إسرائيل تختار زهرة برية فلسطينية لتمثيلها في أولمبياد الصين

مثقفون غاضبون.. والرسميون صمتهم مريب

فراج امام معرض اشجار الزيتون المقتلعة
TT

اختارت إسرائيل زهرة برية فلسطينية شهيرة لتمثيلها في أولمبياد الصين، بعد أن تم ترشيح عدة نباتات وزهور أخرى. وتنافست كل من زهرتي «قرن الغزال» و«شقائق النعمان» بعد أن وصلتا إلى التصفيات النهائية، في مسابقة شهدت إقبالا من جمهور المصوتين، لاختيار إحداهما. وتم في النهاية اختيار قرن الغزال مع شجرة الزيتون التي فازت بدورها، من بين عدة اشجار، لتمثيل إسرائيل في «حديقة الورود» التي ستفتتحها الصين بمناسبة استضافتها للألعاب الأولمبية وبالتزامن معها. وإذا كانت شهرة «قرن الغزال» محدودة كرمز وطني فلسطيني، فإن شجرة الزيتون باتت رمزاً معروفاً لنضال الفلسطينيين ومقاومتهم. فكيف قبلت الصين بهذا الاختيار دون أي اعتراض؟ ولماذا بقي الصمت الفلسطيني الرسمي مريباً إلى هذا الحد؟

ستمثل زهرة «قرن الغزال» إلى جانب شجرة الزيتون دولة إسرائيل، في الحديقة التي ستفتتح في الصين، بمناسبة الألعاب الأولمبية المقبلة وبالتزامن معها، تحت عنوان «نحن في عالم واحد».

وشارك نحو 43 ألف شخص في التصويت عبر الإنترنت، وحسموا المسألة لصالح قرن الغزال في سباق اعتبر محموما بينها وبين «شقائق النعمان». بينما كان التصويت بالنسبة لاختيار شجرة، لصالح شجرة الزيتون التي تشتهر فيها فلسطين الانتدابية، منذ البداية.

وتعتبر «قرن الغزال» من اجمل الأزهار البرية التي تنبت في فلسطين التاريخية، بين البحر الأبيض المتوسط، ونهر الأردن، وتتخذ أوراقها شكل القلب، وألوانها بيضاء مزهرة، وفي بعض المناطق تضاف الزهرة وأوراقها إلى أطباق محلية فلسطينية.

ولجمال هذه الزهرة الأخاذ، أطلقت عليها أسماء كثيرة، وتكاد كل منطقة في فلسطين تعرفها باسم معين، فبالإضافة إلى اسم الزوزو الذي يطلق عليها في ريف القدس، فإن لها أسماء متعددة مثل: الزعمطوط، وعصا الراعي، وسيدو دويك الجبل، ومن أسمائها بخور مريم، نسبة إلى السيدة مريم العذراء.

ولا تقل شقائق النعمان الحمراء عنها جمالا، وهي اكثر شهرة منها. فقد اتخذت اسمها من النعمان بن المنذر، ويطلق عليها الفلسطينيون أسماء مثل «الحنون» و«الدحنون».

وتزهر النباتات البرية الفلسطينية بداية من شهر فبراير (شباط)، وكأنها تمهد لقدوم الربيع، ويستمر مفتحة طوال الربيع. وبسبب موعد تفتحها هذا، فان إسرائيل تواجه مشكلة، لانه سيتعين عليها عرض زهرة قرن الغزال في شهر أغسطس (آب) المقبل، تزامنا مع موعد الألعاب الأولمبية.

وسلطة الطبيعة في إسرائيل، منشغلة الان في إيجاد طريقة لجعل قرن الغزال تزهر في الصيف، كي تتمكن من عرضها في صيف بكين.

وينظر علماء الطبيعة باهتمام، إلى التنوع النباتي في فلسطين، بسبب عدة عوامل، من بينها التباين المناخي بين المناطق، رغم صغر مساحة فلسطين، وتفوق الأنواع النباتية فيها نسبة إلى بلاد واسعة كبريطانيا، على سبيل المثال. ففي منطقة القدس وحدها، سجل العلماء اكثر من ألف نوع من النباتات والأزهار البرية.

وفي كل عام، وقبل أن ينتهي الشتاء، تكتسي المناطق الفلسطينية، بحلة من الأزهار، متعددة الألوان، تنبت بين الصخور، اشهرها قرن الغزال، وشقائق النعمان، والسوسنة السوداء التي تعتبر من النباتات النادرة عالميا، وقبل سنوات جعلتها حكومة المملكة الأردنية الهاشمية الزهرة الرسمية لها. ويعتقد بأن إسرائيل لم تختر هذه النبتة لتمثيلها في الفعالية التي ستنظم على هامش الأولمبياد، خشية من إغضاب الأردن.

ويوجد في فلسطين عدة أنواع من السوسنة السوداء، أخذت هويتها الخاصة من المنطقة التي تنمو فيها، مثل صحراء النقب، أو صحراء البحر الميت، أو جبال القدس.

وبالنسبة للسكان الفلسطينيين، فان الزهور والنباتات البرية، تمثل اكثر من المنظر الجمالي، أو الاستخدام الطبي، أو كونها جزءا من تراث الطعام المحلي، فهي تعتبر جزءاً من ميثولوجيا فلسطينية، تراكمت عبر العصور، وساهمت في صنعها الحضارات المتعاقبة، ويكفي تفحص الأسماء المحلية التي أطلقت على هذه النباتات، لإثبات هذا الأمر.

وفي حين لم يسجل أي موقف رسمي للسلطة الفلسطينية، ضد ما اعتبر سطوا من إسرائيل، على زهرة وشجرة فلسطينيتين، أعرب مثقفون عن غضبهم من «عملية سطو تتم على رؤوس الأشهاد» كما يقول الدكتور إبراهيم الفني، مؤلف عدة كتب عن الآثار والأرض الفلسطينية.

واشار الفني، في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى محاولات إسرائيل الدائبة للسطو على الإرث الفلسطيني، قائلا «نحن أمام خطوة جديدة في مسلسل طويل، ولكن الجهات الدولية العلمية كانت تقف إلى جانب الفلسطينيين، أما الان فإننا نستغرب من الصين قبولها مشاركة إسرائيل برمزين فلسطينيين».

وفشلت إسرائيل، في تغيير بعض أسماء النباتات والطيور المسجلة علميا بأسماء مرتبطة بفلسطين مثل (عصفور الشمس الفلسطيني) و(غزال الجبل الفلسطيني)، بسبب تصدي الجهات العلمية الدولية لها، وان كانت تروجها في إسرائيل باعتبارها جزءاً من الميثولوجيا التوراتية، فتطلق على بعض النباتات الفلسطينية أسماء مثل (شعر شوشانا)، و(دم يهودا) وغيرهما.

وذكرت الباحثة مها السقا، بما فعلته إسرائيل بشأن الأزياء الفلسطينية التقليدية، عندما جعلتها زيا لمضيفات شركة الطيران الإسرائيلية (العال)، وفي نسبة اكلات فلسطينية وعربية إلى إسرائيل مثل الحمص، والفلافل، والمفتول (الكسكس).

وإذا كانت زهرة قرن الغزال غير معروفة، على نطاق واسع، بأنها رمز فلسطيني، فان شجرة الزيتون، تحتل مساحة واسعة في الوعي الجمعي، وتقدم دائما كرمز لفلسطين، وهو ما أثار الاستغراب، بقبول الصين مشاركة إسرائيل بها في تظاهرة الأولمبياد، خصوصا ان الفلسطينيين، ومعهم جهات إسرائيلية يسارية، ومنظمات حقوقية، يوجهون الاتهامات لحكومة إسرائيل بانتهاج سياسة لاقتلاع أشجار الزيتون في الأراضي الفلسطينية.

وتقتلع الجرافات الإسرائيلية، كل يوم تقريبا، أعدادا كبيرة من أشجار الزيتون المعمرة، لإقامة مقاطع من جدار العزل الاستيطاني الذي تبنيه في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.

وعدد من أشجار الزيتون المقطوعة هذه، والتي يطلق عليها محليا اسم (الزيتون الرومي) لقدمها، والتي تعود للعهد الروماني في فلسطين، حولها، ناشط في مجال الدفاع عن الأراضي ومهندس زراعي إلى ما يمكن وصفها بالمعرض المفتوح.

وبدأت فكرة المعرض، عندما ذهب أحد الفلاحين الفلسطينيين، من مدينة بيت جالا جنوب القدس، والتي ضمت أجزاء واسعة منها لحدود بلدية القدس الإسرائيلية، مبكرا إلى أرضه، حيث تجري أعمال لبناء جدار الفصل، وجلس تحت شجرة زيتون أثيرة لديه يزيد عمرها عن ألفي عام وقد قرر شيئا في نفسه، وعندما وصلت في الساعة السادسة صباحا، الجرافات الإسرائيلية التي تعمل في المكان وتقتلع أشجار الزيتون تمهيدا لأعمال بناء الجدار، استوقف الفلاح سائق الجرافة وقال له «إذا أردتم أن تبنوا الجدار فأنتم أحرارا، ولكن لي طلبا صغيرا هو أن تبقى شجرة الزيتون هذه سليمة فهي تحمل تاريخنا كله، وكانت أثيرة لدى والدي الذي مات وهو يوصيني بها، اعملوا الجدار كما يحلو لكم ولكن رجائي أن لا تخلعوا الشجرة وأبقوها سليمة خلف الجدار أو داخل الجدار لا يهم، المهم أن تبقى هذه الشجرة».

واخذ الفلاح يتوسل الجنود الذين حضروا تباعا، ولكنهم اخبروه بأن أوامرهم واضحة: هناك مسار للجدار ويجب التخلص من هذه الأشجار «تنفيذا لأوامر عليا».

وبدأت الجرافات تعمل مثلما عملت طوال الأيام السابقة، في تجريف الأرض، واقتلاع أشجار الزيتون المعمرة. وهو ما أوحى للناشط في الدفاع عن الأراضي، نادي فراج، بفكرة. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» قال فراج «كان مشهد تمسك المواطن الفلسطيني بشجرته مؤثرا، فأخبرته انه يمكنني مساعدته بأخذ الشجرة وزرعها في مكان آخر في أرضه التي لم تصلها الجرافات بعد ولم تصادر». وأضاف «في الواقع لم يكن في ذهني فكرة كاملة عما يمكن عمله، ولكن حجم الشجر الكبير وأعمارها الممتدة عبر القرون، جعل فكرة إعادة زراعتها ممكنة، ولكن كان يجب تخطي بعض العقبات».

في بداية الأمر كان جنود الاحتلال يمنعون الفلاحين من اخذ أشجارهم التي تم قطعها، ولكن بعد احتجاجات سمح لهم بأخذها، فاتصل فراج برافعات وسيارات يملكها أصدقاء ومعارف له وبدأ بنقل الأشجار المقطوعة.

وقدر فراج عدد الأشجار التي تم قطعها من ذلك المكان وإعادة زراعتها بنحو 500 شجرة، تعتبر من أهم أشجار الزيتون في فلسطين، لان مدينة بيت جالا معروفة بنوعية أشجار الزيتون التي تزرع في أرضها. وهو ينتج أغلى زيت زيتون في العالم نظرا لكثافته العالية.

وأضاف «بذلنا جهدا في إعادة زراعة أشجار الزيتون، وكانت التجربة ناجحة إلى حد كبير، رغم أنها لم تكن سهلة».

واخذ فراج شجرة زيتون عمرها نحو 500 عام وزرعها في ساحة المهد في مدينة بيت لحم، قبالة كنيسة المهد التاريخية، التي يعتقد أن السيد المسيح عليه السلام ولد فيها. وأطلق على هذه الشجرة اسم (شجرة السلام) وأصبح وجود الشجرة في المكان لافتا للزائرين والسياح. ووضعت كاتبة أجنبية، تكتب قصصا للأطفال، صورة هذه الشجرة غلافا لكتاب أصدرته مؤخرا. ويحبذ كثيرون من زوار مدينة بيت لحم الأجانب التقاط صور لهم بالقرب من الشجرة.

ولكن شجرة السلام أصبحت هدفا أيضا لجنود الاحتلال الإسرائيلي الذين يقتحمون ساحة المهد من حين لآخر.

وعن ذلك يقول فراج «جاء الجنود هنا ووضعوا سياجا حول شجرة السلام، وطلبوا إزالتها، وهددوا بتجريف الساحة إذا لم يتم ذلك».

ولكن فراج رد على هذا التهديد بإضافة المزيد من الأشجار في المكان، واحضر أشجار زيتون أخرى.

وقال فراج «بعض الأشجار التي أعدنا زراعتها لم تقبل الأرض الجديدة التي وضعناها فيها، فلم تعش، وبعد كل هذه الأشهر أخذتها لأعرضها بجانب شجرة السلام، كي تتحدث بنفسها للعالم عما حدث لها».

وأضاف «زرعها أناس قبل ألفي عام وعاشت بسلام، رغم تقلب الحكومات والإمبراطوريات، وتغير السياسة، ولكنها لم تكن تعرف بأنه سيكون مصيرها الاقتلاع، واقل شيء يمكن أن افعله لها هو أن اجعلها تعبر عن نفسها، ليعرف العالم قصتها».

ويقف فراج بفخر، بجانب أشجار الزيتون التي جمعها معا في ما يشبه المعرض واخذ يفكر في الكلمات التي سيكتبها على لسانها ويعلقها عليها مثلما فعل في شجرة السلام التي كتب تحتها بالإنجليزية يروي قصتها.

واعرب الفلاح الشاب عبد الفتاح عبد ربه، الذي يهدد الجدار والاستيطان أرضه وأشجاره، استغرابه، من اختيار إسرائيل شجرة الزيتون لتمثيلها في الأولمبياد، في حين أنها تمارس أشنع أنواع الأساليب ضد هذه الشجرة التي وصفها بـ «المباركة».