ثمن التطاحن على بغداد

7 رحلات إلى العراق خلال 3 قرون

TT

من خلال وصف هؤلاء الرحالة الأوروبيين لأحوال الناس والمدن والبوادي في العراق، لا يجد قارئ الكتاب فروقاً نوعية كبيرة بين أحوال عراق القرن السادس عشر والتاسع عشر، كدليل على الركود والتراجع الحضاري متمثلاً بتفكك البلاد إدارياً وسياسياً وعزلة المناطق بعضها عن بعض. لكن بالرغم من الظروف الشاقة التي كابدها العراقيون عموماً، فإن بغداد الحزينة تبدو كسفينة تتلاطمها أمواج السياسة والاحتلالات، لكن روح المواجهة في هذه المدينة التاريخية تبدو أقوى وكأن تاريخ المنطقة لا يستقيم بدونها، فهي إن أزدهرت أزدهر الشرق معها وإن خُربت عم الخراب ليشمل مراكز القوى الإقليمية التي اجتاحت العراق أو تناوبت على اجتياحه وقتذاك، فطوال خراب العراق واحتلاله لم تستقر بلاد فارس ولم تهدأ الدولة العثمانية بل خسر الطرفان دائماً جراء تطاحنهما على العراق.

"رحالة أوربيون في العراق" هو عنوان الكتاب الصادر مؤخراً عن "دار الوراق" بلندن حيث جمع محرر الكتاب سبع رحلات لأوروبيين من أقطار مختلفة، أو المقاطع التي تخص العراق من رحلاتهم، والتي تمتد من القرن السادس عشر حتى التاسع عشر. وإلى غنى الكتاب وتنوع مواده، فإن أهميته تكمن في كون تلك القرون تكاد تخلو من مصادر تؤرخ لأوضاع المجتمع العراقي وأحواله خلالها، وما كان يعانيه جراء الصراع الفارسي العثماني على أراضيه ومدنه، وكيف انقلبت عليه الأيام فتحول من مركز للحضارة العربية الإسلامية إلى مناطق متباعدة يفتك بها الغزاة والأمراض وقطاع الطرق ومفارقات التاريخ.

إن دوافع أولئك الرحالة تتراوح بين التجارة والمغامرة والسياسة المضمرة، أي في إطار الصراع الدولي على الشرق ومناطقه المعروفة بتاريخها العريق وأهميتها الاستراتيجية والاقتصادية والثقافية، لذلك نجد الكثير منهم يشير إلى بعض التعليمات والنصائح لمن يريد أن يأتي بعدهم كي يلتزم بها، وخاصة لتجنب مخاطر الطرق أو مواقع المياه وقبل ذلك المناطق المهمة وغير المهمة التي مروا بها، ولكن بعيداً عن روح المؤامرة أو ما شابه ذلك، خصوصاً وأن المعاناة والمخاطر التي واجهوها كانت أكبر من الفوائد المتوقعة. ويبقى تدوين وقائع تلك الرحلات، ثم جمعها في كتاب واحد ( 280 صفحة قطع وسط ) عملاً ثقافياً مفيداً وضرورياً للباحث والمؤرخ وهو ممتع أيضاً لبقية القراء. الرحلات السبع هي:

> رحلة الإيطالي فيدريجي في القرن السادس عشر.

> رحلة البرتغالي تاكسيرا في القرن السابع عشر.

* الرحلة الشرقية للفرنسي الأب فيليب الكرملي في القرن السابع عشر.

> رحلة البريطاني تايلر في القرن الثامن عشر.

> مشاهدات البريطاني جون أشر في القرن التاسع عشر.

> رحلة الهولندي تنكو آنيهولت في القرن التاسع عشر.

> رحلة فرنسي في القرن التاسع عشر.

يقول الفرنسي فيليب الكرملي خلال رحلته 1629: "مضت تسعة أشهر على وجودي في فارس عندما وصلني إيعاز لمغادرتها. وفي تلك الفترة كان السلطان الأعظم قد أعد جيشاً عرمرماً قيل إنه بلغ ثلاثمائة ألف محارب، وذلك لاسترجاع بغداد من قبضة الفرس، لكنه قبل أن يتوجه الجيش إلى بغداد سار لاكتساح الفرس في عقر دارهم لأن القتال في أرض (كلدية) صعب في فصل الصيف، فتوغل الجيش في فارس حتى وصل إلى همدان التي تبعد عن أصفهان مسيرة ستة أيام، وقيل إن قائد الجيش الفارسي زنيل خان تواطأ مع الأتراك فنال جزاءه بالموت. لم يستطع الفرس مقاومة الأتراك فهؤلاء أقوى منهم بكثير، لكن الفرس أكثر مكراً منهم في خطط الحرب. فكانوا يتقدمون نحو مواقع الأتراك ويخيمون، وما أن يبلغهم خبر استعداد هؤلاء للهجوم حتى كانوا ينسحبون تاركين الأرض قاعاً صفصفاً، ويضعون السم في موارد المياه، وعندما يصل المهاجمون الأتراك بعد جهد جهيد وافتقاد المؤن الضرورية للجنود والعلف للحيوانات يعودون أدراجهم خاسرين، فالقتال الطويل في أرض فارس أضعف الجيش التركي بحيث أنه عندما وصل إلى بغداد وحاصرها من جميع جهاتها مدة أربعين يوماً ثم ضرب أسوارها، اضطر آخر الأمر إلى الانسحاب لقلة المؤن وحالة العوز التي أحس بها، فعاد دون أن يحقق شيئاً ( ص55 و56 ثم يعود في ص 64 فيقول: "عندما مررت ببغداد كانت في قبضة الفرس الذين استولوا عليها، لا بقوتهم ولكن جراء الخيانة، لأن حاكمها الذي يُقال له الباشا ـ بكر صوباشي ـ حلَّ عليه سخط السلطان، وإذ خاف أن يأمر السلطان بقتله، قَدمَ الأرض للشاه عباس الفارسي، ثم انقلب عليه وغيّرَ خطته مستهزئاً بالشاه الذي جاء ليتسلم المدينة ويضمها إلى دولته، فغضب الشاه جداً من هذا التحدي وحاصر المدينة مستخدماً الخبث والغدر وخيانة ابن الباشا نفسه حتى استولى عليها. وعندما سقطت ألقى القبض على الباشا، وإذ كان قد خان الطرفين السلطان والشاه فإنه لم يجد من يشفع له، فمات أشنع ميتة بعد عذاب طويل ومرير وغريب من نوعه، إذ نال في أول الأمر رعاية خاصة ولمدة ثلاثين يوماً كانت وجباته أشبه ما تكون بالولائم، لكنهم حرموا عليه النوم، فما أن يداعب النعاس أجفانه حتى يوقظوه بضربات حادة، وبهذه الطريقة المهولة لقي حتفه فنال جزاء خيانته.

بقيت المدينة بحوزة الفرس سنوات قليلة، لكن مكانتها الكبيرة في نفوس الأتراك تجارياً ومعنوياً، لا تليق بكرامتهم أن تبقى تحت الاحتلال، لذا جهز السلطان حملتين أو ثلاثاً لاسترجاعها لكن العساكر هلكوا دون تحقيق نتيجة، وأخيراً ـ يقصد لاحقاً في 1638 ـ تحرك السلطان مراد نفسه على رأس جيش جرار، أربعمائة ألف رجل، وقد سمعت أنه استعادها مؤخراً، وقيل لي إنه لم يفتحها بالقوة والشجاعة ولكن من جراء خيانة حاكمها. وقد مات في الحرب مائة وثلاثون ألفاً من جانب الترك، ولقي ثمانية عشر ألف فارسي حتفهم على يد الأتراك بعد سقوط المدينة)

بعض الرحالة كان على شيء من الثقافة، إذ يتضح ذلك من الملاحظات التي يدونونها حول الآثار والأوابد التي يمرون بها، وبعضهم لا يكاد يعرف شيئاً عن تاريخ العراق القديم والوسيط فيكتفي بوصف عام وأحياناً يورد ملاحظات غير صحيحة.

مفارقات كثيرة حدثت لهؤلاء الرحالة خلال الطرق التي سلكوها وهم يواجهون عناء السفر على الخيول أو الجمال لأيام متتالية متنقلين عبر البوادي من مدينة إلى أخرى، برفقة أدلاء أخذوا على عاتقهم حماية القافلة ومعالجة المفاجآت والمخاطر التي تحدث، وكل ذلك عكس المفارقات الكثيرة من طبيعة الحياة الاجتماعية للعراقيين وقت ذاك، فهناك قبائل ظلت متشبثة بقيم الضيافة والحماية للغريب رغم صعوبة الظروف، إلى جانب من امتهن قطع الطرق على المسافرين، وبعضهم امتهن حماية القوافل من قطاع الطرق مقابل مبالغ معينة أو اتاوات، وهناك جماعات مسالمة لها تقاليدها الخاصة في تجنب المخاطر والاكتفاء باللاشيء!! ومن ذلك ما ذكره تايلر وهم في الطريق إلى السماوة: "انطلقنا في اليوم التالي في الساعة السادسة والربع، وبعد منتصف النهار لاحظنا آثار التعب بادية على "البعران" فقد كانت منهوكة القوى، لذا توقفنا في موضع كثير الكلأ، تتوسطه كمية وفيرة من مختلف الأدغال، يُطلق على المكان اسم "أم الحنطة"، وقد التقينا في ذلك المكان بخمسة دراويش قالوا إنهم غادروا البصرة قبل خمسة أيام. أن هؤلاء الرجال يسافرون بكل أمان في طول الصحراء وعرضها، يتنقلون بين القرى، ويلقون في كل مكان يحطون فيه استقبالاً حاراً، من قبل الأعراب الذين يتعرفون عليهم من بعيد من صوت القرون الصغيرة التي ينفخون بها قبل وصولهم إلى الأماكن المأهولة أو عندما يمرون بالمسافرين، ولقد أبدى رجال قافلتنا نحوهم احتراماً كبيراً واعتنوا بهم وقدموا لهم كمية وافرة من التمر. كنا على بعد ميلين من الفرات ورأينا على شاطئيه أشجاراً عالية، وكان المنظر رائعاً لم نعهده منذ مدة طويلة (ص86). ومثل العديد من الرحالة، تحدّث تايلر عن وجود حيوانات مفترسة في البوادي وغيرها كالأسود والذئاب والقط الوحشي الذي يسمى دليل الأسد فهو يمتلك حاسة شم قوية على عكس الأسد، فيقود الأخير إلى الفرائس ليتقاسمها معه بعد قتلها. ومن تلك المفارقات يقول تايلر بعد لقاء الدراويش: "سمعنا في هدوء الليل زئير أسد من موضع غير بعيد عنا، ولم تكن الأبل راغبة في هذه الزيارة المفاجئة، فهبت سوية وتجمعت إلى بعضها في خط دفاعي، وعادة القوم في هذه الأنحاء أنهم يجعلون الجمال في دائرة ويعلقون سيقانها ويربطونها إلى بعضها ليمنعوها من النهوض والسير.. وكان الأعراب متيقظين إلى أبعد حد، فما أن سمع الحراس زئير الليث حتى أطلقوا النار في اتجاهه ففر بعيداً، ولقد استيقظنا على صوت العيارات النارية معتقدين أن جماعة من الفرسان قد أحاطت بنا، ووثبتُ من فراشي مرتعباً وأسرعت إلى سلاحي، وخرجت من خيمتي لاناجز الأعداء! لكني لم أجد أحداً، فقد هرب الأسد وعاد السكون يخيم على أرجاء المكان (ص89).

والفقرة التي تكاد تتكرر في جميع المذكرات هي أجماع الرحالة على كرم العرب وحسن ضيافتهم، ومن ذلك قول الفرنسي الأب فيليب الكرملي في (ص 68) ومن خلال وصف هؤلاء الرحالة لأحوال الناس والمدن والبوادي، لا يجد قارئ الكتاب فروقاً نوعية كبيرة بين أحوال عراق القرن السادس عشر والتاسع عشر، كدليل على الركود والتراجع الحضاري متمثلاً بتفكك البلاد إدارياً وسياسياً وعزلة المناطق بعضها عن بعض، حيث المواصلات بدائيةً والطرق محفوفة بالمخاطر ناهيك عن انعدام الخدمات ما عدا قيم الضيافة والحماية التي ظلت القبائل العربية تتشبث بها رغم قسوة الظروف المعيشية.

ومن ذلك قول الفرنسي الأب فيليب الكرملي في (ص68) : "يقدم عرب البصرة ضيافة لا مثيل لها نحو الغرباء، بكرم ولطف عاليين، وهذا ما حدث لي ولرفاقي عندما قدمنا إليها بحراً من فارس ونفدت مؤنتنا وكدنا نموت جوعاً وعطشاً، وما أن وصلنا إلى أحدى قراهم حتى قدموا لنا خبزاً ولبناً وتمراً وكل ما كان عندهم في ذلك الموسم، وعندما أكلنا وشبعنا طلبنا منهم المزيد على سبيل الشراء، فأعدوا لنا حالاً كل ما طلبنا ورفضوا رفضاً باتاً استيفاء ثمن ما قدموه لنا، وقالوا باعتزاز إن الضيافة واجبة لكل عابر سبيل أيَّاً كان.. ولم تكن هذه الحادثة وحيدةً بل صادفتنا أكثر من مرة".