«العدو الحميم» .. أول فيلم سينمائي يقرُّ بجرائم الجيش الفرنسي في الجزائر

الكاميرا المحمولة على الكتف لوضع المتفرج في قلب المعارك

TT

يبدأ هذا الأسبوع عرض الفيلم الجديد، للمخرج فلورون سيري: "العدو الحميم". الإنتاج متّميز من حيث الإشكالية التي يعرضها والتقنيات السينمائية المستعملة. وهو أول إنتاج يتطّرق بشجاعة لموضوع بقي طويلا من ضمن المحظورات. فقد ظلت السينما الفرنسية تتفادى الخوض في موضوع الحرب الفرنسية - الجزائرية (1954- 1962) بسبب حجم الحساسيات، التي تُثار بمجرد الحديث عن هذه الحقبة التاريخية، إضافة للعامل العاطفي الذي يميزها، وكمّ الذكريات المؤِلمة التي لا تزال حيّةً في الذاكرة المشتركة للشعبين الفرنسي والجزائري. الإنتاج متميز على اعتبار أن الأفلام القليلة التي عالجت الموضوع قبل هذا، كانت كثيراً ما يَغلب عليها طابع الحنين والعاطفية، ولم يجر فيها تصوير العنف الذي ميّز هذه الحرب، إلا بطريقة إيحائية وضعيفة.

"العدو الحميم" يختلف من حيث جرأة المعالجة، ويمكن اعتباره أول إنتاج سينمائي فرنسي، يقِر رسميا بجرائم الجيش الفرنسي في الجزائر، ويتحدث عن تجاوزات الجيش في استعماله لأساليب التعذيب والأسلحة المحظورة في واحدة من أعنف حروب العصر الحديث. وهو إنجاز كبير في حد ذاته، علماً أن فرنسا انتظرت 37 سنة أي حتى أكتوبر 1999، لتعترف رسمياً بأن ما حدث في الجزائر كان حرب مقاومة واستقلال. وهي التي ظلت لعقود وحتى بعد انتهاء الحرب تصّر على تسمية ما حدث في هذه الحقبة "بعمليات لحفظ الأمن".

أحداث الفيلم تتعاقب عبر شخصية الضابط "تريان" الذي يمثل دوره "بنوا مجيمال" الحائز على جائزة أفضل ممثل، في مهرجان كان سنة 2000 عن دوره الممّيز في فيلم "عازف البيانو". أحداث الفيلم تحكي قصة شاب يتطوع في الجيش الفرنسي سنة 1959 قادما من جنوب فرنسا لخدمة وطنه، وهو لا يعرف عن هذه المستوطنة الفرنسية سوى ما يراه في النشرات، من أخبار عن بضعة متمردين يقلقون أمن الوطن في الجزائر، ليفاجأ بعد ذالك بحجم العنف وبشاعة الحرب وأساليب الجيش القاسية في التعامل مع الجزائريين. "تريان" هو بطل الفيلم، وهو في ذلك تجسيد لتأنيب الضمير الأخلاقي، حيث نراه يتمرد في كل مرة على أساليب التعذيب، القتل الهمجي والترحيل، ويدخل في اشتباك مستمر مع زملائه بخصوص الأساليب المستعملة. لقطات المواجهة التي تجمعه بزميله دونياك الذي يلعب دوره الممثل "ألبير دوبونتيل" تجسد التناقضات الكبيرة التي ميزت هذه الحرب، كاللقطة التي بدا فيه تريان وهو يسأل زميله دونياك، لماذا يعامل الجيش الأهالي بهذه الطريقة، وهو الذي، من المفروض، أنه آت لحمايتهم. أليسوا مواطنين فرنسيين أم أنهم مواطنون من الدرجة الثانية؟ أو تلك اللقطة التي يبرر فيها ضابط المخابرات "برتو" لتريان لجوءه لأسلوب التعذيب مع الاهالي، ليعترف له بعد ذلك أنه نفسه قد عانى من التعذيب، وهو جندي في الحرب التي خاضتها فرنسا في الهند الصينية. كما نرى الجندي دونياك، وهو ينتقد المقاومين الجزائريين، ويجادل المجاهد الذي مثل دوره الجزائري محمد فلاق، حول جدوى المقاومة، لنعلم بعد ذلك أنه نفسه قاوم الألمان في منطقة "ليموزان". التناقضات تستمر وتتصاعد لغاية آخر الفيلم، حيث نكتشف أن الشخصيات تنقلب تماما. فبينما يقرر الجندي دونياك الذي كان يختلف مع تريان ويجد التبريرات للتجاوزات والعنف، الهرب من الجيش، يصبح الضابط تريان، مثل غيره ممن يعذبون وينتهكون الحقوق.

تأثير التجربة الهوليوودية للمخرج فلوران سيري، الذي سبق وأن تعاون مع بروس ويليس في فيلم "الرهينة"، بدا واضحاً في طريقة تصويره للفيلم الذي جاء قريبا جدا من الأفلام الحربية الأمريكية. فهو على غرار فيلم "من ينقذ الجندي رايان؟" و"بلاتون". وقد ظهر ذلك تقنياً، من خلال اللقطات القصيرة والمفاجئة، وسرعة تسلسلها، مع اللجوء لتصوير المعارك من زوايا مّقربة. تبني هذه التقنية جاء مُتعمدًا، كما يقول مخرج الفيلم الذي يشرح: "انها تقنية استخدمت لتجسيد قوة العنف والفظاعة التي تميزت بها هذه الحرب. كان من اللازم وضع المتفرج في قلب الأحداث. وهذا لن يحدث إلا إذا حملنا الكاميرا على الكتف ودخلنا بها ساحة القتال، لنعيش أحداثها بأعين الجنود". التأثير الهوليوودي كان واضحا أيضا، باعتراف المخرج نفسه الذي قال انه استوحى عنوان الفيلم من عبارة شهيرة في فيلم "بلاتون" للمخرج الأمريكي أوليفر ستون حيث يقول أحدهم: "ليس عدوك هو من أمامك بل من بداخلك...". وهو نفسه مغزى الفيلم الفرنسي الذي يطرح إشكالية صراع الإنسان مع نفسه، بسبب تصادم قناعاته الشخصية وضميره الأخلاقي، مع ما يمليه عليه واجبه كجندي يحافظ على مصالح وطنه. لكن على عكس الأفلام الحربية الأمريكية، فإن "العدو الحميم" ليس بطوليا، ولا يُظهر الجيش الفرنسي إلا وهو يُهَاجم أو يُهزم، كما بينّ هشاشة قضية الجنود الذين غمرهم الشّك في جدوى القتال، فظهر العمل كأنه دعوة لنبذ العنف والحروب. وهو ما أوحت به عبارة الجندي دونياك الذي قال في آخر الفيلم: "أصدقاؤنا ماتوا من أجل لا شيء..."

للتذكير فإن موضوع الفيلم يتطرق لحقبة مهمة من الحرب الفرنسية - الجزائرية. وهي الفترة الممتدة بين يوليو (تموز) 1959 لغاية مارس (آذار) 1960، والمطابقة تاريخياً للمرحلة المسماة "بمخطط شال" التي عمد خلالها الفرنسيون إلى تصعيد المواجهة من أجل القضاء على المجاهدين المختبئين في الجبال. كما تميزت هذه الفترة بارتفاع وتيرة التجاوزات، وإفلات الجنود من العقاب، بسبب التصويت على قانون حالة الطوارئ في أغسطس 1955، فكثُر التعذيب وترحيل الأهالي. ولهذا فقد اعتبرت هذه الفترة تاريخيا، من أعنف فترات الحرب الجزائرية -الفرنسية.

وقد ظهرت في نهاية الفيلم، فقرة مكتوبة تُذكرنا أن مليوني فرنسي شاركوا في هذه الحرب وأن 27.000 منهم فقدوا حياتهم، مقابل 1.600.000 جزائري (مليون ونصف) حسب الأرقام الجزائرية.