دوريس ليسينغ امرأة متمردة أخرى تدخل رحاب نوبل للآداب

الحادّة المدهشة التي تغير نظرة قارئها إلى العالم

دوريس ليسينغ المرأة التي كتبت ذاتها ببلاغة استحقت نوبل
TT

جائزة نوبل لهذا العام، عادت للروائية البريطانية دوريس ليسينغ البالغة من العمر 78 عاماً، عن مجموع رصيدها الأدبي الحافل بأكثر من خمسين رواية، والذي يميزه اهتمام الكاتبة بقضايا المرأة وعلاقتها بالرجل. مفاجأة كبرى كان هذا الخبر للأوساط الأدبية، لا لأن دوريس ليسينغ لا تستحق نوبل، بل على العكس، لأن اسمها كان يتداول منذ الثمانينات، وبشكل متكرر، دون أن تفوز. أما وأن الأكاديمية السويدية قد قررت أخيراً أن تكلل هذه الشابة التي اقتربت من الثمانين، فقد أصبحت بذلك المرأة رقم 11 التي تفوز بنوبل للآداب منذ تأسيسها عام 1901.

ولدت الكاتبة البريطانية دوريس ليسينغ في مدينة «كرمنشاه» الإيرانية، انتقلت بعد سن الخامسة إلى زمبابوي بأفريقيا، وهي المستعمرة البريطانية السابقة التي كانت تسمى «روديسيا»، حيث عاشت قسماً كبيراً من حياتها مع والدتها الممرضة ووالدها الذي كان موظفاً في مصرف، وأصيب أثناء الحرب العالمية الثانية إصابة بالغة. بدأت شخصية دوريس الطفلة تُظهر تمردها المبكر على القيود الاجتماعية، فتركت دير الراهبات حيث كانت تتلقى تعليمها والمدرسة نهائيا وأعلنت رفضها لأعراف المجتمع البرجوازي الذي كانت تنتمي إليه وهي في سن الرابعة عشرة. دخلت بعد ذلك عالم الطبقة الكادحة، فعملت مربية أطفال، وعاملة في مقسم هاتفي ثم سكرتيرة، إلا أن بدأت كتاباتها تعرف طريق المجد سنة 1950 مع روايتها «مهزومة في الأدغال» ثم «أطفال العنف» المؤلفة من خمسة أجزاء والتي كتبتها بين سنة 1952 و1969.

ظلت دوريس لمدة طويلة قريبة جدا من الفكر الشيوعي، وعُرفت بنشاطها في الحزب الشيوعي البريطاني، إلى أن هجرته سنة 1956 بعد قمع الاتحاد السوفيتي لأحداث ثورة بودابست بالمجر.

جمعت صاحبة نوبل في كتاباتها بين عدة أنواع أدبية ـ فكان كتابها «أطفال العنف» مزيجاً من التاريخ الحديث والأدب الاجتماعي، تبعته سلسلة طويلة من روايات علم الخيال كقصة «شيكاستا» سنة 1981 أو «كانوبوس إن أرغوس» المؤلفة من خمسة أجزاء والتي كتبتها بين 1979 و1983 واصفة فيها وضع العالم بعد اندلاع حرب نووية وحدوث كوارث بيئية. كما كتبت دوريس ليسينغ روايات هي أقرب لعلم النفس «كالصيف قبل الليّل» وأخرى أقرب للسياسة «كالإرهابيين الطيبين» 1986 التي يناظل أبطالها الشباب في صفوف اليسار المتطرف، و«الريح تأخذ كلامنا» سنة 1987 والتي أرادتها كشهادة عن مآسي الحرب في أفغانستان.

اهتمت دوريس في التسعينات بكتابة سيرتها الذاتية، وقد بدأتها سنة 1995 برواية «تحت جلدي» ثم «المشي في الخيال» التي لاقت استحسان النقاد. وقد استعانت بخيال جامح لتروي فيها أهم أحداث حياتها في الفترة الممتدة بين سنة 1949 و1960. رغم نجاح هذه الرواية إلا أن الكاتبة البريطانية كانت قد أعلنت للصحافة أنها لن تكتب سيرة ذاتية أخرى، وبرّرت هذا الموقف بقولها: «لقد تعرفت على نفسي أكثر بعد كتابتي لسيرتي، وأدركت إلى أي درجة يمكننا أن نشك في الذكريات. اكتشفت أيضا أن الذاكرة كالهوية، هي مسألة يجب أن نفكر فيها جيدا، وهو ما لم أفعله. كما أن السير الذاتية حتى الناجحة منها، تضع صاحبها في وضع حرج، لأنه يكتشف أن ما عايشه طيلة حياته من أحداث مثيرة وغامضة قد أصبح بعد نشره شيئاً جامداً بدون حياة. كتبتُ عن حقبة ما قبل الستينات، لكني لن أكتب عن الحقبة التي تليها، لأن الكثير من الأشخاص الذين عرفتهم في هذه الفترة، لا يزالون على قيد الحياة، وأنا لا أريد أن أذكر تفاصيل عن حياتهم الخاصة.

غالباً ما قَسمت روايات دوريس مجتمع النقاد في بريطانيا والدول الانجلوسكسونية إلى شقّين، بين معجب بأعمالها ومنتقد لأسلوبها في الكتابة، على أن الكّل يتفق أنها لا تكتب بطريقة كلاسيكية. ففي كتابها الأخير «الشقّ» 2007 ألغت الكاتبة الشخصيات من القصة. فجاء كتابها عبارة عن سرد لأفكار قوية جريئة بأسلوب يشبه العرض الشفوي، علماً أن محتوى القصة بدون شخصيات يبقى صعب الفهم. تدور أحداث الرواية في عالم بدائي لا يعيش فيه سوى النساء إلى أن يأتي اليوم الذي تلّد فيه هاته النساء ذكوراً، فتتغير حياتهن ويكتشف الرجال والنساء مدى حاجة كل منهما للآخر. وكانت دوريس ليسينغ قد بنّت قصتها على فكرة جاءتها بعد قراءتها لخبر علمي مفاده أن أول سكان الأرض كانوا ربما من جنس الإناث.

بعد هذا الكتاب حيَّا النقاد «الحّدة المدهشة لأحاسيسها» و«وصفها الدقيق للمشاعر، واهتمامها الخاص بالشباب والكهولة. وطريقتها الفريدة، الجميلة التي تصف خلالها بدقة شديدة العلاقات الإنسانية، لتغير نظرتنا للعالم». هذا بينما استقبل آخرون أعمالها بنبرة من النقد اللاذع، فقال النقاد البريطانيون بخصوص نفس الرواية: «لا هدف من وراء كتابات دوريس ليسينغ سوى زرع القلق والذعر في نفوس القرّاء، بعد أن قضت على اللمسة الذكية في كتابتها منذ أن بدأت في الثمانينات بتأليف روايات تعمل على نشر الارتباك». الروائية البريطانية لا تنكر هذا الانقسام الواضح في الحكم على أعمالها، بل أنها تراه مدعاة فخر ودليل تمّيز أعمالها، وتقول: «إذا كان البعض يقصدني منتظراً مني خطاباً مسالماً، توافقياً، على أساس أني امرأة قد أتمت حياتها ومشوارها الأدبي، فقد أخطأوا في العنوان».

جدل الأوساط الأدبية حول مؤلفاتها شمل أيضا أشهر رواياتها على الإطلاق وهي «مذكرات من ذهب» 1962 الحائزة الجائزة الفرنسية للأدب «مديسيز» سنة 1976. وهي لا تعتبر رواية بالمعنى الكلاسيكي. ودوريس ليسينغ نفسها ترى أن الرواية يجب أن يكون لديها بعد اجتماعي: «فالقضية لا تقتصر على رواية قصة بل هي أيضاً نقل للخبرة». الرواية تتناول قصة «أنّا وولف»، كاتبة شيوعية تعيش مع ابنها في لندن إبان الخمسينات من القرن الماضي، يعرف كتابها شهرة كبيرة تجني من ورائها أموالا كثيرة، مما يصيبها بعقدة ذنب، فتصبح عاجزة عن الكتابة وتصّب كل اهتمامها على مذكراتها اليومية التي تسجل فيها كل خواطرها ومواقفها اليومية. القصّة ترسم بصفة عامة معالم المجتمع البريطاني مع كل تناقضاته وتحولاته التي انعكست على المرأة بصفة خاصة في هذه الحقبة من الزمن. كما تعالج الرواية «أزمة منتصف العمر» التي تجعل الإنسان يتخلي يائساً عن أوهام شبابه. القارئ يخرج مرهقا من قراءته لهذه القصة لان دوريس ليسينغ، تبني أحداث الرواية بمجموعة حكايات متفرقة، هي بذات الغموض الذي يجعل القارئ يعجز في البداية عن الدخول في قلب القصة. وهو في ذالك رهينة لكتابة تحليلية مُحّيرة، تدور في حلقة مفرغة حتى يكتشف أخيرا أنه ألم بكل أطراف الرواية لكن على حساب مجهود فكري كبير.

الجدل الذي تثيره كتابات دوريس ليسينغ تغذيه ملامح شخصيتها الحّرة، المستقلة والمتمردة كثيراً، في معالجتها لقضايا المرأة، وهو ما ظهر جليًا في روايتها «مذكرات من ذهب» التي لاقت نجاحاً خاصا في أوساط الحركات النسوية، التي رأت فيه دعوة صريحة للتمرد على الأعراف المُقيّدة لحرية المرأة، حتى أصبحت كاتبته تُحسب على هذه الأوساط وشبهت بالكاتبة والمثقفة الفرنسية، سيمون دوبوفوار المعروفة أيضا بأفكارها التحرّرية.

دوريس ليسينغ جريئة لدرجة القسوة، وهي التي تقول إنها لا تستطيع أن تجبر نفسها على الإجابة عن أسئلة غبية، دون أن تقول لصاحبها إلى أي درجة تجدها غبية. فالذي يسمع هذه الكاتبة البريطانية أو يقرأ لها، لا بد له أن يلمس عن قرب ذلك الصراع بين النزعة الامتثالية وحرية الرأي والكلمة. وليسينغ تمثل تلك النوعية من الأدباء التي لا تخشى المفارقات ولا الوضعيات المعقدة. كما أن انخراطها المبكر في صفوف الحزب الشيوعي البريطاني، جعل منها أديبة ملتزمة سياسياً، تعبر عن آرائها بلهجة جريئة، يغلب عليها الصراحة. فقد قالت عن توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني السابق مثلا أنه «رجل صغير بكل معنى الكلمة». وحين سئلت عن ساركوزي، قالت إن «شخصيته لم تتبين بعد لكن يبدو أنه هو الآخر صغير جداً».

التزامها السياسي انعكس مرارًا على إنتاجها الأدبي، فجاء كتابها «الذهاب للبيت» going home سنة 1957 بمثابة صرخة غضب، وتنديد بنظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، كما دفعت ثمن هجومها على الرئيس الزمبابوي، روبرت عمر موغابي سنة 2000 غالياً، حيث مُنعت من دخول الأراضي الزمبابوية التي قضت فيها كل طفولتها وشبابها. هذه الطفولة الأفريقية التي ميزت غالبية مؤلفاتها، وصبغتها بشيء من الحنين للماضي، خاصة في «أخبار أفريقية» سنة 1980 و«العذراء السوداء» سنة 1988.

شخصية الكاتبة البريطانية لا تخلو من روح الدعابة، وهي التي نشرت سنة 1984 رواية «ذكريات جارة طيبة» تحت اسم مستعار بعد أن بعثت بنصهّا لناشرها المعتاد دون ذكر اسمها الحقيقي، فما كان منه إلا أن رفض نشرها.