«قصبة» الجزائر تشرع أبوابها وتنبعث من رمادها

يأمل مختصون في أن تصبح قطبا سياحيا كبيرا

قصبة الجزائر وراهن حالك بعد عزّ أيام زمان
TT

بعد أكثر من خمس عشرة سنة من تصنيف منظمة اليونسكو لمدينة القصبة، في وسط الجزائر العاصمة، ضمن التراث العالمي، بدأت السلطات الجزائرية عملاً حثيثاً، لإنقاذ هذه المدينة من التآكل والانهيار، وذلك وفق مخطط مدروس، هدفه بعث الحياة من جديد في هذه الأحياء العريقة واستثمارها سياحيا واقتصادياً، وهي التي ظلت تحافظ على خصوصيتها وغموضها مع تعاقب العصور. العاصمة القديمة، او القصبة، كما يسمونها، كانت تعد ما يقارب من 10 آلاف بناية، قبل الاحتلال الفرنسي، وتقلص عدد المباني إلى 1000 مبنى بسبب محاولة تجديد فرنسية، أوجدت أحياء جديدة على انقاض تلك العثمانية التي سبقتها. واليوم تبدو المهمة صعبة لإنقاذ المرحلتين، العثمانية والفرنسية، المتعايشتين في القصبة، ولكنها ليست مستحيلة. علماً بأن العاصمة القديمة هذه باتت أشبه بالمتحف الحي، الذي يتعذر جرد محتوياته، او حتى احصاء عدد سكانه...

من الصعب أن تجد جزائرياً عاصمياً أصيلا، فمدينة الجزائر يسكنها أناس من مختلف أنحاء البلاد. ولا عجب، بعد ذلك ان اختصرت هذه المدينة تناقضات منطقة المغرب الأوسط بكاملها. ولو أراد أحدهم أن يبرهن بأنه أصيل الجزائر العاصمة، يقول لك باللهجة العاصمية المميزة: "أنا وليد القصبة يا خو" (أنا ابن القصبة يا أخي).

كي تصل إلى القصبة من جهة وسط مدينة الجزائر، لا بد وأن تمر بساحة بورسعيد، حيث توجد بناية دار الأوبرا التي أصبحت تسمى "المسرح الوطني الجزائر محيى الدين باش تارزي". وهناك تلمح بقايا فندق قديم، كان قد سقط بطوابقه الأربعة على رؤوس زبائنه قبل حوالي سنتين، متأثرا بعامل الزمن الذي هده وأصبح يهدد كل بنايات مدينة القصبة. وهو ما تبقى من "الجزائر العريقة"، حيث كانت "دار السلطان"، مركز إيّالة الجزائر أيام الحكم التركي الذي دام حوالي ثلاثة قرون من الزمن، قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر الذي بدأت معه تتآكل المدينة العريقة، وعلى جوانبها تأسست المدينة الحديثة.

لكن المدينة العريقة (القصبة) ورغم كل شيء، ما زالت صامدة في وجه الزمن، تتوسط الجزائر العاصمة. وعند دخول الزائر إليها كأنه يدخل عصرا آخر، فهي أشبه ما تكون بمتحف في الهواء الطلق. وحتى تدخل إليها عليك بأصحاب أحد "أولاد الحومة" (أبناء الحارة)، فالغريب عنها لا يعرف تفاصيلها ومتاهاتها ولا حتى مخاطر التوغل فيها. وقد كانت عصية حتى على السلطات، ومنها بدأت "معركة مدينة الجزائر" في خمسينيات القرن العشرين، التي حوّلها المخرج الإيطالي الراحل جوليو بونتوكورفو إلى أهم فيلم سياسي، في تاريخ السينما، حسب المفكر الراحل إدوارد سعيد. ومنها بدأت محنة الجزائر الدموية مع إلغاء المسار الانتخابي في بداية سنة 1992، حيث اغتيل خمسة من أفراد الشرطة في أعماقها، وبدأت المحنة التي خلفت حوالي 200 ألف قتيل وكان من ضحاياها الصحفي التلفزيوني حسان بن العودة الذي اغتيل بالقرب من جامع كتشاوة. وهو مسجد عريق في المدخل السفلي لمدينة القصبة، حوله الفرنسيون إلى كنيسة سنة 1832. وعند استقلال البلاد سنة 1962 تحول إلى مسجد من جديد، ويعتبر من أعرق المساجد في الجزائر، إضافة إلى المسجد الكبير القريب من هناك. ومسجد "علي شنتير" الذي يعاد ترميمه حاليا في القصبة السفلى وما زال شاهدا على النمط العمراني العريق الذي تزخر به تلك المدينة العريقة.

والقصبة بمعناها الأصلي، هي وسط المدينة العريقة المحصنة والمحاطة بالأسوار، يدخلها الزائرون من أبواب معلومة، على غرار "القصبات" المعروفة في الجزائر مثل قصبة بجاية وقصبة قسنطينة وغيرهما أو القصبات المعروفة في الدول العربية الأخرى مثل تونس وسورية. ومن أشهر أبواب القصبة في الجزائر: باب الوادي، وباب الجديد وباب عزون وغيرها التي أصبحت تحمل أسماء أحياء شعبية معروفة في الجزائر حاليا.

وقد بقيت قصبة الجزائر العاصمة لقرون طويلة، قلب المدينة ورمز خصوصيتها، وما زالت كذلك رغم عوامل الزمن. ومن غرائب الأمر أن القصبة التي ما زالت تشبه القلعة المحصنة التي يجهل ما بداخلها، تقدر السلطات عدد سكانها الحاليين بين 20 ألفاً و40 ألف نسمة، يسكنون تلك البيوت القديمة المتآكلة الآيلة للسقوط على رؤوسهم. وبعض السكان يقطنون ما يشبه الفنادق العتيقة، التي كانت في الأصل عبارة عن حمامات تركية، فيها غرف للنوم يقصدها محدودو الدخل وسط تلك الأزقة الضيقة المظلمة ليلا والتي تغلق باكرا، ويعتبر السير فيها مغامرة محفوفة بالمخاطر.

فالمدينة العريقة، تتحول منذ الصباح إلى سوق مفتوحة للحلي التقليدية والملابس والخضر والفاكهة والتحف وكل شيء تقريبا، لكنها تصير ليلا، أماكن موحشة لا يسير فيها إلا واحد من أبنائها أو أحد المغامرين بحياتهم أو أبناء الليل بكل الخطر الذي يحملونه للغرباء. وما زالت القصبة لحد الساعة، تفترش أزقتها الحجارة المربعة التقليدية السابقة لعصر الاسفلت، ولا يمكن للسيارات السير فيها لضيق ممراتها. أما مؤسسة تنظيم مدينة الجزائر فهي مضطرة لاستعمال الحمير من أجل نقل القمامة إلى خارج المدينة. وقد ظلت القصبة تتآكل وتسير نحو الانقراض، إلى أن أقدمت منظمة اليونيسكو على تصنيفها ضمن التراث العالمي منذ سنة 1990، ومنها بدأت محاولات السلطات في الجزائر لإحيائها من جديد، وإعادة ترميم مبانيها. وهي حسب بعض الاحصاءات 1000 بناية تعود إلى زمن الوجود التركي في الجزائر و450 بناية أسست زمن الاستعمار الفرنسي. مع ملاحظة أن المدينة الجديدة التي أسسها الاستعمار الفرنسي، قامت على أنقاض القصبة التي كانت عشية الاستعمار، تعد ما يقارب 10 آلاف بناية، لم يبق منها عند الاستقلال إلا ألف بناية تضاف إلى البنايات الفرنسية الجديدة نسبيا. وتتركز جهود السلطات على تخفيف الضغط على القصبة التي تعرف اكتظاظا كبيرا، ويأمل المسؤولون بتقليص الضغط من 1600 ساكن في الهكتار الواحد إلى 900 شخص في الهكتار الواحد.

ومن الغريب أن الزلزال القوي الذي ضرب ضاحية الجزائر العاصمة يوم 21 مايو/ أيار 2003 واهتزت له العاصمة كلها، أتى على الكثير من البنايات الفخمة الجديدة، لكن بنايات القصبة المتآكلة لم تسقط، وبالمناسبة فإن معظم دور القصبة، يتوسط الحوش (وسط الدار) فيها البيت، وتحيط به الحجرات على طابقين أو ثلاثة، ووسط الحوش تجد النافورة، وهي أشبه ما تكون بالدور الشامية العريقة.

ومن أجل إنقاذ القصبة التي صنفتها اليونيسكو ضمن التراث العالمي، تعمل اللجنة المكلفة بذلك، من قبل وزارة الثقافة على دراسة الوضعية الحالية للمدينة. وقد كشف تقرير صادر عن هذه الهيئة أن أحياء المدينة العريقة مثل عمار القامة، وسوق الجماعة وغيرها مهددة بالزوال، إن لم يتم تدارك عمليات الانهيار المتواصلة فيها، منذ أمد طويل. وقدمت اللجنة مشروعها المتضمن التكفل المادي من أجل إعادة تأهيل الأحياء وإزالة المباني غير الشرعية وإعادة ترميم المباني العريقة ورعاية شبكة الدعم بالكهرباء والماء، وإعادة اسكان المواطنين الأصليين، من اجل إحياء السياحة، وتفعيل المرافق التجارية في المنطقة التي تشكو نقصا كبيرا في هذا الجانب. ويفترض أن تتم عملية إحياء القصبة وفق المشروع المذكور، على ثلاث مراحل، تتمثل الأولى في دراسة الوضعية الحالية مع إحصاء كل شيء، ثم توقيف الانهيارات المتتالية التي تتآكل من جرائها المدينة، ثم المرحلة النهائية المتمثلة في تهيئة الجانب السياحي، حتى تعود الحياة من جديد إلى القصبة بكل معالمها المشهورة مثل دار عزيزة وقصر الداي، وقصر خداوج العمياء - وهي ابنة داي (حاكم) الجزائر أيام الوجود العثماني التركي في المدينة - وكلها مبان تروى حولها إلى اليوم حكايا أسطورية، داخل القصبة وخارجها.

ويأمل أبناء القصبة الحقيقيون، وقد اضطر الكثير منهم إلى الخروج من مدينتهم صوب الأحياء الجديدة أو الهجرة إلى الخارج، أن يروا قصبتهم وقد عادت إليها الحياة من جديد، تلك المدينة التي سكنتها الأساطير وبقيت تقاوم الزمن رغم كل شيء.