المخابرات الروسية وراء العمليات الإرهابية في موسكو وليس الشيشان

آخر صيحة للروسي الكسندر لتفننكو الذي مات مسموما في بريطانيا

الكتاب: تفجيرات روسيا : الإرهاب من الداخل ـ المؤلفان: الكسندر لتفننكو ويوري فلشتينسكي ـ الناشر: جبسون سكوير، لندن، 2007
TT

يبدو أن الكساندر لتفننكو لم يزل يثير جدلاً وصخباً كبيرين من قبره في منطقة هامستد بلندن، حيث دفن. قلة من سمع عن هذا الرجل المتحمس الذي لم يكن بالإمكان التنبؤ عنه أو عن شخصيته بشيء حتى وفاته متسمماً بمادة بولونيوم -210 في نوفمبر(تشرين الثاني) عام 2006. لتفننكو كان ضابطاً سابقاً في جهاز المخابرات الروسية ((KGB ثم تحول ضد بوتين وجهاز المخابرات هذا. قبل عام على وفاته منح الجنسية البريطانية. أما الكتاب الذي ألفه، ولم يعش ليوقع على غلافه مع شريكه في التأليف فلشتينسكي فهو آخر صيحة إدانة له ضد النظام الذي كان يمقته ويحمل كرهاً شديداً له. يتضح من قراءة هذا الكتاب "تفجيرات روسيا: الإرهاب من الداخل" أن المؤلفين لتفننكو وفلشتينسكي يهدفان منه لفت أنظار المجتمع الغربي وتحويله ضد بوتين ويرميان إلى إقناع الروس بأن رئيسهم يقود منهجاً للقتل.

الحقيقة ان هذا الكتاب هو آخر نسخة منقحة لنص كتب أولاً قبل خمس سنوات. ففي عام 2002 كتب المؤلفان فصولاً منه، اعتقدا بأنها قد تدحض المنطق الرسمي لأسباب الحرب التي شنت ضد الشيشان أواخر 1999، والبرهنة على أنه منطق حكومي مفبرك. كان تفجير المجمعات السكنية قد حدث في سبتمبر (أيلول) في موسكو ومدن أُخرى، أدت إلى مقتل المئات من الناس الأبرياء. حينها وجهت الاتهامات إلى الانفصاليين الشيشان، لأن الشعور الشعبي اتجه نحو الأسباب التي أوردتها الحكومة. كان الرئيس بوتين في ذلك الوقت مستعداً لدفع الجيش الروسي في ديسمبر (كانون الأول) إلى الشيشان. ويصف الكاتبان هذا الاجتياح بأنه اجتياح وحشي، لا يمكن تصوره. كان هناك عشرات المئات من القتلى ونصف سكان المنطقة فروا عبر الحدود، وأصبحت الشيشان مثل "سطح القمر".

العديد من المعلقين ومن ضمنهم المؤلفان لتفننكو وفلشتينسكي يعتقدون بأن المخابرات الروسية هي التي دبرت ونظمت تفجيرات المجمعات السكنية، وذلك لاستمالة تأييد وتعاطف الناس وتقبلهم لنداء الحكومة الداعي للحرب على الشيشان. من جهة أُخرى، كانت هناك انتقادات وإدانات من ضمنها ما قامت به الصحافية أنا بولتكوفسكايا والبليونير بوريس بيرزوفسكي. بولتكوفسكايا كتبت عدة معالجات ومقالات صحافية مهمة حول الاوضاع في الشيشان. ُواغتيلت أنا بولتكوفسكايا في موسكو في أكتوبر (تشرين الأول) 2006. أما بيرزوفسكي فقد تكلم بحدة ضد إدارة بوتين قبل أن يهرب إلى بريطانيا ويطلب اللجوء، ومن هناك استمر على هجوماته وشجبه الحاد لسياسات الكرملن.

اتجه لتفننكو لطلب المساعدة والمساهمة في كتابة مادة كتابه إلى المؤرخ فلشتينسكي. وهكذا أكملت خبرات الواحد منهم للآخر. فلتفننكو على دراية واسعة بشؤون وأساليب المخابرات الروسية القديمة (KGB) ثم خليفتها منظمة (FSB) من الداخل. فقد درس فنون المخابرات ويعلم كيف استعادت مكاتب الخدمات السرية الروسية عافيتها وثقتها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي السابق وسعيها إلى بسط سيطرتها على السياسات الروسية. أما فلشتينسكي فله تجربة مختلفة أُخرى. ففي عام 1978 هاجر إلى خارج بلاده كطالب، ثم عاد إلى موسكو ليباشر بحثاً على رسالة دكتوراه في الحزب الاشتراكي الثوري، حيث عمل لبضعة أشهر مع الشيوعيين.

عام 2002 تعاونا على تأليف كتاب، لكنهما لم يجدا له ناشراً لدى دور النشر الغربية. وبمساعدة محدودة من بيرزوفسكي، طبع لتفننكو وفلشتينسكي كتابهما على نفقتهما الخاصة لكنه لم يثر انتباه أحد. عام 2004، جددا من مادة كتابهما وشحنا (5000) نسخة منه إلى موسكو. ولكن قبل توزيع النسخ تم حجز الشحنة بأكملها. أما الآن فقد صدر الكتاب وبنسخة جديدة. ويمكن القول بأن هذا الكتاب ما كان ليصدر لو لم يثر موت لتفننكو كل هذا الضجيج لإعلامي والإشكال الذي حصل بين بريطانيا وروسيا. بعد صدور الكتاب الجديد هذا ظهرت الكثير من التحليلات المختلفة والمتباينة بشأنه، وتسربت، من دون شك، نسخ منه إلى روسيا.

الكتاب مزدحم بالمعلومات ومليء بتفاصيل حديثة، أهمها شهادة أشميز غوشييف، الذي كان أول من أُدين بارتكاب الهجومات الإرهابية. كان غوشييف يدير عملاً صغيراً لتوزيع المواد الغذائية في موسكو ومستأجراً أماكن في المجمع السكني هناك. إنه الآن يعيش متخفياً لكنه أبدى موافقته على أن يكون شاهداً ومشاركاً في هذا الكتاب: يتضح من شهادته انه من كاراشاي وليس من الشيشان. والكاراشاي هم شعب من شمال القوقاز، لكن الجهات الرسمية الروسية وجدت بأن ذلك يكفي لإلقاء مسؤولية تفجيرات المجمعات السكنية على الشيشانيين. يعتقد غوشييف بشدة ان بوتين يسعى إلى استخدامه ثانية كحجة لاجتياح جمهورية كاراشاي الجركسية في روسيا. في الواقع، إن حقيقة هذا الأمر لا يمكن التثبت منها وتأكيدها، وستبقى خفية حتى يتم بشأنها تحقيق نزيه. أما الصحافة وأجهزة الإعلام الروسية فيبدو أنها غير مستعدة، أو بالأحرى غير قادرة الآن على طرح هذا الأمر. غير أن بعض السياسيين قد تجرأ للقيام بالخطوة الأولى نحو إجراء التحقيق وهم أعضاء مجلس البرلمان (الدوما): سرغيه يوشنكوف، فلاديمير غولوفليوف، ويوري شيكوشكين. يوشنكوف وغولوفليوف قتلا، أما شيكوشكين فقد مات مسموماً، حيث تقشر جلده وسقط شعر رأسه. الكتاب يكشف عن العلاقة التي تربط بين المؤلفين وعضوي البرلمان القتيلين. السؤال هنا يدور حول ما إذا كانت كل حوادث القتل هذه لها صلة في ما بينها أم لا. المؤلفان يعتقدان بوجود هذه الصلة، لكن الأدلة لم تزل غير متوفرة حتى الآن.

ربما أهم فصل من فصول الكتاب هو ذلك الذي يدور حول الحالة الغامضة عن إخفاق عملية تفجيرات عام 1999. فقد اكتشفت شرطة مدينة ريازان أكياساً تحتوي على مواد متفجرة في إحدى البنايات، فيما كانت التفجيرات تحدث في موسكو، كذلك اكتشفت بأن المخابرات الروسية (FSB) هي التي وضعت هذه الأكياس هناك . كان على مدير (FSB) أن يتصرف ويعطي تفسيراً سريعاً فادعى بأن الأكياس كانت تحتوي على السكر وان (FSB) كانت تجري تجربة لترى مدى استجابة الجمهور لحالة إنذار بوقوع عمل إرهابي . لكن هذه الرواية خضعت إلى تغييرات كثيرة وتفسيرات مختلفة.

الكاتبان يوردان بعض أسماء الأشخاص المتورطين بمثل هذه الأحداث التي حصلوا عليها من مصادرهما الخاصة، فيما تكتما على أسماء آخرين خشية تعرضهم للخطر. من المؤكد أن الكتاب كان موضع نقاش سري حاد بين أصحاب بيرزوفسكي. كان بيرزوفسكي حتى ذلك الوقت يتمتع بحياة مرفهة وهو يقوم بتدبير شؤون عائلة يلتسين المالية. أما ألكسي غولدفارب، الذي يحرص التلفزيون البريطاني على إجراء مقابلات منتظمة معه، باعتباره أحد أقرب أصدقاء لتفننكو، فمعروف عنه بأنه اليد اليمنى لبيرزوفسكي. إن بيرزوفسكي هو من دعم لتفننكو وفلشتينسكي على إصدار كتابهما. لذلك ينبغي أن يقرأ هذا الكتاب وفق هذا السياق.

أما في ما يتعلق باغتيال لتفننكو ومن أمر باغتياله، فإن الأمر لم يزل يصعب التكهن به. وربما حتى الرئيس بوتين ليس له علم بذلك. لكن "صورة لتفننكو على شاشة التلفزيون وهو يصارع الموت، قد تبدو اكثر صعوبة لكنس المأساة الشيشانية، وإخفائها تحت سجادة أولئك الذين يقيمون موائد إفطار حميمية لبوتين في العواصم الأوروبية.