عرب يكتبون بالعبرية

أدباء محكومون بالبقاء بين فكي كمّاشة

TT

«عرب ويكتبون بالعبرية». نعم، هذا ليس عنوانا للاثارة، انما هو حقيقة قائمة. فبالرغم من قلة عددهم، فهم موجودون. كتاب فلسطينيون، بقوا في وطنهم خلال نكبة 1948، وأصبحوا مواطنين في الدولة العبرية، لكنهم تمسكوا بانتمائهم العربي. ظروفهم التي مكنتهم من دراسة اللغة العبرية، والتعرف على الأدب العبري وتاريخ اليهود، وقراءتهم المعمقة للتوراة وغيرها من مناهل التراث اليهودي، جعلتهم خبراء في المجال، ودفعت العديدين من أدبائهم وشعرائهم الى الكتابة بالعبرية الى جانب ابداعاتهم بالعربية وخاطبوا اليهود بلغتهم، لكنهم بقوا موضع جدل ونقد من اليهود كما من الفلسطينيين أيضاً.

اصطدم هؤلاء الفلسطينيون الذين يكتبون بالعبرية، برفض المتطرفين والعنصريين اليهود، الذين يصبون الى اليوم الذي يستيقظون فيه، فلا يجدون أي عربي من حولهم. الا ان هناك ايضاً من يفكر عكس ذلك، ويقرأ ويتابع باستمرار ما تنتجه تلك الاقلام العربية، ويهتم بهذا الابداع ويقرظه ويعلق عليه، ويحرص على بقائه وسماعه وقراءته. وصرت تجد المجلات الأدبية العبرية تنشر لهم، ثم اتسعت الحلقة لتشمل ميادين ابداع أخرى، مثل المقالة السياسية، او الاجتماعية اوالصحفية أو المسرح والسينما والموسيقى وغيرها. فهناك ابداع عربي اليوم باللغة العبرية يشمل كل الميادين.

حتى نكون واضحين، منذ البداية يجب الاشارة الى ان عدد الكتاب العرب من فلسطينيي 48 الذين يكتبون ادبهم ومؤلفاتهم باللغة العبرية، ما زال ضئيلاً، ولا يتجاوز عدد أصابع اليدين، ابرزهم، الشعراء نعيم عرايدي وسهام داوود وفاروق مواسي وسلمان مصالحة، والكاتبان انطون شماس وسلمان ناطور وغيرهم. والى جانب ذلك هناك ترجمات بالعبرية لعدد من الكتاب والشعراء العرب المحليين من فلسطينيي 48، أمثال الكتاب اميل حبيبي ومحمد علي طه والشعراء سميح القاسم وطه محمد علي وسعود الأسدي وجمال قعوار وشفيق حبيب ونداء خوري.. الخ. وعلى مستوى العالم العربي ترجموا الى العبرية محمود درويش، جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، نجيب محفوظ، الياس خوري، الطيب صالح، حنان الشيخ، يوسف القعيد، جمال الغيطاني، ادونيس وأحلام مستغانمي وليلى العثمان.. الخ.

قد يتساءل البعض، ما الذي يجعل كاتباً عربيا، يكتب باللغة العبرية؟

سؤال نحاول الاجابة عنه من خلال احد هؤلاء. هو الباحث والشاعر والصحافي د. نعيم عرايدي، 57 عاما. دراسته الابتدائية كانت في قريته الصغيرة، المغار الجليلية، لكنه أتم الثانوية في مدرسة يهودية.

في حينه كانت القرية العربية التي تحتضن مدرسة ابتدائية، تعتبر محظوظة، في ما جميعها تفتقد للمدارس الثانوية. فكان الاهالي يرسلون أولادهم الذكور الناجحين لمتابعة دراستهم في مدينة الناصرة، كبرى المدن العربية التي تتوفر فيها اكثر من مدرسة ثانوية، او الى القدس او يافا وحيفا. قسم قليل من الاهالي اختار ان يلتحق ابناؤهم في مدارس يهودية، والامر لم يكن بتلك السهولة. بالاساس لأن كل الدراسة ستكون بالعبرية، والشباب لم يدرسوها في مدرستهم العربية بمستوى كاف. وزادت صعوبة هذه الدراسة مع انتشار الاجواء السياسية العنصرية المعادية لكل من هو عربي. لذا فإن من حالفه الحظ بالتغلب على كل تلك المسببات ارتفعت مكانته بين اهله ومعارفه باعتباره مكافحا في الغابة، وصار من السهل عليه أكثر أن ينسجم في الجامعات، وهي كلها عبرية.

يبدو ان كل تلك الظروف مجتمعة ساهمت في صقل شخصية د. عرايدي، بكل ما يتعلق بالتعرف الى الأدب العبري، ولم يكتف بما اضيف الى معلوماته في المرحلة الثانوية، انما واصل البحث والتمحيص عن الادب العبري وخصوصياته في الجامعة، فحصل على شهادة الدكتوراه في الادب العبري وبات محاضراً فيه للطلاب العرب واليهود في جامعتي حيفا وبار ايلان.

انتاجه الادبي الاول كان في المرحلة الثانوية، عبارة عن قصيدة نظمها للقدس ونشرتها احدى الصحف العبرية بالكامل. الأمر الذي فاجأ الكثيرين. وقد نشرتها صحيفة «الاتحاد» الصادرة في حيفا، منبر الشعراء والأدباء وسائر المبدعين الوطنيين العرب، فقد التقطت القصيدة وترجمتها للعربية ونشرتها تحت عنوان «شاعر عربي يكتب القصائد بالعبرية».

«قبل سنة 1967 عندما كنت في الثانوية، لم تكن هناك كتب دراسية بالعربية في المدارس العبرية. حتى الكتب العالمية كانت مترجمة للعبرية. وقد اطلعت على الادب العبري فشعرت بأنه يشدني. لا أدري لماذا. ربما لأنني عربي يريد التعرف على أعماق الجهة الأخرى. ولكنني تعاملت معه بموضوعية. ووجدت للحقيقة أنه ادب غزير، وفيه الكثير من اللمحات الغنية والجميلة، واعتبره من أغنى الاداب في العالم وهو لا يقل غنى وجمالا عن الادب العربي. هذه الحقيقة قد لا تعجب البعض، لكنها الحقيقة. لقد شدني الادب العبري من خلال شعراء يهود قرأت لهم مثل: يودا عميخاي، وليئا غولبرغ، ونتان زاخ. شدتني قصائدهم الجميلة بأسلوبها الحر والواسع، وانسانيتها المتدفقة وشدتني الروايات».

د. عرايدي ومن خلال تجربته الغنية في الغوص في عالم الادب العبري على مدار سنوات عدة يقول «إن جمال الأدب العبري يكمن في كونه يكتب بلغة الكتاب المقدس. لا بل لنقل ان كتابة الادب العبري بتلك اللغة، ساهم في احياء لغة الكتاب المقدس الصعبة، التي تعود الى آلاف السنين وهذا ليس سهلاً».

في حديثنا مع د. عرايدي اشرنا الى حقيقة ان اصل اللغتين العبرية والعربية واحد، وأن هناك ألوف الكلمات المتشابهة باللفظ والمعنى. لكن مع التطورات التي حدثت في الشرق الاوسط والعالم، ومع الصراع الاسرائيلي ـ العربي والفلسطيني المستمر، ونتيجة لانفتاح اسرائيل على العالم الغربي، وسعيها لأن تكون جزءاً منه، لا جزءا من الشرق، فإن اللغة العبرية مرت وما زالت تمر بتغيرات، تمّت خلالها عبرنة كلمات أجنبية، وادخالها كجزء من اللغة العبرية، وتستعمل بدل كلمات أخرى كانت قائمة في الماضي القريب. ردا على ذلك يقول «اعتبر هذا التغير ليبرالية وانفتاحا وتجديدا في اللغة، أتمنى أن يحصل للغتنا العربية المحافظة. وأرى ان هذه المحافظة تقف عائقا امام التجديدات التي ينبغي ان ننفتح عليها في التعامل مع عالمنا. ان انفتاح اللغة العبرية، جددها وقربها من الحضارات العالمية بل واثراها، فأصبحت لغة تشبه لغة الهايتيك، لأنها تستطيع استيعاب كل جديد عليها. انا انظر بإيجابية كبيرة لهذا التحول، هذا اذا اخذنا بعين الاعتبار ان اللغتين الانجليزية والفرنسية وغيرهما تستعملان كلمات اصلها يونانية». الكتابة بالعبرية بالنسبة للكاتب العربي، مشكلة ذات حدين. فمن ناحية قد يتعرض للانتقاد من ابناء شعبه،

من ناحية أخرى قد يقابل بالرفض من الطرف الثاني اليهودي: «أجل هناك صراع وهناك مشكلة. قد تجد من الشعب العربي من يقول إنني شاعرعربي اكتب بلغة العدو، وهذا يعود للتزمت والتعصب للغة العربية، وعدم الانفتاح أو التسامح تجاه الآخر. أما فلسطينيو 48، فقد اصبح البعض منهم، اكثر تعصباً من العرب في عالمنا العربي الرحب، ولا يروق لهم أن نقتحم العالم الإسرائيلي».

مقابل هذا الرأي، فإننا عندما نتحدث عن ادباء وشعراء من فلسطيني 48 يكتبون بالعبرية، فإننا نتحدث عن شخصيات لها وزنها وقراؤها الدائمون والثابتون وأيضا. ونتيجة لهذا الإقبال، فإن عددا من دور النشر العبرية المعروفة، مثل دور النشر «عام عوفيد»، «مكتبة معاريف»، «مكتبة بوعليم» تقوم بالاتفاق معهم على اصدار انتاجهم وتوزيعه في مناطق واسعة، اضافة الى قيامها بترجمات لأدباء من العالم العربي.

ويقول د. عرايدي ان هناك رسالة يريد ان يوصلها: «اريد ان أتحدث للشعب اليهودي بلغته وحضارته، ولا أريد ان أترجم ذاتي. برأيي ان المستشرقين اليهود يسيئون فهم الحضارة العربية، والعرب ما زالوا غير مستعدين وليست لديهم الجاهزية لتقبل الأدب اليهودي، ومحاولة فهمه. نستطيع القول ان هناك انفصالا كاملا بين الحضارتين، وهذا ما يقوي الصراع والكراهية بين الطرفين. فلو ان كل طرف فهم الآخر، وحاول تقريبه من حضارته، فإن احتمال التفاهم سيكون أكبر». ويتابع: «يوجد بعد كبير بين الطرفين، وإحدى الطرق لجسر هذه الهوة هي في التحدث لليهود بلغتهم. الحضارات تثري بعضها البعض، وبالتالي لا يمكن التعامل مع الأدب واللغة العبريين والكتاب المقدس ـ التوراة ـ انطلاقاً من موقف سياسي او أيديولوجي. فاذا اردنا ان ننافس العالم الغربي، فعلينا ان نكون منفتحين وعلمانيين ومتطورين. من ناحية أخرى علينا تقديم حضاراتنا للآخر بشكل صحيح، متفهم، ليبرالي ومنفتح. نحن نملك حضارة كبيرة لم تحصل بعد على مكانتها التي تستحق». ويلفت عرايدي النظر الى عدد من الكتاب اليهود، غالبيتهم من اصل عراقي، كتبوا او ما زالوا يكتبون باللغة العربية، ويقرأ نتاجهم مواطنون عرب من مختلف انحاء العالم مثل: شموئيل موريه، سمير نقاش، سليم شعشوع وزوجته، يحزقيل مراد وغيرهم. وينهي لقاءنا به قائلا: «حتى يبدع الكاتب يجب ان يكون حرّاً غير خاضع لرقابة، أيديولوجية أو سياسية، والا فسنرى، كما يحدث الآن، اكبر الأدباء العرب يعيشون في المهجر، ولا يستطيعون الكتابة داخل وطنهم، نتيجة للكبت وتقييد الحريات».