ماذا حصل لثورة أكتوبر الاشتراكية؟

الإمبراطورية التي مثلت سدس مساحة اليابسة تحاول لملمة أشلائها

«ما بعد الشيوعية... الدين والثروة والقومية في زمن التحولات» ـ المؤلف: د. عاطف معتمد عبد الحميد
TT

في رثاء الإمبراطورية السوفيتية قالوا: إن لينين اخترعها، وأرسى قواعدها ستالين، وضرب أول معول في هدمها خورتشوف، وأصابها بالجمود المميت بريجنيف، وهدم أركانها غورباتشوف، وأطلق عليها رصاصة الخلاص يلتسين. غير أن ذلك السقوط المدوي طرح أسئلة كثيرة ما زالت تطل برؤوسها على عالم ما بعد الشيوعية في روسيا وما حولها.

ماذا فعلت روسيا بعد تفكك الإمبراطورية السوفيتية؟ في أي طريق سارت؟ كيف عاشت مخاض المرحلة الانتقالية؟ هل سلمت بالأمر الواقع وتخلت عن الحنين إلى الإمبراطورية ومهابة الدولة العظمى أم أن بوتين ورفاقه مصممون على التحدي حتى وإن كان بعد فوات الأوان؟ وقبل كل شيء ماذا حصل لثورة اكتوبر؟ أسئلة كثيرة ومتشابكة يطرحها الباحث الدكتور عاطف معتمد عبد الحميد خبير الشؤون الروسية في كتابه "ما بعد الشيوعية... الدين والثروة والقومية في زمن التحولات"، محاولا عبر التحليل والغور في أعماق التاريخ السوفيتي الغابر التماس إجابات لتلك الأسئلة التي لا تزال بدورها تشكل تحديات كبيرة في مخاض تلك المنطقة المتعثرة برغم مرور أكثر من 15 عاما على السقوط.

لحظة الانهيار

* حين انهار الاتحاد السوفيتي في ديسمبر من عام 1991 حسم لافروف رئيس الجمعية الجغرافية تردده وتغلب على آلامه، وكتب افتتاحية دورية جمعيته الجغرافية قائلا: "لا أكاد أصدق نفسي، ما الذي يسري في هذه الخريطة؟ هل سقطت كل المفاهيم التي عشت معها خلال الخمسين عاما الماضية؟ ماذا عساي أن أفعل؟ ماتت الشيوعية إذن من دون مقدمات فيما عد انتصارا للقيم الرأسمالية والنهج الليبرالي". وقد ساهمت فترة الارتباك والتخبط التي عاشتها روسيا والدول المتفككة عن النظام الشيوعي في منح ذلك الاعتقاد شرعية مرحلية. وعلى نحو درامي لم يتوقعه حتى مخرج أفلام للخيال العلمي في هوليوود سقط الاتحاد السوفيتي وتحولت جمهوريات آسيا الوسطى من مركز للصادرات الزراعية والمعدنية ومحطة إطلاق المركبات الفضائية، وحاملة ميراث طريق الحرير العتيق، إلى أكبر موقع لتمرير المخدرات ومصدر رئيسي لاشتعال التوتر والحروب الأهلية، وسقطت بالمثل جمهوريات القوقاز الشيوعية سابقا في جحيم التطهير العرقي، وغدت موطنا لحروب عرقية وتوترات حدودية ساخنة. وهكذا وجد 280 مليون سوفيتي سابقا، 50 مليونا منهم مسلمون، أنفسهم في واقع يموج بالعنف والصدام، وتتربص بهم الأزمات الاقتصادية وقسوة عواصف التغيير.

يسرد الباحث في فصل تال الوقائع الحزينة لنهاية إمبراطورية أفقدت العالم توازنه وأربكت نطاقا جغرافيا عريضا يمتد من المحيط الهادئ في الشرق إلى الأطلسي في الغرب، ثم يعرض التداعيات التي ألمت بخريطة الجغرافيا السياسية للمنطقة والتي ما زالت تتفاعل في صراع جديد على النفوذ بين إمبراطورية مهزومة وغرب منتصر يريد الإجهاز على غريمه للأبد.

الفيدرالية ومعضلة الديموغرافيا

* يستعرض الباحث تاريخ روسيا التوسعي بدءا من القرن العاشر الميلادي في الجهات الأربع من حولها متأثرة بالسياسة التقليدية لحليفها البيزنطي آنذاك، فعمل الروس على ضم كييف وأراضي ما بين البحرين(الأسود وقزوين) ثم شرق أوروبا، ليتوانيا وبولندا والقوقاز وفنلندا ووسط آسيا ثم التوغل شمالا وصولا لسيبيريا ومن بعدها آلاسكا وجزر الكوريل.

ورغم هذا التوسع الجغرافي المترامي والإثني المتعدد إلا انه لم تكن هناك فرصة لصياغة بناء الدولة على أساس قومي، إلا فيما يمكن تسميته بمحاباة السلطة لسكان المركز( الإثنية السلافية الوطنية) على حساب سكان الأطراف( الغرباء على أطراف الدولة). ومع الثورة البلشيفية في عام 1917 تمكن الشيوعيون من إخماد المطامح القومية، مستخدمين في ذلك سبلا قسرية مختلفة، إذ نادوا بتجاوز الإثنيات والقوميات. لكن في نهاية الأمر، كان هذا الاتحاد الضخم في نهاية التسعينات - وكما يشير الباحث - تحكمه أقلية سلافية تشكل 19% من مجموع السكان بينما تشكل باقي القوميات ما يقرب من 75%. وساهمت الحركات القومية في دول البلطيق ومولدوفا في نشر الفكر الانفصالي في بقية أنحاء الاتحاد السوفيتي، كما كان للنزاع الإقليمي على المناطق بين الجمهوريات – أذربيجان وأرمينيا - أثر مدمر. وبين عشية وضحاها أضحت الإمبراطورية التي كانت تمثل سدس مساحة اليابسة تحاول لملمة أشلائها عبر خيار الفيدرالية مع الجمهوريات المفككة. ويوضح الباحث أن هذا الكيان الذي تأسس عام 1993 كان يمثل نمطا معقدا من التنظيمات الإدارية والمساحية، إضافة إلى شكوك كبيرة حول حقيقة تمثيل هذا البناء الفيدرالي للممارسات الديمقراطية وبخاصة العلاقة التي تحكم مناطق الأطراف بالمركز، في ظل عدم حصول المطالب العرقية في ذلك البناء على حقوقها الثقافية. كما أن تلك الوحدات الفيدرالية ترتبط ارتباطا اقتصاديا بمصالح المركز. فضلا عن الفوضى الاثنية التي زرعتها الشيوعية عن عمد بين الجمهوريات خاصة في القوقاز.

أزمة أخرى في انتظار روسيا ما بعد الشيوعية يرصدها الباحث ويرى أنها تتمثل في القنبلة الديموغرافية التي تسحب البساط من تحت أقدام الروس لصالح مناطق روسيا الإسلامية، فبينما سوف يتناقص عدد السكان الروس(142 مليون) بنسبة 6% خلال الخمس عشرة سنة المقبلة، تزيد نسبة سكان القوقاز إلى 13%، ويصل التهديد الديموغرافي إلى منعطف خطير حين يشير معدل النمو السكاني في عام 2005 إلى نمو بالقيم السالبة، حيث يتناقص عدد السكان سنويا بمعدل0,37% مما أدى إلى فقدان روسيا في عام 2005 لنحو 530,000 نسمة. ويسوق الباحث أسباب هذا الانكماش السكاني مرجعا إياه إلى الظروف الاجتماعية والهجرة إلى إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وانخفاض معدلات الإنجاب وزيادة نسبة الوفيات في حقبة التسعينات (75% منها ارتبطت بأمراض شرايين القلب) بسبب انهيار مستوى الرعاية الطبية، إضافة إلى حالات الإجهاد العصبي التي أصابت الروس في فترة التحولات العميقة التي شهدتها بلادهم، خاصة فيما يتعلق بارتفاع الأسعار وتناقص الدخل والتفاوت الكبير بين نمط الحياة الاقتصادية الذي صار فجأة رأسماليا ونمط دخولهم المحدودة، مما دفع شرائح متعددة من المجتمع إلى الإقبال على إدمان الخمور مما تسبب في ارتفاع حالات الوفاة.

جنبا إلى جنب مع المشكلات سالفة الذكر وإضافة إلى معضلات علاج الاقتصاد المتخبط بين اقتصاد السوق وميراث الاشتراكية، شهدت روسيا ما بعد الشيوعية توجهات قومية متباينة، ففي حين يستمد السلاف شرعيتهم من قومية الدولة والقومية الوحدوية، يتطلع التتر هناك إلى تفعيل قومية الحكم الذاتي الفيدرالي، بينما تصنف طموحات القومية الشيشانية كقومية انفصالية. وكما ساهمت الحركات القومية في البلدان الشيوعية في إذكاء المطامح الاستقلالية في العقدين الأخيرين من عمر الشيوعية، امتدت عدوى المطامح القومية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي إلى داخل البيت الروسي عبر الحركة القومية التترية وتوجهات الفكر القومي السلافي الذي يطالب بدولة "روسية" تجمع الروس وحدهم والتخلص من عبء كافة الجمهوريات غير السلافية. ويفصل الباحث العلاقة التاريخية بين الإسلام والشيشان ومساعيهم إلى الانفصال عن روسيا بما في ذلك خوضهم حربين خلفا 100 ألف قتيل انتهج فيها بوتين قبضة حديدية واتهامات بالتطهير العرقي.

آسيا الوسطى والقوقاز

* يتوجه الباحث فيما بعد صوب جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز مستعرضا تاريخها السياسي منذ القرن السادس قبل الميلاد وحتى القرن الواحد والعشرين وصولا إلى مناقشة أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في ظل حكم الشيوعية. ثم يقف الباحث طويلا عند انعكاسات سقوط الاتحاد السوفيتي على هذه الجمهوريات ذات الأغلبية السكانية المسلمة والمرحلة الانتقالية التي تلت ذلك ومحاولات السير في طريق التحديث وإرساء الديمقراطية والإصلاح الاقتصادي. ويعرج الباحث إلى مناقشة الصراع الديني والسياسي الذي لف المنطقة بسبب الميراث الشيوعي والاضطراب الذي شهدته المنطقة عند سقوط السوفيتية، والاستبداد السياسي، والتغلغل العسكري الأمريكي، وتأخر المستويات الاقتصادية، والاضطرابات العرقية. ويلفت الباحث النظر إلى أن فترة البيروستريكا (1985 -1991) كانت فترة مثالية للتوجهات الدينية التي انتهزت غض السلطة المركزية عن المتابعة، مما جعل المنتمين للتيارات الدينية يستغلون الفرصة في وقت لم يكن هناك منافس، إذ لم تحقق الحركات القومية في المنطقة نجاحا يذكر بسبب تنوع الخريطة العرقية وتشابكها. وكانت الحركات الإسلامية تنادي بأن "الإسلام دين فوق القوميات" ومن ثم كانت أكثر قدرة على الوصول إلى قطاع أكبر من الفسيفساء التي استهدفتها حركات المد القومي. كما لم يكن بوسع الليبرالية تحقيق أي نجاح بفضل الستار الحديدي الشيوعي. وكان بعد سقوطه أن تم الترحيب بالحياة الدينية من جديد، ففتحت المزيد من المساجد، وتوالت الاحتفالات الدينية، وسيرت رحلات الحج والعمرة، وصارت برامج الإذاعة والتلفاز تعيد إلى الناس تاريخهم الديني القديم.

مخاض أوروبا الشرقية

* ظل الحضور الروسي ماثلا في أوروبا الشرقية منذ القرن العاشر الميلادي حتى نهاية القرن الخامس عشر، إلى أن بدأت قوى إقليمية صغرى في الظهور مثل ليتوانيا وبولندا، لكن روسيا عادت منذ القرن الثامن عشر إلى شرق أوروبا مجددا، ولم تغادرها إلا في عام 1991 مع التفكك السوفيتي. وفي خلال ذلك التاريخ - وكما يوضح الباحث - تحول إقليم شرق أوروبا إلى منطقة تكسر لحروب روسيا مع الجيران. ويتألف نطاق التكسر من ست دول هي: استونيا ولاتفيا وليتوانيا (المعروفة بدول بحر البلطيق) إضافة إلى روسيا البيضاء وأوكرانيا ومولدوفا. وفي هذا الفصل يتعرض الكاتب للتحولات التي عاشتها كل دولة على خلفية علاقتها مع روسيا من ناحية ومحاولات التغلغل الغربي من ناحية أخرى في ظل اعتبار دول البلطيق طابورا خامسا يعمل لمصلحة الغرب ضد روسيا عبر انضمامه لحلف الناتو 2002 والاتحاد الأوروبي 2004.

وعلى ضوء ذلك يناقش الكاتب أزمة الهوية التي تعيشها أوكرانيا وتأرجح السياسة الخارجية بين محاولة كسب الغرب دون خسارة روسيا، ويذكر أنه حتى انتصار مؤيدي الغرب في الانتخابات التي جرت مؤخرا لا يمنع استمرار هذا التأرجح بين مساعي نقل أوكرانيا بالكامل إلى المناخ الأوروبي، وبين التوجه البراغماتي الذي يتفهم تأثير روسيا الذي لا يمكن الفكاك منه ورؤية روسيا لأوكرانيا بوصفها جزءا من التاريخ والهوية الروسية. وبرغم السعي الأوكراني للفطام عن موسكو إلا أن الأخيرة لا تزال لديها القدرة على التأثير على الاقتصاد الأوكراني ولا ينفك بوتين بين الحين والآخر يهدد بوقف تصدير الغاز الطبيعي إلى أوكرانيا كتوظيف سياسي للضغط على حلفاء الغرب في كييف.

بعد ذلك يناقش الكاتب المحاولات الحثيثة للدول المتفككة عن الاتحاد السوفيتي في الاندماج في تنظيمات إقليمية تحافظ على ما بينها من عناصر مشتركة وأهداف متقاربة. فكان كومنولث الدول المستقلة ومنظمة شنغهاي واتحاد غوام ومنظمة الأمن الجماعي والتعاون في آسيا الوسطى.

ويختتم المؤلف بحثه بطرح سيناريوهات مستقبلية للطريق الذي ستسلكه دول ما بعد الشيوعية. حيث صنف هذه المؤشرات المستقبلية إلى صنفين: ثوابت ومتغيرات. فاعتبر أن بقاء المركز(موسكو) غير قادر على التخلص من دوره التاريخي الذي يستمد كافة ممارساته من إرث الألف عام الماضية، مستلهما روح التجربة الأوروبية التي تخلصت من "الكولونيالية" لصالح" نيوكولونيالية" أقل صراحة وانكشافا وأكثر نعومة وتسترا في تحقيق المصالح والنفوذ. كما يرى المؤلف محاور الحركة الروسية المستقبلية تتجه نحو" التعاون" و"التحالف" و"التفاهم" وغيرها من المسميات الدبلوماسية لأخذ فسحة من الزمن لترتيب البيت الروسي من الداخل واستعادة القوة المهدرة. فالمصالحة فقط هي الضامنة لإعادة بناء الدولة الروسية وتحقيق طفرة اقتصادية كالتي حققتها الصين.