الفرنسية والأمازيغية في الثقافة المغربية

الصراع من أجل البقاء الثقافي ينطبق أكثر على الأدباء والمبدعين الأمازيغيين * إقصاء كل ما يكتب أو ينتج باللغة الفرنسية يكرس نوعا من الازدواجية * هناك نبرة وطنية ضيقة قائمة على تصور جامد لمسألة الهوية * الخيار واضح في بلد كالمغرب مشرف على تكريس اللامركزية

TT

ادريس كسيكس من بين النقاشات التي ظلت تؤرق بال المثقفين في المغرب خلال العقود الثلاثة الأخيرة ولم تخلص بعد إلى مخرج، ذاك النقاش الدائر حول إدراج اللغة الأمازيغية والدارجة المغربية واللغة الفرنسية في السياسة الثقافية للبلد واعتبار كل واحدة منها رافدا من روافد الثقافة المغربية. وهذا أمر يكتسي أهمية قصوى، بحيث لا ينحصر الانفتاح على إحدى هذه المكونات في الترخيص فقط لإقامة تظاهرات «هامشية» تحتفي بهذه اللغة أو بتلك وأن لا يتم الاكتفاء للتدليل على ذلك بفتح مجالات «ضيقة ومحدودة» لشاعر أمازيغي أو لكاتب مغربي ينشر باللغة الفرنسية، أو انتظار حصول بعض المستجدات المتناثرة هنا وهناك لتبرير اعادة طرح السؤال ذاته. ولعل أول معطى ينبغي الإشارة إليه هو التوجه الواضح والصريح الذي اتخذته الوزارة الوصية على الثقافة في المغرب من أجل إقصاء كل ما يكتب أو ينتج باللغة الفرنسية، رغم كثرته وجودته أحيانا، من دائرة التباري للحصول على الدعم الموجه للنشر وللمسرح، وإبقاء هذا النتاج الثقافي، رغم تعدده وانتشاره، حبيس مبادرات خاصة أو محكوما عليه بالارتماء في أحضان شبكة المصالح الثقافية الفرنسية الموجود بالمغرب. أكيد أن للوزارة المذكورة أسبابا إيديولوجية ومادية صرفة تبرر هذه التراتبية المعتمدة، لكن هذا الاقصاء يأتي ليكرس نوعا من الازدواجية المفتعلة داخل الحقل الثقافي المغربي ويعلن عن قطبية صورية، ما زال ينتفي التواصل فيما بين قطبيها، يتمثل أحد أقطابها في من يدخل تحت لواء الوزارة وأتباعها في اتحاد كتاب المغرب، من فئة المعربين، مقابل من يوسمون بالارتباط مع العديد من دور النشر الحرة وكل من يدور في فلك المصالح الفرنسية، ممن يدعون تجاوزا بالفرانكفونيين. والأخطر في هذا التصنيف، إضافة إلى ما يتضمنه من غلو، كونه يحدث شرخا فاصلا داخل حقل أدبي يكتسب غناه من تعدديته، ويوحي بوجود تضارب وتناقض بين أهم رافدين من روافد الثقافة المغربية بينما كان بوسعه استثمارهما لإنعاش الدينامية الثقافية بالمغرب. وما يزيد الطين بلة هو انعدام أية استراتيجية لدى المسؤولين عن الشأن الثقافي بالمغرب لتدبير شراكة ناجعة مع المؤسسات الفرنسية الفاعلة بعقر دارهم . فتجد أن الخطاب السائد يدعو إلى تكريس الهوة وترك «الفرانكفونيين» وحالهم بين أيدي، أو قل في شرك، الفرنسيين. لا داعي لاستقراء ما يحيل إليه هذا الحكم من نبرة وطنية ضيقة قائمة على تصور جامد لمسألة الهوية، ولكن لا بأس أن نذكر أن هذا الاقصاء يدخل في خانة تدعى: «كم من حاجة قضيناها بتركها»، بل إن التخلي عن مكون ثقافي بدعوى اعتماده على لغة أجنبية ما زالت فاعلة في دينامية المجتمع قد يقال في حقه أيضا «كم من ثروة بددناها بإقصائها». وهنا يأتي العنصر الثاني الذي نود اثارته في هذا الباب ويخص التعامل الذي تخصصه تلك المؤسسات الفرنسية لمن يطرق بابها مرغما. لن أذكر في هذا الحيز ما تخصصه من مبالغ لدعم مشاريع دور النشر مثلا، فذلك يقوي السياسة التي تسنها باريس لنشر وتكثيف النتاج الفرانكفوني ويستجيب في الوقت ذاته لطلب داخلي لا يدخله مهندسو السياسة الثقافية بالمغرب في الحسبان. ما نود ذكره هنا هو ما فاه به مؤخرا مسؤول فرنسي في حق مديرة المعهد الفرنسي بالرباط، حين قال: «إن لديك تصورا مبالغا فيه للدور الذي يجب أن يضطلع به المعهد»، وما تلى ذلك من محاولات لتلطيخ صورة هذه الموظفة لا لشيء، إلا لكونها وكما جاء على لسانها «حاولت أن أخلق قنوات تواصل وشراكة فعلية مع المجتمع المدني ومع المثقفين». وبغض النظر عما يخفيه هذا الجدل من تعارض تكتيكي بخصوص الطريقة المثلى التي يجب اتباعها لإعادة الانتعاش للثقافة في السياسة الخارجية الفرنسية، حسب ما أوردته صحيفة «لوموند» في ملف خاص، فان الأمر يدل بجلاء على محدودية المجال المتاح وعلى أن فرنسا، كما جاء في دورية سابقة وجهت لمديري المعاهد بالمغرب، «لم تأت للتحريض على الشغب». مما يعني أن ما قد يقدم كمساندة في مجال الانتاج الثقافي لا يأخذ بعين الاعتبار الهم الثقافي المغربي المعبر عنه باللغة الفرنسية وإنما مدى استجابته لمرامي السياسة الخارجية الفرنسية في محيطها الفرنكفوني. وحالة مديرة المعهد الفرنسي بالرباط التي تحاول ادخال مطالب مخاطبها في الحسبان تدخل في باب الاستثناء الذي لا حكم له أو عليه. أما أولئك الكتاب والمبدعون المغاربة الذين يضيقون ذرعا بهذا الحصار المزدوج المفروض من الرباط عن قرب ومن باريس عن بعد، فيفضلون «الهجرة الأدبية والفنية». والبقية الاخرى الصامدة منهم تحاول خلق فضاءات مستقلة لا تحمل بالضرورة خاتم المؤسسات الرسمية.

هذا الصراع من أجل البقاء الثقافي ينطبق أكثر على الأدباء والمبدعين الأمازيغيين، خصوصا أن الجمعيات المدافعة عن حقوقهم ما زالت لم تحصل على صفة النفع العام. وإذا كان الوضع مع الفرنسية يقبل بعض الحلول الآنية ويفلت من قبضة الايديولوجيا الأحادية لأن هناك بدائل ولأنه منحصر في مجال الثقافة العالمة، فان الأمر مع المكون الثقافي واللغوي الأمازيغي أدهى من ذلك، إذ يتم التعامل مع المسألة بعملية تدريجية، ولكن دون الاستجابة للمطالب الثقافية الجوهرية المتمثلة في ادراج الأمازيغية كلغة وطنية في مجال البحث، وفي تخليص كتب التاريخ من الأكاذيب التي طالتها، من قبيل القول بـ«قدوم سكان المغرب الأولين من اليمن عن طريق الشام ومصر» والمتمثلة كذلك، على سبيل المثال لا الحصر، في تخليص الفن الأمازيغي من صفة الفلكلور التي التصقت به. فلا سياسة النشر ولا دعم المسرح ولا حتى مجموع المهرجانات التي تقيمها وزارة الثقافة التي يديرها مناضل اشتراكي أخذت المكون الأمازيغي مأخذ الجد وأقحمته في برامجها بشكل رسمي ومبني على تصور متجدد للمسألة الثقافية.

كل هذا يدفعنا للتساؤل إن كان المغرب فعلا يريد، في زمن العولمة هذا، أن يتجند بكل ما من شأنه أن يقوي حركيته المجتمعية. فالخيار واضح بين الهوية الأحادية والتعددية الضامنة للديمقراطية الثقافية، خصوصا في بلد كالمغرب منفتح على الآخر، ومشرف على تكريس اللامركزية.