رحيل محامي الأدباء الشاعر عبد الله قبرصي

قاتل لتحرير مي زيادة من العصفورية وترافع عن محمد الماغوط أمام المحاكم

عبد الله قبرصي.. مثقف من نوع آخر
TT

رحل عبد الله قبرصي عن عمر يناهز الثامنة والتسعين. في شخصيته جمع بين الأديب الطريف والمناضل الملتزم

والمحامي القدير، وبوفاته خسر لبنان مثقفاً من نوع خاص، لعله انقرض أو في طريقه إلى الانقراض.

ثمة قاعدة تتعلق بالمبدعين في لبنان وبلاد الشام وربما في العالم، وهي انهم يرحلون في ريعان الشباب وقمة العطاء، فالدمشقي اديب اسحق رحل وهو لم يتجاوز التاسعة والعشرين، والشاعر فوزي معلوف صاحب ديوان "على بساط الريح" عاش 31 سنة. اما مارون النقاش مؤسس المسرح في العالم العربي فلم يعش اكثر من 38 سنة. وكان نجيب عازوري مؤلف "يقظة الأمة العربية" في الاربعين عندما توقف قلبه عن الخفقان، فيما أعدم انطوان سعادة مؤلف "نشوء الامم" وهو في الخامسة والاربعين. ومات عبد الرحمن الكواكبي مسموماً وهو في السابعة والاربعين. وفتك المرض بجبران خليل جبران وهو في الثامنة والاربعين. وكان مؤسس "الهلال" جرجي زيدان في الثالثة والخمسين حين قضى بنوبة قلبية.

ولكل قاعدة شذوذها، فناسك الشخروب ميخائيل نعيمة عاش مائة سنة. ورحل المؤرخ الفلسطيني نقولا زيادة وهو في التاسعة والتسعين. وأمس، مات عضو اتحاد الكتّاب اللبنانيين ومحامي الادباء عبد الله قبرصي وقد ناهز الثامنة والتسعين. والطريف ان مؤلف رواية "مصرع السمنة"، "القومي" الهوى كان صديقاً لنعيمة "الانساني" وزيادة "العروبي"، رغم الخلاف السياسي والفكري. وفي الوقت الذي سمعت من الراحل، اكثر من مرة، اعتزازه بالكلمة النقدية الايجابية التي نشرها نعيمة حول "مصرع السمنة"، التقيت في منزله، عدة مرات بالمؤرخ نقولا زيادة.

وعلى ذكر "مصرع السمنة" فهذا الكتاب ألّفه قبرصي وهو في سجن "المية ومية" المجاور لمدينة صيدا، إبان الحرب العالمية الثانية، حيث اعتقلته السلطة الفرنسية المحتلة لأسباب سياسية. وبالطبع لم تكن المرة الاولى التي يعتقل فيها الراحل. فقد سبق واعتقل في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 1935 بتهمة الانتماء الى حزب سري هو الحزب السوري القومي. واذا كانت حياته المديدة مليئة بالغرائب والطرائف، فإن اعتقاله للمرة الاولى انطوى على اطرف مصادفة واغربها. فقد كان موعد عرسه في اليوم التالي من اعتقاله. وكان مفترضاً ان يكون الاشبين زعيم الحزب انطون سعادة. وهكذا، بدلاً من ان يمضي العريس شهر العسل في الفندق الى جانب العروس، اودع سجن الرمل الى جانب زعيمه وبعض رفاقه.

ولكن الاعتقال لم يلغ العرس ولا حتى أجله لفترة طويلة، فقد هددت نقابة المحامين التي كان المعتقل احد اعضائها بالاضراب اذا لم يفرج الفرنسيون عن المحامي الشاب، ولو بكفالة. وهكذا كان. صحيح انه حوكم بعد اقل من شهرين من اعتقاله، بأسبوعي حبس مع وقف التنفيذ، ولكن حفلة العرس تمت خلال الفترة الفاصلة بين اعتقاله ومحاكمته.

ولم تخل حياة عبد الله قبرصي الجامعية من السياسة والطرافة. فقد كان يدرس الحقوق في الجامعة اليسوعية في بيروت، حين قرر الاشتراك في مهرجان تكريم شهداء "6 ايار 1914"، في دمشق. كان ذلك سنة 1931، ولكي ينجو من الطرد، حضر الدرس الاول في الجامعة، ثم غادر الى دمشق وألقى قصيدة سياسية خاطب فيها الشهداء، قائلاً:

رجعنا الى أقداسكم نقطع المهدا وعدنا على اجداثكم ننشر الوردا

وفي كل عين دمعة لا نمسحها لئلا تفيق الغيظ او توقظ الحقدا

وعاد في المساء الى بيروت وحضر الدرس المسائي.

كتبت جريدة "لاسيري" البيروتية-الفرنسية، خبراً عن الاحتفال نوهت فيه بالشاعر "عبد الله قبرصلي" الذي ألهب الحماس في الاحتفال الذي ترأسه السياسي هاشم الاتاسي. قرأ مدير معهد الحقوق الاب موتارد الخبر، فاستدعاه وسأله: "ألم ينذرك المعهد بعدم كتابة المقالات او القاء الخطب السياسية؟" اجاب: "وقد تقيدت بالانذار". وسأله من جديد: "وهذا العبد الله قبرصلي المذكور اسمه في جريدة لاسيري أليس انت"؟ هنا، ضحك الطالب الشاعر وقال: "انا عبد الله قبرصي لا عبد الله قبرصلي. عائلة قبرصي من لبنان. اما القبرصلي فهي من سورية". وهكذا، بدلاً من ان يطرده المدير من المعهد، اعتذر منه!

لم تكن القصيدة يتيمة. فقد أصدر الرجل ديوانين: "وحي الظلام" و"قبل الطوفان وبعده". ولم يقتصر شعره على السياسة، بل شمل كل الالوان وبخاصة الغزل.

ولنعد الى "اليسوعية"، فقد كانت المحاماة في هاتيك الاعوام متداخلة بالخطابة والديباجة الادبية والسياسة ايضاً. من هنا سر انتقال بعض المرافعات من قاعة المحكمة الى الصفحات الاولى للصحف الكبرى. لذلك يصعب فك الارتباط بين المحامي والسياسي والاديب في شخصية الراحل الفكه. فعلى مدى ثلاثة ارباع القرن، تولى ارفع المسؤوليات في حزب انطوان سعادة، وكان احد ألمع فرسان قصر العدل، ووزع آلاف المقالات الادبية والسياسية في عشرات الدوريات البيروتية والدمشقية ناهيك بمجلته "الندوة" التي اصدرها في فنزويلا أثناء لجوئه اليها، اثر صدور حكم باعدامه في بيروت لاسباب سياسية. اما لماذا اختار فنزويلا، فلأن اباه كان يقيم فيها الى جانب قبيلة من الاشقاء والشقيقات من ابيه. والطريف انه التقى بابيه بعد حوالى نصف قرن من الفراق. وهذه المرحلة من حياته ضمّنها مخطوطة ادبية سوف تصدر قريبا تحت عنوان "عبد الله قبرصي يتذكر- الجزء الخامس". وتمتاز مذكراته، بمستواها الرفيع لانها تجمع بين التجربة الغنية والصياغة الادبية الفكهة.

ولنختم بمعلومتين حول محامي الادباء. ففي عام 1938، اتهمت الاديبة مي زيادة بالجنون وتم الحجر عليها واودعت "العصفورية" طمعا بثروتها. وكان المحامي قبرصي في طليعة الذين قاتلوا لتحريرها. ولعل مقالاته في جريدة "النهضة" البيروتية خير دليل. وحين تحررت مي، زارها برفقة صديقه الاديب فؤاد سليمان، وقدما لها باقة من الازهار. فقالت لهما وهي تتسلم الباقة: "اهلا بازهار الادب".

وفي عام 1958، حوكم الاديب محمد الماغوط بتهمة السخرية من النبي العربي انطلاقا من مقال له نشر في جريدة "البناء" البيروتية، حيث سخر فيه من محمد عبد المطلب. وبرهن المحامي، عبر مرافعة بليغة مقرونة بالادلة القاطعة، ان الذي انتقده محمد الماغوط هو المطرب المصري المعروف. ولما كان الماغوط طفرانا كالعادة، فلم يكتف قبرصي بالدفاع المجاني عنه، بل دفع ايضا مصاريف المحاكمة.