لماذا نحن محكومون بالهزائم؟

نهاد حشيشو يجمع بين السيرة الذاتية والمذكرات ليؤرخ للمرحلة المعاصرة

TT

كثير من المحللين والمفكرين والباحثين والكتاب أدلوا برأيهم في أسباب هزائمنا المتواصلة، فعدد كبير منهم أعاد الأمر إلى الضعف العربي المستمر من تداعيات هزيمة 1967، والبعض الآخر وجد أسباب الهزائم في الديمقراطية المغيبة ومسألة حقوق الإنسان التي جعلت من المواطن العربي هامشياً لا يشارك في صنع وطنه، وقسم عزا الأسباب إلى جمود قوى اليسار.. لكن هل هذه هي الأسباب الوحيدة؟

بين السيرة الذاتية والمذكرات، والخاص والعام، يؤرخ نهاد حشيشو، مؤلف كتاب "قيادات وهزائم" لمرحلة معاصرة ما زالت أحداثها تتفاعل، ويحافظ على ضبط التواصل الزمني، والخط البياني للأحداث والأماكن والأشخاص والقوى السياسية ليقدِّم للقارئ عرضاً مبنياً على تجربة واسعة، منغمسة في التفاصيل تحليلاً وتشريحاً، فلا يكتفي بعرض السيرة بل يناقش الأسباب ليصل إلى النتائج، فيقدم وجهة نظر جديرة بالإطلاع عليها.

يتمحور الكتاب حول سؤال كبير: لماذا نحن محكومون بهذا القدر الكبير المتواصل والمتمادي، من الهزائم، وإلى متى، ومن هم المسؤولون عمّا جرى ويجري في بلادنا ولشعوبنا خلال هذه العقود الطويلة والمملة من الزمن؟.

كثير من المحللين والمفكرين والباحثين والكتاب أدلوا برأيهم في هذا الواقع المهزوم، وتحدثوا عن أسباب الهزائم المتمادية. فعدد كبير منهم أعاد الأمر إلى الضعف العربي المستمر من تداعيات هزيمة 1967 ورأى أن تلك الهزيمة لا تزال تجر أذيالها على يومياتنا وتتحكّم بالأحداث المصيرية. وهم يروون أن حرب 1973 لم تستطع أن تمحو آثارها بل أدخلت العالم العربي في متاهات تسويات متناقضة شلّت الحل السلمي وشرذمت القضية فحولتها من قضية صراع عربي إسرائلي إلى صراع دول عربية مفككة كل على حدة تعمل لتسوية مستقلة مع إسرائيل.

البعض الآخر من المنظرين وجد أسباب الهزائم في الديمقراطية المغيبة ومسألة حقوق الإنسان التي جعلت من المواطن العربي هامشياً لا يشارك في صنع وطنه، غير معني بالمساهمة في نهوض المجتمع، وذلك لأسباب تتعلّق بممارسة الحكم وكيفية إدارة القيادات لشؤون المواطنين الذين انعزلوا داخل لقمة عيش يستجدونها. والبعض رأى في جمود اليسار السبب الأهم، فقد أصبح اليسار قوة سلفية، وذلك نتيجة تحنيط الفكرة باعتبارها كلّية الصحة إجمالية الحقيقة لا يأتيها الباطل، ولا تحتاج إلى محرك لتواكب التطورات والمستقبل، هذا التقديس أدّى إلى تجمّد الفكر، وعدم القدرة على مواكبة العصر، فتخلفنا والتخلف السبب الأهم في الهزيمة. يرى المؤلف أن هذه التحليلات وغيرها جزء من أسباب الهزيمة لكنها ليست الأسباب الوحيدة. ويرى أن نمطاً محدداً من التفكير والممارسة جرى اعتقاده واعتماده وتنفيذه أدّى إلى حصول ما حصل. كتابه، كما يقول، ما هو "إلاّ إطلالة على الأسباب والعوامل والظروف التي أحاطت بجملة المؤثرات، الذاتية والموضوعية، التي كان لها نتائج حاسمة على جوهر الصراعات وعناصرها. وإن تحديد مسؤوليات مواقع المهزومين وإسهاماتهم لا يجب أن يتم بالجملة. هناك تنوع وأولويات لا بد من كشفها والبحث عنها حتى نكف عن إلقاء المسؤوليات في كل ما حصل ويحصل من مآس ونكبات على الخصوم والأعداء ونظرية المؤامرة والتهرب من التبعات والنتائج".

ومحاولة الإجابة عن السؤال الذي يتمحور عليه الكتاب، يعرض المؤلف في الباب الأول نشأته وتربيته ومدرسته وأثر نكبة فلسطين على لبنان وخصوصاً مدينته صيدا، التي شهدت تغيراً ديمغرافياً عنيفاً، وحراكاً اجتماعياً مختلفاً عن المتغيرات البطيئة التطورية العادية، خلّف واقعاً متغيراً جذرياً.

ثم يستعرض تحت عنوان سنوات الخصب السياسي والمراهقة 1952ـ1955 حركة الضباط الأحرار في مصر وموقف الشيوعيين والبعثيين والقوميين، والتظاهرات التي نظمت في الجامعة الأميركية في بيروت تأييداً لإلغاء البرلمان المصري لاتفاقية 1936 مع بريطانيا، ولجلاء القوات البريطانية عن منطقة القنال. ويعرض تفاصيل وآراء الشيوعيين من اتفاقية 1955، وصفقة الأسلحة التشيكية، ومؤتمر باندونغ. ويتوقف عند محطات من مسيرة الأحزاب الشيوعية في سورية ولبنان والأردن.

أما عن عام 1958 عام الوحدة السورية ـ المصرية، واندلاع الحريق اللبناني الأول، فيرى أنه خلال عامي 1956ـ1957 أصبحت سورية محط أنظار العرب والعالم لما حصل فيها من صراعات وتطورات، كان أبرزها استقطابات بين كتل سياسية وعسكرية متنافرة للاستئثار بالحكم. هذه القوى السياسية والعسكرية شكل محورها البعثيون والشيوعيون وتلاقت على التخلص من القوميين السوريين وحلفائهم فاتخذت من اغتيال العقيد عدنان المالكي عام 1955 ذريعة لضربهم، والاتجاه بسورية نحو مصر. ويعرض المؤلف واقع الحكم وتوزيع القوى السياسية في سورية والوضع في الأردن، والظروف الإقليمية والدولية التي أدّت لقيام الجمهورية العربية المتحدة في فبراير (شباط) 1958. أما في لبنان فقد اندلعت أحداث 1958 بعد أقل من شهرين من إعلان الوحدة، فيربط التطورات من حلف بغداد الذي سقط في نفس العام مع نجاح ثورة يوليو (تموز) في العراق، إلى تأثيرات حرب السويس والأوضاع الداخلية، ونتائج انتخابات 1957 .

كان العهد الشهابي في لبنان محاولة لقيام دولة المؤسسات التي بدأت بوادرها ناجحة، لكن محاولة انقلاب الحزب القومي السوري غيرت صورة الشهابية وأسلوبها بعد أن تجمعت السلطة بيد المكتب الثاني، فسيطر العسكريون على مقاليد الأمور فتحولت من محاولة إصلاحية تراعي التيارات الداخلية إلى طموح غرْس الدولة في أعماق المجتمع بطريقة بوليسية، فأصبح الأسلوب التحديثي والإصلاحي وجلب التأييد والاستقرار جزرياً وقاسياً الأمر الذي ولَّد معارضة قوية ترتكز على رفض المكتب الثاني رغم الموافقة على الغاية النبيلة التي يضمرها شهاب. وهكذا تشابكت الخطوط السياسية ولم تعد مفهومة من قبل شرائح متعددة من المجتمع اللبناني.

بعد أن يستعرض المؤلف دوره ويعرض وقائع مهرجان الشبيبة العالمي للسلام في هلسنكي في صيف 1962 ومؤتمر فرصوفيا، يعود إلى عام 1963 الذي كان عاماً مليئاً بالأحداث والنشاطات العربية. ففي هذا العام وقع انقلابان عسكريان أحدهما في العراق أطاح بعبد الكريم قاسم ونصّب الفريق عبد السلام عارف رئيساً للجمهورية والبعثي صالح السعدي رئيساً للوزراء. والثاني في سورية في صبيحة 8 مارس (آذار) ضد الانفصال الذي قاده اللواء زياد الحريري وشكل مجلساً لقيادة الثورة من قوى قومية، ناصرية وبعثية وقوميين عرب، لكن البعث استطاع في عام 1965 إزاحة القوى الأخرى والاستئثار بالحكم.

أمّا عن هزيمة 1967 وتداعياتها، فيرى المؤلف أن التحالف الضمني من الجانب المصري مع الأطراف العربية المعتدلة أيقظ هاجس العزلة لدى الحكم السوري الذي لم ينفك يندد بما أسماه الخطة الموضوعية الرامية إلى إظهار عزلة سورية في الوطن العربي بناء على إيحاء أميركي أكيد وضغط ناصري مرجح. لكن التوتر على الحدود السورية الإسرائيلية عاد بيِّناً غداة انقلاب 1966 وإقصاء حكومة أمين الحافظ ووصول مجموعة اللجنة العسكرية البعثية إلى الحكم (محمد عمران، حافظ الأسد وغيرهما) فوقع اشتباك في المنطقة المجردة من السلاح، مما فاقم الوضع وأدّى إلى تشكيل القيادة العربية الموحدة التي بقيت حبراً على ورق. ثمّ يسرد المؤلف اليوميات التي سبقت الخامس من يونيو (حزيران) والتي أدّت إلى ضم الضفة الغربية والجولان وسيناء إلى إسرائيل، وتحققت الكارثة.

يعترف المؤلف أن أثر الهزيمة كان كارثياً، لكنه يلحظ أن إرهاصات مستجدة بدأت تتجمع في الأفق. فالجماهير العربية بدأت تتلمس فداحة الهزيمة وتضغط على أحزابها وقواها السياسية في الرد على واقع الهزيمة، وقد عبرت عن ذلك عبر تبنيها لأفكار وموضوعات الكفاح المسلح، ورأت في المقاومة الفلسطينية أملاً في استرجاع الكرامة فالتفت حولها وآزرتها.

أما عن حرب أكتوبر (تشرين) فيرى المؤلف أنها أحدثت نقلة نوعية في الصراع العربي الإسرائيلي، لكن نتائجها أجهضت وحمّل السادات نتيجة إجهاضها. كلام كثير قيل عن هذه الحرب لتحليل نتائجها، لكن الأكيد أنها كانت مفصلاً مهماً ومنعطفاً تاريخياً لبروز سلسلة التطورات السياسية على المستوى العربي، كان أبرزها زيارة السادات إلى إسرائيل، ومعاهدة كمب دايفيد، واصطفاف عربي محوري مختلف.

على صعيد الحرب اللبنانية واغتيال معروف سعد ومفصل 13 أبريل (نيسان) 1975 يعقد المؤلف فصلاً يتناول فيه الأسباب التي تعود لمواجهات الجيش اللبناني مع المنظمات الفلسطينية لعام 1969 وأسبابها والوضع الإقليمي الذي دفع بالمنظمات الفلسطينية إلى لبنان، فيرى أن لبنان كان أرضاً قابلة للاشتعال، وخصبة لردود الفعل فيستعرض الوضع من بوسطة عين الرمانة وأساليب القتال من الخطف إلى الخطف المضاد، والعوامل التي جعلت الحرب مفتوحة. ويشرح أسباب دخول الجيش السوري إلى لبنان ويفصل بالبراهين ما بين الحرب الطائفية والحرب الإقليمية على أرض لبنان ويؤكد أنها ليست حربه من قريب أو بعيد مع أنه وقودها. في هذا الفصل يعرض للاغتيالات التي بدأت تطال القيادات اللبنانية من كمال جنبلاط حتى رفيق الحريري.

وفي فصل خاص يعرض أسباب صعود الحركات الإسلامية والقوى الطائفية على حساب اليسار، وكيف استطاع حزب الله أن يتبوأ واجهة الأحداث فيستعرض بموضوعية التطورات والعوامل والأسباب ودور الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982 في ذلك. ويعلق على انتخاب بشير الجميل واغتياله، واتفاق 17 مايو (ايار) وحرب الجبل، ومؤتمر جنيف للحوار، وحركة 6 شباط/فبراير 1984 ضد حكم أمين الجميل، ومؤتمر لوزان وغيرها من الأحداث المفصلية.

يفرد المؤلف فصلاً للرئيس رفيق الحريري فيعرض كيف دخل السياسة اللبنانية بقوة ومنجزاته وأعماله ومزاجه ليصل إلى جريمة اغتياله في 14 فبراير (شباط) 2005 التي هزّت ضمائر العالم، كما يعرض للعدوان الإسرائيلي الذي حدث في صيف 2006 على لبنان ويرى أنه أكد عدّة حقائق عن واقع الكيان اللبناني، أهمها ان تلاحم المقاومة مع صمود الشعب أكدت إرادة الممانعة بوجه المعتدين.