عندما كانت شمس العرب تسطع على الغرب

جان جو ليفيه والإرث الفلسفي العربي

TT

يعتبر جان جو ليفيه احد كبار المختصين بالفلسفة العربية الاسلامية ثم اللاتينية المسيحية في القرون الوسطى. فقد كرس حياته العلمية المديدة لاستكشاف هذا الموضوع من مختلف جوانبه. والبروفيسور جو ليفيه هو مدير دراسات في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا ـ قسم العلوم الدينية في السوربون ـ وقد ولد عام 1925 في ضواحي باريس، وتابع دراساته العلمية حتى ناقش رسالة الدكتوراه عن مفهوم العقل لدى الفيلسوف العربي الأول: الكندي. ثم اصبح استاذاً لمادة تاريخ الدين والفلسفة في المسيحية والاسلام في القرون الوسطى.

يساهم جان جو ليفيه في العديد من المجلات الاختصاصية كمجلة أرشيفات التاريخ العقائدي والأدبي للقرون الوسطى، ثم مجلة الميتافيزيقا والأخلاق، ثم مجلة آرابيكا، ثم مجلة العلوم والفلسفة العربية (بالانجليزية).

من أهم أبحاثه: تأثير الفلسفة الاسلامية على الفلسفة اللاتينية المسيحية في القرون الوسطى، ثم ابن رشد ونحن، ثم توسع الفكر الفلسفي في علاقاته مع الإسلام حتى ابن سينا، ثم الاسلام والعقل طبقاً لبعض المؤلفين المسيحيين اللاتينيين في القرنين الحادي عشر والثاني عشر. وفي عام 1995 نشر كتابه الاساسي عن الفلسفة القروسطية العربية ـ واللاتينية. والآن نطرح هذا السؤال: ما هو تأثير الإرث العربي على الفلسفة المسيحية في أوروبا؟ وعليه يجيب جان جو ليفيه قائلاً: بدءاً من منتصف القرن الثالث عشر احتل الفلاسفة العرب مكانة حاسمة في التفكير المسيحي اللاتيني سواء أكان فلسفياً أم دينياً. في الواقع ان فلاسفة اوروبا آنذاك ما كانوا يعرفون عدداً كبيراً من فلاسفة العرب. ولكن كان هناك اثنان لا يمكن لأي فيلسوف اوروبي يحترم نفسه ان يتجاهلهما وهما: ابن سينا وابن رشد. وكان ينبغي على فلاسفة أوروبا آنذاك ان يختاروا بينهما: فاما ان يتبعوا هذا، واما ان يتبعوا ذاك. (أفتح هنا قوساً واقول بان فلاسفة أوروبا كانوا يفتخرون آنذاك بانهم يعرفون اسماء فلاسفة العرب مثلما نفتخر نحن اليوم باننا نعرف اسماء سارتر، أو فوكو، أو كانط، أو هيغل، أو ماركس، الخ.. وهذا دليل على مدى اهمية العرب آنذاك في الناحيتين العلمية والفلسفية. فقد كانوا قدوة للآخرين. ثم انقلبت الأمور بعدئذ وأصبح الأوروبيون في المقدمة ونحن في المؤخرة. واصبحنا مضطرين لتقليدهم والأخذ عنهم بعد ان كانوا هم الذين يأخذون عنا..) ثم يردف البروفيسور جان جو ليفيه قائلاً:

ولكن اذا كان فلاسفة العرب قد احتلوا كل هذه الأهمية بالنسبة لفلاسفة أوروبا فان ذلك لم يحصل فجأة بين عشية وضحاها. وانما تمت الأمور على مراحل وقد ابتدأت بالترجمات التي استغرقت اكثر من قرن وانتهت حوالي عام (1230م) حيث أنجزت الترجمات الاساسية لشروحات ابن رشد لارسطو. وقد شهد القرن الثاني عشر في اوروبا ظهور بعض الكتابات الفلسفية المترجمة عن العربية، ولكن سبقتها الترجمات العلمية المحضة في الفلك، والطب، والفيزياء، الخ. ونلاحظ مثلاً ان الفيلسوف "أديلاد دوباث" يثني على العلم والمنهجية العقلانية التي تعلَّمها لدى أساتذته العرب. وحوالي عام 1150 ميلادية يقول أحد كبار رجالات المسيحية الأوروبية بان المسلمين اشخاص أذكياء وعلماء. فمكتباتهم مليئة بالكتب التي تعلم العلوم المختلفة من منطق، وفلسفة، وعلوم طبيعية. وقد استفاد منها المسيحيون كثيراً وترجموها. وهناك مفكر آخر في نفس الحقبة يتحدث عن الفوائد التي أخذناها عن كنوز العرب المعرفية. وعلى الرغم من ان القرن الثاني عشر كان مشغولاً بالحروب الصليبية إلا ان ذلك لم يمنع مفكري اوروبا من الاستفادة من علوم أعدائهم التاريخيين!! في الواقع ان الأصوليين المسيحيين المتشددين هم وحدهم الذين أفتوا بمنع الأخذ عن المسلمين. ولكن المعتدلين الأذكياء أفتوا بعكس ذلك وقالوا: نأخذ العلم حيث وجدناه. ولحسن حظ أوروبا فان هذا التيار الثاني هو الذي انتصر، وأدى بالتالي الى نهضة اوروبا. ولو ان التيار المتشنج او المتشدد هو الذي انتصر لظلت أوروبا تغطّ في ظلمات الجهل المتخلفين. وقد تمت تلك النهضة أساساً على أكتاف الترجمات العربية. فماذا كان سيحصل لو أن التيار المتطرف هو الذي انتصر؟ كانت أوروبا سوف تستمر في ظلاميات العصور الوسطى. والآن نلاحظ ان الأمور انعكست تماما. فأوروبا بالإضافة إلى امريكا بالطبع اصبحت هي المتقدمة، ونحن المتخلفون علمياً وحضارياً. ولكننا انقسمنا ايضاً الى قسمين. فبعض المتطرفين العرب أو المسلمين ينادون بمعاداة الغرب كلياً وعدم التفاعل معه ثقافياً وفلسفياً. والبعض الآخر ينادي بالتفاعل الفكري والمنهجي من أجل النهوض مستقبلاً. ولذا فيمكننا القول: ما أشبه الليلة بالبارحة! مهما يكن من أمر ففي بداية النهضة الأوروبية الأولى حصلت الترجمات أقصد ترجمة العلم والفلسفة العربية إلى اللغة اللاتينية التي كانت سائدة في جميع انحاء أوروبا. وقد ابتدأوا بترجمة الكتب العلمية العربية قبل ترجمة الكتب الفلسفية بزمن طويل. فبدءاً من نهاية القرن الحادي عشر الميلادي أصبح الناس في أوروبا قادرين على قراءة الكتب الطبية المترجمة عن العربية. هل كانت الترجمات جيدة أم رديئة، هذه مسألة أخرى. ثم ترجمت كتب علم الفلك، وكتب الحسن ابن الهيثم عن البصريات، وكتب الرازي عن الكيمياء، وكتب الخوارزمي عن الجبر والرياضيات، الخ.. بعدئذ اخذوا يترجمون الكتب الفلسفية، وقد تمت معظمها في مدرسة طليطلة باسبانيا المختصة بالترجمة. فترجموا كتاب "الشفاء" لابن سينا، وكتاب "مقاصد الفلاسفة" للغزالي وهو عبارة عن تلخيص لفلسفة ابن سينا. ثم ترجموا بعض كتب الفارابي والكندي وبالطبع ابن رشد. وهم إذ نقلوا علم العرب نقلوا ايضا علم الاغريق لأن العرب كانوا قد استوعبوه وحوَّلوه وأغنوه.. وفيما يخص الفلسفة العربية الاسلامية يقول البروفيسور جان جو ليفيه: ان الفلسفة المتأثرة بالاغريق ذات تاريخ معقد. فقد بلغت ذروتها في الشرق لدى ابن سينا القريب من فكر افلاطون، وبلغت ذروتها في الغرب الاسلامي على يد ابن رشد القريب جداً من ارسطو. فيما يخص ابن سينا يمكن القول بأنه أحد كبار فلاسفة الاسلام. وفلسفته تقع على مفترق طرق بين الفكر الشرقي والفكر الغربي. وقد ترجمت كتبه مع كتب الكندي والفارابي والغزالي قبل ان تترجم كتب ابن رشد.

ومن المعلوم ان موسوعة "الشفاء" تشكل الكتاب الاساسي لابن سينا. وهي تشمل المنطق، والفيزياء، والميتافيزيقا. وقد أثرت كثيراً على المسيحيين في القرون الوسطى وشكلت تياراً فكرياً لا يقل أهمية عن التيار الرشدي. نقول ذلك على الرغم من انه لم يوجد فلاسفة يتبعون مدرسته حرفياً، مثلما وجد تلامذة لابن رشد. ولهذا السبب انتصر تأثير ابن رشد العقلاني المحض على تأثير ابن سينا الممزوج بالتصوف والشطحات الخيالية.

يضاف إلى ذلك ان الغزالي أوقف تأثيره في العالم الاسلامي بعد ان أصدر كتابه الشهير: "تهافت الفلاسفة" فهو أساساً موجه ضد ابن سينا ويقول البعض بان الفلسفة في الشرق لم تقم لها قائمة بعد هذا الكتاب. ثم تصدى له ابن رشد في الغرب الاسلامي ورد عليه بكتاب لا يقل شهرة: تهافت التهافت. وكان هذا الكتاب بمثابة رد على انتقادات الغزالي وعلى مواقف ابن سينا الافلاطونية في آن معاً. فقد دعا ابن رشد الى اتباع الفلسفة الحقيقية: أي فلسفة ارسطو الواقعية لا فلسفة افلاطون المثالية. ولكن تيار ابن رشد الذي فشل في المغرب انتصر على الضفة الأخرى في المتوسط: أي في أوروبا. وبعد فشله ضمر التفكير العقلاني أو الفلسفي في الناحية الاسلامية، وراح يزدهر في الناحية المسيحية حتى وصلت اوروبا إلى ما وصلت اليه اليوم من تقدم وتطور وازدهار. ولهذا السبب قال ارنست رينان بان الفلسفة الاسلامية "ضاعت في الرمال" بعد موت ابن رشد.

ولكن فلسفة ابن سينا انتصرت في العالم الايراني الشيعي عن طريق تيار ما يدعى بالفلسفة الإشراقية. وقد أثر ابن سينا على مفكري اوروبا المسيحية كألبير لوغران، وروجيه بيكون، والقديس توما الاكويني، ودانتي... وغيرهم من كبار المفكرين والأدباء اللاتينيين. واما ابن رشد فقد كان تأثيره اكثر دواماً وبقاءً، بل واكثر اشعاعاً على الرغم من كل ما قلناه سابقاً. وقد اشتهر في اوروبا باسم: "الشارح"، أي شارح ارسطو. وعلى هذا النحو قدمه دانتي. والواقع انه ابتدأ حياته الفكرية على هذا النحو. فبعد ان قدمه ابن الطفيل الى الخليفة ابو يعقوب يوسف طلب منه هذا الأخير ان يشرح له كتب ارسطو. فانخرط في العملية لمدة عشرين سنة متواصلة. ولكن ابن رشد لم يكن فقط شارحاً، وانما مارس التأليف والكتابة المباشرة ايضا. ومن أهم كتبه المؤلفة:"فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، ثم "بداية المجتهد" ثم "تهافت التهافت"، الخ. ومعلوم انه في الكتاب الأول حاول توضيح العلاقات الكائنة بين الدين والفلسفة. وقدم نظرية متينة ومتماسكة من اجل المصالحة بين العقل/ والايمان في الاسلام. ومن هذه الناحية فإن كتابه لا يزال يتمتع بأهمية راهنة. أي تخص وضعنا الراهن ومأزقنا الصعب. ولكن عيب على ابن رشد تعلقه الشديد بارسطو. بل وحتى رفعه له إلى ما فوق مرتبة البشر. وهذا موقف يتخذه عادة الشارحون من كثرة تأثرهم بالفكر الذي يشرحونه. ولكنه لا يقلل من أهمية ابن رشد واستقلاليته الفكرية. صحيح أنه كان الأكثر وفاء من بين فلاسفة القرون الوسطى لارسطو، ولكنه لم يتخل عن تراثه العربي الإسلامي الأصيل. بل وسمح لنفسه بان يختلف مع ارسطو في بعض النقاط. ولا ينبغي ان ننسى ان ابن رشد كان ايضا طبيباً وفقيهاً عالماً في الدين. فعلى هذا النحو كان يمارس وظائفه الرسمية كقاضي قضاة في قرطبة. وفي حوالي الأربعين من عمره ألف كتاباً في الطب بعنوان "الكليات". وقد تُرجم إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر تحت عنوان: (Coppiget). وشرح العديد من كتب جالينوس بالإضافة إلى قصيدة طبية لابن سينا. وفي ذات الفترة ألف كتاباً في الفقه الإسلامي بعنوان: بداية المجتهد. وقد أمَّن له شهرة لا بأس بها في هذا المجال. ولكن لا ريب في ان عبقرية ابن رشد تتجلى في مؤلفاته الفلسفية بشكل خاص.

لكن ما هي خصوصية الفلسفة العربية ـ الإسلامية بالقياس إلى الفلسفة الاغريقية أو الفلسفة اللاتينية المسيحية؟ على هذا السؤال يجيب البروفيسور جان جو ليفيه قائلاً: ان الفلسفة العربية ولدت في محيط اسلامي مؤمن على عكس الفلسفة اليونانية التي ولدت في محيط وثني. يضاف إلى ذلك ان الفلاسفة حتى عندما كانوا يتمتعون بحماية الخلفاء والامراء لم يتوصلوا ابداً إلى استلام زمام السلطة الروحية او الثقافية في المجتمعات الاسلامية فهذه السلطة بقيت في أيدي الفقهاء ورجال الدين. هذا في حين ان فلاسفة اوروبا المسيحية كالقديس توما الاكويني مثلاً كانوا يتمتعون بسلطة روحية وفكرية ضخمة.

من المعلوم ان الكندي كان يقول بان الفلسفة تتشكل تدريجياً، وبالتالي فتحتاج إلى تراكم الجهود لعدة اجيال. وكان يقول أيضاً. ينبغي ان نبحث عن الحقيقة في كل مكان حتى لدى فلاسفة أجانب يتحدثون لغة اخرى غير لغتنا ويدينون بعقيدة أخرى غير عقيدتنا. وينبغي تعديل هذه الفلسفة لكي تتأقلم مع ظروفنا وتتكلم لغتنا العربية. ولهذا السبب راح ينتقد بقوة بعض الفقهاء الذين يعادون الفلسفة، بل ودعا إلى طردهم من المناصب التعليمية التي يحتلونها بدون حق.. وهذا التقدير الكبير لمكانة الفلسفة ينقض ما قاله رينان عن العرب والساميين بشكل عام. فمن المعلوم ان المفكر الفرنسي كان قد صاغ أطروحة شهيرة سيطرت على الغرب حتى الآن تقريباً. وهي تقول بما معناه: ان الفلسفة لدى الشعوب السامية ـ وبالتالي العرب بالدرجة الأولى ـ ما كانت أبداً إلا استعارة خارجية سطحية وبدون خصوبة كبيرة.

لقد كانت مجرد تقليد للفلسفة الاغريقية. وينبغي ان نقول الشيء ذاته عن فلسفة القرون الوسطى. وفي هذا الكلام نلمح آثار العرقية المركزية الأوروبية التي تنص على ان الشعوب الوحيدة الجديرة بالفلسفة والفكر العقلاني هي فقط الشعوب الأوروبية! وأما الشعوب الشرقية أو العربية الاسلامية فهي عاجزة عن الإبداع في هذا المجال.. ولذلك تظل متخلفة بالقياس الى اوروبا. وهذا كلام ينطوي على الكثير من المغالطة التاريخية. فقد أثبت العرب في عصور ازدهارهم وعطائهم انهم قادرون على الابداع في مجال العقل. والعلم، والفلسفة. واذا كانوا قد دخلوا في عصور الانحطاط بعدئذ وتوقفوا عن العطاء الحضاري. فإن ذلك عائد إلى ظروف تاريخية وسياسية، وليس إلى أسباب عرقية أو عنصرية كما يزعم ارنست رينان او غيره. وبالتالي فمستقبل العرب والمسلمين لا يزال أمامهم. ومن صنع الحضارة مرة يصنعها مرات.