسية، عاطفية ومثيرة للخيال. في "مرض عوليس"، يصاب "يونغ" المهاجر السري الآتي من كوريا بمرض عصبي يصيب الأشخاص الذين يعيشون في وضعية صعبة من مهاجرين، وهم في وضعية غير قانونية بالأساس. هذا المرض سيسرطن العالم الروائي لسانتياغو، إذ لن تتنفس شخصياته الضائعة في عوالم التهميش والتحقير العرقي إلا بالحب على لسان استبيان أو صديقته الحميمة باولا. هذه الأخيرة التي لا تعترف إلا بلغة الجسد. "أعتقد أن لكل منا أسراره الصغيرة، وأسراري ذات طبيعة جسدية". الجسد كان طريق باولا إلى الشعر. اللعنة التي أصابت هذه الشخصيات الخارجة من الجحيم ليست ذات طبيعة أسطورية/أدبية فقط، بل نفسية أيضا. فمرض عوليس، خلل نفسي اكتشفه وسماه طبيب إسباني يدعى جوسيبا أتشوتيغي. وهو ذو طبيعة عصبية يتعرض له المهاجرون السريون، تتمثل في شعور المريض بحالة رهاب وخوف شديدين تطول مددا ليست بالهينة. وظف الكاتب الكولومبي هذه الظاهرة النفسية باعتبارها استعارة ترمز للمسافر الوحيد عبر صحاري العالم. وسواء كان المريض هو الكاتب نفسه، رغم أنه لم يعش الوضع جسديا، أو الكوري في الرواية، يظل المهاجرون في وضعية غير قانونية "عوليسات" الزمن الحاضر، حسب سانتياغو غامبوا". عندما كنت طالبا في باريس، لم أصب شخصيا بمرض عوليس، غير أنني شعرت بالخوف وبانعدام الأمان وفقدت احترام نفسي، لكن دون تراجيديا." هل ثمة علاقة ميكانيكية بين المؤلف وشخصيات روايته المقيدين بلعنة الغرباء؟ لا. يقول سانتياغو: "لم أكتب "مرض عوليس" بخلفية سجالية أو اجتماعية، بل كتبتها لأنني شعرت بضرورة كتابة قصتي في باريس أنا والشخصيات التي كانت تدور في فلكي. إنها رغبة شخصية في ترك أثر ما عن واقع عشته عن كثب". من هذا الواقع، تنبثق صورة باريس عنيفة مدمرة. فمدينة الأنوار بالنسبة للكاتب مدينة غرائبية. تكون أحيانا ساحة حرب حقيقية لمن يحبونها وأحيانا أخرى امرأة متعالية على عشاقها أو عجوزا شمطاء تعلم العابرين فن المعاناة الكبرى، لكي يصيروا أصفى.

ما هي كيمياء "مرض عوليس" إذن؟ وكيف خلط سانتياغو غامبوا موادها؟ "كتبت، في البداية، الفصل الأول. ثم لما وصلت إلى نصف الرواية، كتبت الصفحتين الأخيرتين. فيما بعد، التقطت الصوت الذي كنت أسمعه وأنا في أتون الكتابة. أما نسبة الواقع في المادة الروائية الخيالية، فيمكن أن أوزعه كالتالي: 30 في المائة من حياتي الشخصية و70 في المائة من بنات أفكار الخيال. أما الباقي، فأستطيع أن أكشف عنه ببساطة: 10 في المائة لهنري ميللر، 25 في المائة من حديثي مع أصدقائي العرب، 5 في المائة من كافكا ومثلها من الأسى الذي خلفته عندي وفاة الكاتب الشيلي، صديقي روبيرتو بولانيو، وأخيرا 15 في المائة من معيشتي لأبناء جلدتي من مهاجري أمريكا اللاتينية." عجن الكاتب الكولومبي، كل هذه العناصر المتباينة بفنية عالية جعلته يقدم للقارئ خارطة نقدية للأفكار الجاهزة التي تعيق رؤية الآخر رؤية حقيقية. فالهجرة في فرنسا ليست فقط هجرة أهل المغرب العربي، بل هجرة الكوري والمكسيكي والأمريكي والهندي. أي "عولمة" السفر البشري الأبدي وتسييجه بقوانين جديدة تزهق روح الإنسان على شفرة الحدود الجغرافية والقانونية. والأدب يمكنه أن يكون قالبا للتقليدية والعمى الطبيعي للثقافات المتمركزة حول ذاتها أيضا بابتكاره أسلوبية وتراكيب سردية وتخييلية مغايرة في الكتابة والجمال أيضا.

استطاع سانتياغو أن يستنبت عالما روائيا متفردا قوامه البعد الإنساني وتوظيف الأجناس الأدبية المختلفة كالرواية البوليسية والأتوبيوغرافيا وتراث الشطار. وهو ما أهله لتقديم صورة أخرى حية وحداثية لأدب أمريكا اللاتينية. فالأشبال حافظت على كنوز الأسد، وتابعت الطريق بحرية السندباد المطمئن إلى ثبات اليابسة وجنون المحيطات. لم يمت إذن خوليو كورتازار، خورخيه لويس بورخيس، أرتورو أسلار بيتري، ميكيل أنخيل أستورياس... فقد خلفهم جيل جديد يحارب بلا هوادة التصنيفات المدرسية والأنتربولوجية التي يفصلها النقد الأوربي على مقاسه. نقد نتمناه للكتاب العرب الذين يكتبون بلغات أجنبية وهم مرتاحون في ملابس الحفل التنكري الثقافي المقام على شرفهم المهدور. عايش الكاتب مختلف الأجناس من مغاربة الضواحي في باريس إلى حفدة موتسي تونغ وغيرهم، غير أنه عندما يكتب يعتبر نفسه كاتبا كولومبيا حتى النخاع قبل أن يكون أديبا عالميا ذائع الصيت. النقد المزدوج هو وقود أدب أمريكا اللاتينية الجديد، أدب جارف مثل الحرارة الإنسانية المعمدة لقارة لها نفس ندوب العالم العربي. يوضح سانتياغو موقع كتاب قارته من خارطة الأدب العالمي: "مرت عقود والنقد الغربي يريد لأدب قارتي أن يكون سجاليا واجتماعيا. وكل ما كتب خارج نظرة كهذه يعتبر سطحيا. تعطي المركزية الأوروبية تعليمات صارمة للكتاب في مختلف مناطق العالم، وتعليماتنا نحن تتمثل في تأليف أدب غرائبي، ثوري وإيروتيكي. وأنا شخصيا أكتب ضد نمطية مثل كهذه. "الكاتب في النهاية ـ حسب صاحبنا ـ دائما ينهل من الماضي والخيال. فكل ما قد يحكيه الآخرون يصير قطعة صغيرة من حياتنا. فمتى نمد اليد لفتح كتاب الأدب في العالم، لنرى وجوهنا في نصوص حدودية من أمريكا اللاتنية أو آسيا تشاركنا همومنا الصغيرة والكبيرة عوض النظر الأبدي إلى باريس، لندن أو نيويورك؟ متى.