«ولّعت» في عكا

إحدى أغنياتهم صارت أشبه بالنشيد الوطني الفلسطيني

TT

لم يكن أحد ليتصور منذ سنوات قليلة فقط، ان من بين العرب الباقين في عكا، ستخرج فرقة فنية شبابية، تغني الهوية والانتماء، والتمسك بكل حبة تراب. فرقة نجحت رغم عمرها القصير، الذي لا يتجاوز السنوات الخمس، في ان تحقق انتشاراً ليس في الداخل الفلسطيني بين عرب 48 فحسب بل بين اليهود والمتضامنين الغربيين، وسكان الضفة والقطاع وبعض الدول العربية، أيضاً.

تمزج فرقة "ولعت" التي اصدرت البومين لغاية الآن، بين الآلات الغربية والشرقية، وتقدم أغنيات، لحن معظمها عضو الفرقة ماهر خوري، وكتب كلماتها خير فودة. ويقول خوري، وهو أيضا عازف جيتار "نحاول التعبير عن هويتنا وهمومنا وتراثنا من خلال أغانينا الخاصة، ونحاول ملامسة الهموم الإنسانية العامة أيضاً".

تحولت أغنية "لو شربوا البحر" التي لحنها خوري، من كلمات فودة، إلى اشهر أغاني الفرقة التي يرددها الجمهور، وهي تتحدث عن الفلسطينيين الذين بقوا في عكا، بعد عام 1948، وتستعيد أمجاد هذه المدينة الفلسطينية المتوسطية الشامخة. ومن كلمات الأغنية:

لو شربوا البحر أو هدوا السور

لو سرقوا الهوا أو خنقوا السور

ما بيعها لعكا بالدنيا كلها

وما ببدل حارتي ولا بقصور

هذه الأغنية النموذج استلهمت تراث البحر الفلسطيني الغني، الذي لم يلتفت إليه بالشكل المطلوب حتى الان. ويقول مفيد منصور، مسؤول الفرقة واحد العازفين فيها لـ"الشرق الأوسط، بان أغنية "لو شربوا البحر" التي حملت عنوان البوم الفرقة الأول، تحولت إلى ما يشبه "النشيد الوطني" ليس فقط في عكا، ولكن أيضا داخل الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1948. ويضيف: "الفرقة تقدم القضايا العكية المحلية موسيقيا وغنائيا، وتعبر أيضاً عن القضايا الشبيهة في مواقع أخرى، ولدى شعوب تعاني حياتيا وقوميا ووطنيا".

وحسب منصور، فان الفرقة ترفع شعار "الالتزام والتفاؤل". "فهي ملتزمة بتقديم فن جاد ومعبر لن تحيد عنه، وفي الوقت ذاته، تغني الأمل والتفاؤل ببزوغ فجر جديد".

ويدرك منصور ورفاقه صعوبة المهمة التي يضطلعون بها، في ظل سيادة نوع معين من الفن، تروج له الفضائيات، مدعوما بـ الفيديو كليب". ويقول: "اختياراتنا الفنية قد تحد من انتشارنا، لكننا لا نفكر بتقديم تنازلات، ولدينا إصرار على تقديم موسيقى جديدة ، خاصة بنا". وتبذل الفرقة جهودا لتقديم فن مختلف، في الشكل والمضمون، وهذا يؤثر في نوعية الجمهور. فهم لا يغنون في الأعراس، رغم أن ذلك يوفر دخلا جيدا، وتقتصر عروضهم على المهرجانات والحفلات التي تنظمها المراكز الثقافية والفنية، وتتعامل مع الفن باحترام.

يعرب ماهر خوري، ملحن الفرقة الموهوب، عن ابتهاجه بالتشجيع الذي يلقونه من جمهور، يزداد يوما بعد آخر. وبالإضافة إلى الأغاني الخاصة بالفرقة، فان أعضاءها لجأوا إلى أغنيات شعبية فلسطينية قديمة، وأعادوا توزيعها، مثل أغنية "واسي واسي عكا على راسي". وتمتاز بعض أغاني الفرقة بنبرة نقدية سياسية واجتماعية، ومنها ما يمكن إدراجه ضمن النقد الساخر. وللفرقة أغنيات تداعب حنين الفلسطينيين، إلى الأرض التي فقدوا قسمها الأكبر، ومع كل فجر جديد، يفقدون المزيد.

وتخلو أغنيات الفرقة من الحب باستثناء "حب على الحاجز". ويعلق منصور: "نحاول أن نغني الحب، ولكن ماذا نفعل في ظل الظروف السياسية الضاغطة. فمثلا، أغنية "حب على الحاجز" أتت فكرتها عندما كنا نحاول دخول مدينة بيت لحم لتقديم عرض، فمنعنا جنود الاحتلال بحجة اننا إسرائيليون وممنوع علينا الدخول إلى بيت لحم". ويضيف "كاتب الكلمات خير فودة أراد أن يكتب أغنية عاطفية، ولكنها جاءت مليئة بالإحالات السياسية". ويضيف: "واقعنا يؤثر حتى على نظرتنا إلى الحب، وما نفعله، ما هو الا تعبير عن هذا الواقع".

وتفتقد الفرقة لأي عنصر نسائي، وعن ذلك يقول منصور "ليس الأمر مقصودا، لكن الظروف الصعبة التي نعمل بها حالت دون وجود امرأة معنا. فنحن غير متفرغين للعمل الفني، بسبب قلة دخل الأعمال الجادة، ونلتقي في أوقات غير محددة، وفي حالة عدم استقرار، لكننا نرحب بأية موهبة نسائية".

وقدمت الفرقة حفلات كثيرة حضرها جمهور يهودي. ويقول منصور "الجمهور اليهودي أبدى إعجابه بالفرقة، خصوصا أولئك الذين يقطنون عكا، التي تصنف بأنها مدينة مختلطة يعيش فيها اليهود وما تبقى من عرب، بعد 1948. وللفرقة جمهور كبير أيضا، من الأجانب الذين يصلون الأراضي الفلسطينية للتضامن مع سكانها في مواجهة الممارسات الاحتلالية".

بعد نحو ستين عاما على النكبة، تمكن أحفاد الذين شردوا من وطنهم، من تأسيس فرقة فنية في عكا التي اصبح سكانها العرب أقلية، ليعبروا ليس فقط عن آلام وامال الأجداد وأحلام الأحفاد، ولكن أيضا ليبنوا جسرا بين من بقي في الوطن، ومن اصبح مشتتا في بقاع الدنيا. وفي معظم الحفلات التي تحييها الفرقة يقدم أعضاؤها أغنية "لو شربوا البحر" ويختمون بها، وفي كثير من الحالات يغنون "المينا وكل البحرية"، ويردد الحاضرون:

وشخاطيرها النايمة ع المية

وشباكها الخضرا المطوية

صورة راح تبقى بقلبي دهور

لو شمس الصبح وقمر الليل

ونهار الغربة وليل الويل

اخذوا روحي على نجم سهيل

أنا روحي بزواريبا بخور

لو رمل الشط اللي ما بنعد

وصدفاتو المخلوقة ع القد

ومزحات الدهر اللي صاروا جد

ركعولي ما بترك هالسور".

والمقصود سور عكا، الذي انهزم أمامه، ذات يوم، نابليون بونابرت، ويعيش بداخله الان عرب، خرج من بينهم فنانون، يريدون أن يبقوا في الذاكرة مساجدها وكنائسها ومعالمها العربية الأخرى التي تزخر بها كلمات أغانيهم.