إحدى لوحات عباس صلادي
TT

مضت خمس عشرة سنة على رحيل الرسام عباس صلادي. هذا الرجل الذي ابتكر خرائطية عجائبية للفن التشكيلي المعاصر في المغرب، متمكنا من تشويش الشفرات التقليدية لصنوف الفنون البصرية فيه. فقد حفر صلادي أخدودا عميقا في قلب أرض التشكيليين الأكاديميين، واستطاع بعينه الثالثة الساكنة في جسده الصوفي والملتاع، أن يرى ما لا يرى، وأن يقلب قوانين سوق القيم بلامبالاة الزاهدين في سعادة الدنيا. كيف خرج عباس صلادي من جلباب سيدي بلعباس؟

ولد عباس صلادي بمراكش، بمدينة "سبعة رجال"، سنة 1950، في أسرة متواضعة تقطن بجوار سيدي بلعباس. أرسلته أمه بعد وفاة والده، وهو في سن الرابعة، إلى الدار البيضاء عند أحد أعمامه. كان عمه هذا يملك مقهى في المدينة القديمة، سرعان ما أدخل إليه الطفل لمساعدته. فقدر اليتيم الحزن حتى ولو كان بين ظهراني عائلته الكبيرة. رغم العمل المضني في المقهى، فقد تمكن الطفل عباس من إنهاء دراسته الإعدادية بنجاح. غير أن أباريق الشاي وكؤوس القهوة، وما تفرضه طقوس العمل عند عمه أجبرته على ترك مقاعد المدرسة للتفرغ لرغبات الزبائن العابرة. لكن عناد الفقراء لن تكسره رتابة الحياة اليومية، حيث ثابر عباس على التعلم الليلي حتى حصل على الباكالوريا كمرشح حر. كان هذا في بداية السبعينيات، إذ حصل صاحبنا على منحة سمحت له بولوج شعبة الفلسفة، برحاب كلية الآداب بالرباط. انطوى صلادي على نفسه في دوامة عالم طلابي، كان محركه النضال اليساري، والصراع الطبقي الحاد. بعد نجاحه في السنة الأولى، ركبته "قوى الجان" فأربكت سنته الثانية. صارت أزماته النفسية تزداد يوما عن يوم إلى أن انتهى به هذا العالم الآخر إلى مستشفى الرازي للأمراض النفسية. كان أول ما طلبه من أمه، عندما زارته لأول مرة: أقلاما وورقا. بدأت القوى التي تزوبعه تخرج علامات على الورق، بل رسوما عجيبة أذهلت طاقمه الطبي. هنا، بدأت تخف أزماته الحادة لتأخذ شكل عوالم تشكيلية، تغلب عليها كائنات هي عبارة عن حيوانات بشرية ونساء وأشجار .

عاد عباس صلادي مع أخته حليمة إلى مراكش، ليعيش معها في بيتها الصغير، بحي المساكين بالداوديات، قرب سيدي بلعباس الذي ما زال، بعد أن منحه اسمه، يضعه تحت جناحيه العملاقين. كان لا يخرج من غرفته إلا لماما، مركزا على سبر العالم الذي أخذ يقطر من أصابعه على الورق بقوة قادر. وأمام تراكم لوحاته الصغيرة، أخذتها أخته إلى ساحة جامع الفنا الشهيرة وعرضتها للبيع. أثارت روحانية هذه اللوحات، وعوالمها العلوية المكونة من أضرحة وطيور وكائنات غرائبية ونباتات عجيبة، انتباه أحد الأمريكيين الذي سأل حليمة عن ثمن هذه اللوحات الحدودية. حارت المرأة وتخيلت ثمنا: خمسون درهما، خمسة دولارات. أعطاها الأمريكي الضعف واقتنى منها كل اللوحات، بشرط أن تقدم له صاحب هذه اللوحات. تعرف الأمريكي على هذا الرسام الساحر، فأخذ يشتري منه لوحاته طوال سنوات بعد عودته إلى أمريكا باعثا له، كلما رغب في ذلك مواد الصباغة.

بعد هذه القصة، توالت الأيام لتضع عباس صلادي في قلب الأحداث. لم يشف أبدا، لكن أزماته قلت لعلاجها بالفرشاة. في سنة 1998 نظم له المعهد الفرنسي بمدينة مراكش معرضه الأول، وفي سنة 1980 احتضنته الفرنسية بولين دو مازيير، صاحبة أحد الأروقة الشهيرة بمدينة الرباط. ثم أخذه الرسام المراكشي المعروف فريد بلكاهية إلى مهرجان أصيلة الدولي، حيث سحر كل من شاهد أعماله. بانفتاح عالم الشهرة أمام هذا الفنان المسكون بلامرئيات ماوراء الطبيعة، ازداد الرجل انطواء وابتعادا عن أنوار مجتمع الفرجة. كان لا يحضر افتتاحات معارضه، وكان مقلا في الكلام أو صائما عنه حتى بالنسبة للمقربين إليه. كان كلما زار أحدهم، ينعزل في غرفة أو ركن من بيت أصدقائه ويشرع في إخراج مخلوقاته العجيبة إلى الوجود. كان لا يتوقف عن الرسم كأنه في حرب شاملة ضد قوى الظلام التي تخيم على جسده وعقله. التوازن النفسي يمر عنده من خلال اللون والحبر الصيني والأشكال الخرافية التي تجسد قلقه الصوفي والميتافيزيقي.

كانت عوالم صلادي التشكيلية، تعج بالكائنات الغرائبية، وفي هندسة بصرية مزدوجة التركيب تتموقع في فضاءات شعبية خبرها الفنان مثل الحمامات والدور التقليدية والحدائق الغناء والنافورات. علاوة على توظيف جذري لمادة ألف ليلة وليلة البصرية التي استمع إليها عند رواة ساحة جامع الفنا المشاهير، وقرأها أيضا في طبعتها المشرقية، حيث كانت لوحاته الصغيرة الحجم تنطق بالطيور الملونة الخرافية والحيوانات العجيبة والنباتات الأسطورية. كان صلادي المتصوف في خلوته يكد بعناء للحفاظ على توازن العالم المرئي واللامرئي في قلبه وعقله وجسده، أيضا. هذه الثنائية البصرية والروحية، كانت تسندها تركيبة لونية وحبرية فريدة. الأصفر والأخضر والبني والأسود والانسان/ الحيوان/ النبات، كلها مداخل جمالية للوصول إلى مدينة السر الصوفي. بصفاء الروح، حقق الرسام الرائي الزاهد في المال والأضواء، التوازن النفسي الذي فقده منذ الشباب. فالانطواء ينجلي بسيولة الحبر والصباغة، وكلما توقفت هذه السيولة، عاد الرائي إلى جحيم الإنسان. الإنسان الواقف على عتبة العالم المليء بالكائنات المهووسة برنين الذهب. هذا الذهب الذي كان يلقيه صاحبنا وراءه في أيدي من تحلقوا حوله أو صادقوه بصدق أو بدونه، غير آبه بقيمة ما يتركه وراءه. أما الآخرون، فكانوا يخزنون كنوزا يعرفون أنها ستلتهب في بورصة الفن.

استقر عباس صلادي، محدث الجان، حسب الأساطير التي نسجت حوله، بدرب المساكين أيضا حيث اشترى منزلا، بجوار عائلته، بمال عوالمه, وزوجته أخته حليمة بإحدى معارفها. الرسام المستعصي على الشهرة واطياف الحداثة، يرضخ لقانون القبيلة المصغرة. التقاليد معدن روحه المقيدة بعوالم التصوف الأبدية. لم يرزق صلادي بذرية إنسية، لكنه ترك لوحاته العجيبة التي شغلت الناس وسماسرة الفن. فإذا كان الرائي مات، وفي نفسه شيء من حتى، فإن ورثة أعماله الموزعين بين أصدقاء ومجمعين للأعمال الفنية ومؤسسات عمومية وخاصة غنمت بنات أفكار فنان لم تغره في يوم من الأيام ركبان الشهرة ودنانير الدنيا الزائلة. رحم الله عباس صلادي الرجل الذي رأى الجنة وكائناتها بعين الروح ورهبة الجسد، فجسدها أحسن تجسيد، نكاية بتجار التاريخ وحفاري قبور العبقرية البشرية الذين اغتنوا بالملايين التي تساويها أعماله اليوم.