يوميات الغربة والحروب والعودة إلى اللاوطن

شعر عراقي باللغتين الألمانية والعربية

TT

قال الشاعر الهنغاري الكبير فوروش شاندور مرة: "ماذا تعني القصيدة إذا لم تهزني كما يهتز حبل يتدلى في الريح" ولخص بالتالي جدلا تاريخيا طويلا حول الذائقة الشعرية. ومختارات الشعر العراقي الجديد، باللغتين الألمانية والعربية، انتقاءات "تهز" مشاعر القارئ وتؤدي رسالتها على أحسن وجه. هي مجموعة أعمال لأكثر من 40 شاعرا تلخص تطور القصيدة العراقية الجديدة منذ نشأتها على يدي نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وصولا إلى الشعراء الشباب امثال عباس خضر وكلالة نوري ودنيا ميشائيل، عبر جيلي الستينات والسبعينات الممتد بين فاضل العزاوي وفوزي كريم وعبد الكريم كاصد.

تحمل المجموعة، التي تترجم قصائد لأبرز الشعراء العراقيين من مختلف المدارس والتوجهات والأجيال الشعرية، اسم "العودة من الحرب"، وقد حررها وقدم لها الشاعر خالد المعالي المقيم في كولون/ ألمانيا. ربما لا تحفل كافة القصائد بأجواء الحروب والقنابل والقتلى، لكنها تلخص تاريخ الحروب والدمار والغربة على مدى اكثر من 5 عقود من تاريخ العراق المعاصر. فمعظم القصائد تعكس حزن عشتار الأزلي على تموز ورحلتها بين النساء النائحات إلى مملكة عالم الأموات من أجل تحريره من الموت. وهي أشعار، بعضها عمودي والآخر حر أو نثري، كتبها الشعراء في غربتهم الداخلية والخارجية، تنطق بالأسى والموت والحرمان والتهجير وترثي العراق والعراقيين.

فالعودة من الحرب قد تكون فعلية كما في قصيدة الشاعر خالد المعالي التي تحمل نفس العنوان، "أزهار مائلة الأعناق"، أو عند هاشم شفيق، "حبيبة" عرفها عبد الوهاب البياتي في كل سجون العالم، "وليمة" يقيمها الجلاد عند سركون بولص، "أنخاب" وطن ضائع عند فاضل العزاوي أو غزاة برابرة تحمل العربات خلفهم دنانا من الخمر عند عبد الكريم كاصد.

والعودة من الحرب، وما اكثر الحروب الخارجية والداخلية التي شهدها العراقيون خلال 30 سنة، هي غربة طويلة تجعل شاعرا مثل سعدي يوسف يشتم نفسه وقصيدته الجديدة، أو حنين شديد يقطر من قلب هاشم شفيق المفطور، مدينة خالية يرى فيها محمود البريكان الأزهار مائلة الأعناق، حرب حقيقية تصب غيوما من غاز الخردل على رؤوس أطفال حلبجة في قصيدة "سلاح كيمياوي" لسعدي يوسف، قلب مفعم بالالغام عند الراحل جان دمو، شعب بلا اسم لأنه بلا حاضر عند عبد القادر الجنابي، "شرطي في الجلد" عند جليل حيدر أو أنه نفي الشاعر الهيليني يانيس ريتسوس إلى جزيرة ساموس عند حسين علي يونس.

ديوان القيامة العراقية، إذا صحت هذه التسمية، مشحون بالقصائد السياسية المباشرة وحالات الانكسار التي يثيرها الرجوع البعيد من المنفى، الاسى للأهل والأحبة، والشعور بخراب الروح الذي خلفته الحروب والدكتاتورية في الناس.

* كتب خالد المعالي:

- عدت من المنفى لكي أمضي

* عابرا في طريق ركام السنين

- ناسيا أشجاري وأنهاري التي اختفت

* باحثا عن الذكرى

- عن الوهم، عن الدرب الترابي الصغير.

* لكني تهت، عندما عدت من المنفى

- لكي أمضي

* عكازي اختفى والظلام حلّ

- وما عدت أدري أين الطريق.

ولأن الحنين للوطن هو "الجهل" بما يحدث للوطن والأهل والذكريات والاشياء، كما يقول ميلان كونديرا في روايته الشهيرة "الجهل"، نرى ان كل شيء يبدو "مجهولا" بالنسبة لفوزي كريم في قصيدة وطن:

أعود لهدأته أول الليل،

لا أحد أتعرّف،

لا سكنا،

-لاشراع مما ألفت في الليل.

رائحة الثأر في كل منعطف.

وفي وحشة المنفى، بعيدا عن الحروب التي تجري، دون إرادة الشاعر، يسمع الشاعر كريم كاصد وقع حوافر الغزاة وهم يغذون السير باتجاه الوطن:

ها أنا الآن أسمع أصواتهم كالصهيل، كالضياء

فوانيسهم آخر الليل، وقع حوافرهم في الطريق،

يجيئون مثل برابرة... خلفهم تحمل العربات دنانا

من الخمر... أردية بقعتها الحروب، نمورا مرقطة،

وجيادا حوافرها حجر... يسفحون الطريق ويمضون...

ويتساءل سعدي يوسف مع نفسه عن مغزى هذا الاحتلال في قصيدة "إلى زوار غربيين":

نسألكم بالله لماذا تأتون إلينا؟

نحن رعاة

صعاليك

وصيادو سمك قد لا يكفي للقوت اليومي

وأبّارو نخل أحيانا.

والمجموعة، التي تقع في نحو 700 صفحة، لا تنسى قصائد الاوائل مثل السياب والملائكة وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي. فالكتاب يحتوي ترجمة كاملة لقصيد "انشودة المطر" للسياب/ من بين عدة قصائد أخرى، وقصيدتي "الافعوان" و"أنا" لنازك الملائكة و"اعتذار عن خطبة قصيرة" و"الموت في المنفى" لعبد الوهاب البياتي و"الرحلة الثامنة" و"قال لنا شيئا" لبلند الحيدري و"الوصايا" و"لعبة السفر" للميعة عباس عمارة، إضافة إلى "الشحاذ الصغير" و"رجل الضباب" لحسين مردان. وطبيعي فهناك قصائد أخرى ترجمت لهؤلاء الشعراء ولا يتسع المجال لتسميتها كلها بالعنوان.

والملاحظ أن خالد المعالي اختار قصائد "محايدة" لشعراء مجدوا صدام حسين وطغيانه وحروبه من امثال سامي مهدي والراحل يوسف الصائغ. وبدت هذه الأسماء نشازا بين أسماء شعراء المنافي وشعراء الداخل "الصامتين" والمقاومين، لكن المعالي، كما كتب في المقدمة الالمانية للكتاب، أراد أن يحدد خياراته على أساس المكانة الشعرية وليس على أساس الموقف السياسي. وعلى أية حال يعتقد المعالي أن هؤلاء ايضا عادوا خاسرين من الحروب التي زمروا وطبلوا لها.

ترجم القصائد خالد المعالي، صاحب دار "الجمل"، بالتعاون مع زميله هيربرت بيكر، كما شارك الكاتب علي محمود الجبوري بترجمة قصائد أخرى. صدر الكتاب عن دار كيرستن غوتكة كولون/ فرانكفورت.