النموذج اليهودي.. هل يصلح للمسلمين في أوروبا؟

الإسلاموفوبيا وإشكاليات التهميش والاندماج في كتاب مصري

TT

(الإسلاموفوبيا) ظاهرة جديدة أفرزتها جملة الأحداث الإقليمية والدولية التي شهدها العالم مع بداية الألفية الثالثة، وهي تعني الخوف المرضي غير المبرر من الدين الإسلامي والمسلمين. ويستمد هذا المفهوم" الفوبيا" من قاموس الأمراض النفسية عند التعبير عن حالة من حالات الوسواس القهري حين لا يستطيع المريض التحكم في ردود أفعاله عند تعرضه للمثير الذي يسبب خوفه وإرهابه. غير أن هذا المفهوم، (الإسلاموفوبيا) في حالته التاريخية والثقافية والسياسية، له جذور عميقة تعكس تاريخا مضطربا في أحيان كثيرة بين الغرب والشرق.

وفي خضم الأزمات التي تعصف من وقت لآخر بعلاقات المسلمين، تساهم بعض وسائل الميديا الغربية في إذكاء مشاعر الخوف من الإسلام والمسلمين وتصور وجود ما يقرب من 16 مليون مسلم في أوروبا بوصفه خطرا داهما على مسيرة أوروبا التاريخية.

في "كتاب الإسلاموفوبيا" يحاول الدكتور سعيد اللاوندي المتخصص في الشؤون الأوروبية، الوقوف على ظاهرة (الإسلاموفوبيا) راصدا أسبابها وتجلياتها وانعكاساتها على الوجود العربي والإسلامي في أوروبا، ويقترح في الوقت نفسه حلولا قد تساهم في ردم الفجوة بين دعاة الاندماج ودعاة التهميش.

يتناول الفصل الأول من الكتاب أوضاع المهاجرين العرب في أوروبا، ويستهلها الكاتب بتحليل أسباب كثافة معدلات الهجرة العربية لأوروبا في العقود الأخيرة وبخاصة فئة الشباب المثقف ذوي المهارات التقنية. ويجمل اللاوندي تلك الأسباب في استمرار بعض الأنظمة المستبدة وشبه المستبدة في توجهها المناهض لتوجهات الشباب العربي، فضلا عن محدودية المبادرة الشخصية، حيث تضع أجهزة الدولة يدها على كل شيء، واعتماد نظم اقتصادية موجهة على حساب النظام الاقتصادي الحر، كما أن معظم اقتصاديات الدول العربية ريعية في الأساس وغير قائمة على نشاط اقتصادي إنتاجي إبداعي. وبالطبع كان مردود ذلك تأخرا تنمويا ترصده تقارير التنمية البشرية المتعاقبة. ويعكس التعليم حجم هذا التأخر، وهذه الفجوة المعرفية الواضحة، فبينما تصل نسبة التعليم العالي في الولايات المتحدة الأميركية إلى 90%، لا تتجاوز هذه النسبة 12% في البلاد العربية.

ويشير الكاتب بعدها إلى أوضاع المسلمين في أوروبا، مبينا نسبتهم في كل دولة أوروبية وظروفهم المهنية والمعيشية. وينتقل إلى تحليل أثر الهجرة على أوروبا وحداثتها والصيحات التي تتعالى محذرة من أن الهجرة ستصبح عما قريب قضية العالم المركزية، ومن ثم يتوجب مواجهتها اليوم قبل الغد. ويرى المؤلف أن أوروبا تعيش مأزقا حقيقيا إزاء أفواج المهاجرين التي تأتي إليها برا وبحرا وجوا، وهي محكومة في هذه المواجهات باعتبارات قد تكون متناقضة، فهي نتيجة الضغط الاقتصادي، في حاجة ماسة إلى شرائح بعينها من المهاجرين، كذلك بسبب حاجتها إلى تجديد شبابها بعد ارتفاع نسبة كبار السن في مواطنيها، لكنها في الوقت نفسه تخشى-لعدم رغبة أو ضعف اندماج هؤلاء المهاجرين في مجتمعات أوروبا ـ أن تتحول مناطق المهاجرين إلى بؤر للعنف والإرهاب وعدم الاستقرار.

ويشير المؤلف بعد ذلك إلى إشكاليات التهميش والاندماج التي يواجهها مهاجرو الجيل الثاني من مسلمي أوروبا، ويرى أن قضية الاندماج صارت تشغل مساحة كبيرة في أجندة اهتمامات رجال السياسة والاجتماع، خاصة بعدما تبين أن هناك شعورا سائدا بين الأوروبيين" بأن جوهر هويتهم وثقافتهم وتقاليدهم يواجه تهديدا من قبل المهاجرين وثقافتهم المغايرة. غير أن المهاجرين، من جهة أخرى، يشعرون بأنهم بقعة من الزيت غير قابلة للذوبان في المحيط الاجتماعي من حولهم". ويرى المؤلف أن الجيل الأول من المهاجرين لم يواجه هذه المشكلة بسبب حنينهم وارتباطهم بأوطانهم الأصلية، إضافة إلى عدم اكتسابهم اللغة والخبرات الحياتية الجديدة في أرض المهجر، لكن المشكلة الحقيقية تواجه الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين ممن ولدوا في أوروبا، وحملوا الجنسية، ونشأوا على سلم قيمي ومعرفي مغاير لذلك الذي يملأ عقول وقلوب الآباء. واعتبر المؤلف أن أولى المشاكل التي تواجه قضية الاندماج تكمن في اللغة التي تمثل حجر الزاوية في إمكانية الاندماج مع المجتمع الأوروبي من عدمه. ويبرز الكاتب نماذج أغلبها لأطفال يواجهون مشاكل تتعلق بتعلم باللغة وعدم قدرة الأسرة المنهكة جراء العمل اليومي المضني على التواصل مع بعضها بعضا بلغة واحدة، إذ يفضل الآباء أن يتعلم أولادهم اللغات الأوروبية بينما لا يجيد كثير من الآباء تلك اللغة ويتحدثون باللغة العربية التي لا يجيدها الأطفال، بل يخجل بعضهم من تعلمها حتى لا يواجهوا سخرية نظرائهم الأوروبيين. وينقل المؤلف وضع إحدى هذه الأسر من خلال الأب الذي يعيش في باريس منذ عشرين عاما تقريبا ويقول" ليس عندي من الوقت ما يسمح لتعليم الأولاد أي شيء. فطوال اليوم أظل في عملي خارج المنزل وعندما أعود أشعر أن قواي منهكة، فأجلس إلى مائدة الطعام، حيث أتناول العشاء بينما يكون الأولاد منشغلين بمشاهدة التلفزيون...بعد ذلك يذهب كل منا إلى سريره. هذه الظروف الصعبة لا تجعلني أتحدث مع أولادي كثيرا فهم لا يعرفون اللغة العربية، كما أنني أجهل اللغة الفرنسية. وعندما أحاول التحدث معهم بالعربية يفهمون عكس ما أقول. وقد آلمني كثيرا أن حديثي بالعربية يثير ضحكهم، كما أنني عندما أطلب منهم أن يشرحوا لي ما يقال في التلفزيون يتأففون. وكانت النتيجة أني أتركهم مشدودين للتلفزيون وأتكوم على نفسي في ركن الحجرة أستمع لبعض الإذاعات العربية".

يطرح اللاوندي في سياق بحثه عن حلول لمشكلة الاندماج حلا وسطا يوائم فيه المهاجر بين ما يريده لنفسه وما يريده المجتمع منه. وذلك لا يعني بحسب المؤلف تجاوزا لأنساقه القيمية التي نشأ فيها وتربى عليها، بل عليه أن يندمج بالقدر الذي لا يشعر الآخرون معه (من أبناء البلد الأوروبي) أنه دخيل عليهم أو غريب عنهم، وفي الوقت نفسه لا يشعر(هو نفسه) أنه قد ابتعد عن أصالته ومنابع ثقافته الأولى. ويرى اللاوندي في النموذج اليهودي للاندماج في المجتمعات الأوروبية مثالا ناجحا على صحة هذا المسلك الذي يوائم بين "الأنا" و"الآخر"، خاصة إذا كان الطرفان يعيشان أجواء واحدة. إذ يستلهم الذكاء الأوروبي منطق الحركة اليهودية للاندماج التي سرت في أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر رافعة الشعار الشهير للكاتب اليهودي يهودا ليب جوردون" كن يهوديا في بيتك إنسانا خارجه". ويعتقد اللاوندي أن هذا الشعار كان السبب الحقيقي وراء النجاح الذي حققته الدياسبورا اليهودية في أوروبا وأميركا، إضافة إلى ما حققه اليهود من وحدة وتآلف تعكسه اتحادات المنظمات اليهودية التي أصبحت تتمتع بثقل سياسي يعمل له ألف حساب في أضيق دوائر صنع القرار في العالم.

وفي فصل تال يعرض اللاوندي نماذج من تأثير الإعلام ودوره في ما يسميه صناعة كراهية المسلمين. ويستهل استعراضه لها بالإقرار بأن هناك صورة نمطية مشوهة للعرب في الموروث الأوروبي الغربي، مرورا بتعريفات المؤلفات العلمية لمرادف كلمة عربي، وانتهاء بتلقف الإعلام لهذه الصورة وتطويرها والعمل على نشرها في كافة الأرجاء ضمن منظومة الربط بين الإسلام والإرهاب، كما أن مفهوم صراع الحضارات قد عزز من الإسلاموفوبيا التي تروج لها أقسام من الميديا الغربية في السينما والتلفزيون والصحافة بل حتى أزمة الرسوم الكاريكاتورية ، وينهي فصله باستشهاد للكاتب الأميركي بول فيندلي في كتابه" كفى صمتا" إذ يقول: "في بلادنا عندما نفكر عن الإسلام نستحضر على الفور الصورة المرئية التي تبثها وسائل الإعلام وتصور فيها العنف...والغريب أن معظم ما تبثه وسائل إعلامنا عن الإسلام هو معلومات خاطئة تماما وبعيدة كل البعد عن الإسلام الحقيقي".

وفي الفصل الأخير من الكتاب وهو بعنوان" لماذا يخاف الغرب من الإسلام؟.. شهادات ورؤى" يورد المؤلف عدة آراء مهمة لعدد من الشخصيات التي تلعب دورا بارزا في تحليل قضايا المسلمين في أوروبا والبحث عن حلول توائم بين الحداثة والإسلام في مجتمعات أوروبا كتبت خصيصا للمساهمة في إثراء النقاش حول الإسلاموفوبيا في الغرب. ومن أبرزهم رجاء جارودي الذي يطرح آراءه حول الأصولية والاندماج في مسألة المهاجرين. ويكتب جان دانييل رئيس تحرير مجلة "نوفيل أوبزرفاتور" الفرنسية عن أن مشكلة الهجرة مسؤولية مشتركة. ويساهم المفكر الجزائري البارز محمد أركون في هذا النقاش بمقالة عن إنصاف الذات وإنصاف الآخر. ويكتب باتريك سيل الكاتب البريطاني المتخصص في شؤون الشرق الأوسط مقالة بعنوان" أوروبا...مع الهجرة أم ضدها؟ ؟ ويختتم دومنيك فيدال مساعد رئيس تحرير صحيفة" لوموند ديبلوماتيك" الفرنسية هذه الشهادات بصيحة شجاعة عنوانها "علينا أن نتخلص من التمييز العنصري" ويدعو فيها الغرب إلى إجراء اصلاحات جذرية تصب في تحسين أوضاع المهاجرين من أجل إنهاء "الجيتوهات" وضمان قدرة الوصول إلى التعليم والتوظيف والصحة والثقافة والرفاهية للأوروبيين والمهاجرين على حد سواء، وضرورة مكافحة أشكال التفرقة العنصرية المختلفة بما في ذلك تلك التي تمارسها الشرطة، إضافة إلى أهمية تركيز النقاش حول هذه القضايا بغية وضع تحديات دقيقة تسمح ببلوغها في أسرع وقت ممكن إذ ان الانتظار يعني المخاطرة.

مواءمة لا بد منها

وفي نهاية بحثه حول الإسلاموفوبيا وانعكاساتها، يرى اللاوندي أن الوجود العربي في أوروبا بات مهددا، إن لم يكن بالطرد والإقصاء فسيكون بالتحجيم والتهميش، خاصة في ظل الدعوات اليمينية المتكررة للحد من الهجرة خوفا مما تسميه هذه الدوائر"الخطر الإسلامي" على القارة العجوز. غير أن اللاوندي يعود في النهاية، وبعد ثنائه على دوائر سياسية، خاصة في اليسار وجمعيات حقوق الإنسان في عدد ممن الدول الأوروبية، ليؤكد أن المصلحة العامة تقضي باستخدام جميع السبل لتيسير اندماج الجاليات الإسلامية في المجتمعات الأوروبية وعدم الخلط بين الإسلام من ناحية، والأصولية من ناحية أخرى، سيما أن الأصولية المتطرفة هي داء يصيب كل الديانات والمذاهب والإيديولوجيات، وصفحات التاريخ الإنساني تحف من بد الخليقة وحتى اليوم بأحداث عنف من كل لون وجنس. إن العولمة بمعناها الانفتاحي العام تتنافى مع التفكير العنصري الضيق، إذ ان التداخل الحادث بين العرب وأوروبا (أو بين المسلمين والمسيحيين) ثقافيا وحضاريا يجعل من الصعب الارتكاز إلى مقولات عنصرية..لئن كانت مقبولة في عصر الفيلسوف الفرنسي ارنست رينان في القرن قبل الماضي، فهي مرفوضة وممجوجة اليوم في عصر الفضاءات المفتوحة واقتصاديات السوق.