إيطاليا تحتفي بالذكرى الـ 500 لفنان النهضة أندريا مانتينيا

معارض جمعت روائعه من أنحاء الدنيا

لودوفيكو غونزاغا يتلقى خبر انتخاب ابنه فرانشيسكو كاردينالا وهي لوحة جصية من أعمال أندريا مانتينيا موجودة في القصر الدوقي
TT

بمناسبة الذكرى الخمسمائة لوفاة الفنان الايطالي النهضوي اندريا مانتينيا (1431- 1507)، تقيم ثلاث مدن ايطالية شمالية، وهي بادوا ومانتفا وفيرونا، وبشكل متزامن، معارض فنية، في صالات قصورها التاريخية العريقة. وهي معارض تم جمع لوحاتها وجدارياتها، من مختلف متاحف العالم، وتستمر حتى 14 من شهر يناير (كانون الثاني) المقبل.

على الرغم من ان الفنان اندريا مانتينيا، عاش عمراً اطول مما عاشه اي من فناني المرحلة الثانية لعصر النهضة الايطالي- اذ عمّر نحو 75 عاما في واحد من ازهى العصور في تاريخ الفن- وعلى الرغم من انه حقق عددا كبيرا من الرسوم والجداريات، زاد على ما انتجه العديد من معاصريه، فان ما نعرفه عن حياته وتنقلاته ليس كثيرا، ذلك ان هذا الرجل آثر ان يظل بعيدا عن حواضر الفن في ذلك الحين، مع انه تتلمذ على يد الفنان سكوارتشيوني ومدرسته الشهيرة في قلب مدينة بادوفا، والتي كانت تستقطب العديد من الفنانين الوافدين من فلورنسا والبندقية والمانيا وهولندا، اضافة الى ان هذه المدرسة التي اصبحت منتدى فنياً مهماً، كانت قريبة في علاقاتها مع جامعة بادوفا الشهيرة التي كانت تعتبر واحدة من اهم جامعات اوروبا بعلمائها من اصحاب النزعة الانسانية. في عالم الفن التشكيلي الكلاسيكي، لا سيما منه ما يتعلق بفنون عصر النهضة، من المعروف ان لوحات الفنان مانتينيا، استثارت كتابة العديد من الدراسات التي اوسعته شرحا وتفسيرا وتحليلا، معتبرة كل عنصر من عناصر لوحاته امرا جديرا بالدرس، لما تحتويه اعماله الممتلئة بالاسئلة والاسرار.

ان قيمة اي لوحة فنية لا تكمن فقط في تقيدها واهتمامها بالمنظور والتشريح واتباع تقاليد الماضي الكلاسيكي، بل انها اتت في ذروة تطور فنان، عرف كيف يستوعب دروس النهضة التي تجعل الانسان مركزا للكون. وكان الفنان في ذلك، تلميذا نجيبا للاوائل الكبار، الذين افرزتهم بلاطات فلورنسا وروما والبندقية، الذين كانوا من اكثر فناني عصر النهضة تركيزا على الانسان وعالمه.

كان مانتينيا فنانا ذاتيا، رومانسيا بالفطرة، عاش اول الامر في مدينة بادوفا، وعلى مقربة مما انجزه مفتتح عصر النهضة الفنان جيوتو في جدارياته الشهيرة في قبة كنيسة السكروفيني، الى جانب اعمال نحات عصر النهضة دوناتيللو، الا ان علاقته بالماضي مع كل ما انتجه الرومان القدماء بمعاركهم واشعارهم وطقوسهم، جعلته متغنيا وملهما، لحد انه صورهم في العديد من اعماله، وكأنهم تماثيل لآلهة يتمشون بمواكب استعراضية، تعكس من جهة عذوبة الانسان الساحرة، ذلك الانسان الذي يشع شبابا وحبا للحياة، ومن جهة اخرى نجد البسالة تفتح الحياة في كل ابعادها وهي تسير في موازاة مع نهضة العلوم والمعارف.

ويرجع الباحثون ان يكون مانتينيا درس، وبتعمق، اعمال المؤسسين الحقيقيين لعصر النهضة، محاولا ان يبتكر، بالارتكاز الى اعمال كل من جيوتو وبيلليني وماساجو ودوناتيللو، نوعا من التوليف بين المنظور وعمقه، بين الشكل التشكيلي واللون الزاهي، وقد حصل على هذا حقا.

مهما يكن، فمن المؤكد ان هذه التأثيرات كلها لن تظهر في شكل واضح ومتكامل الا خلال المراحل الاخيرة من حياته، التي اتسمت بالنضج، والتمسك بالمبادىء والشجاعة المجيدة، للحد الذي جعله بعيداً عن النمطية، من خلال ابتعاده عن العديد من تيارات عصره التقليدية، والانغماس في التعبير عن فرح الحياة والبهجة في الطبيعة ورسم صور الشخصيات البارزة في عصره، وابهة الحياة المعاصرة له.

وان كانت ارهاصاته تبدو باكرة لديه، وحسبنا في هذا الاطار ان نتأمل واحدة من اشهر اعماله وهي لوحة" المسيح الميت" التي تعتبر من روائع التصاوير اللافتة للنظر في عصره. اذ لا يمكن ان تمر على المرء، إلا ان تأسره بانطباعات عنيفة، وشحنة انفعالية متوترة يصوغها الفنان عن طريق اسهابه في التضاؤل النسبي حيث انكمش طول الجسد الى حد كاد معه ان يتساوى العرض مع الطول. واللوحة القوية البناء هذه، مثلت خرقا للعادة التي صور عليها، الفنانون السيد المسيح، بهذه الهيئة، وهو مستلق. نواجه قدميه في مقدم سطح اللوحة، تكشف عن ذوق خارق ومع التحليل للبنية الشكلية التي يتخذ فيها الجسد المسجي هيئته، نتيقن من تميز هذا الفنان على معاصريه وتجاوزه لسابقيه، وتأثيره الحاسم على لاحقيه.

اما بالنسبة الى الوان اللوحة، فهي حادة واضحة، ليس ثمة التباس في الحدود التي تفصل كل جزء من اجزائها، من الشعر الطويل المهدل على الاكتاف، الى قطعة القماش التي تلف الجسد. فهذه الالوان التي تكاد تكون موحدة تقريبا تدور حول الزيتي البصلي والرمادي، سواء كان ذلك بالنسبة الى خلفية اللوحة او الغطاء نفسه الذي يغطي الجسد مع صورة الام الثكلى، تشي كلها بتأثر الفنان المبكر برسامي الشمال الاوروبي الذين كانوا،لا يستسيغون تعددية اللون حتى عادوا واكتشفوا قيمة التعددية لدى الايطاليين.

ومهما يكن الامر، فان هذه اللوحة كانت وتبقى واسعة الشهرة بين الاعمال النهضوية، بل انها واحدة من اللوحات التي حرصت على ان تجعل من الفن نفسه موضوعا لها، وكان هذا يعتبر تطورا كبيرا. حيث ان اللوحة انجزت يوم كان الفن طوال القرون الماضية على عصر النهضة يخرج من طابعه المتزمت ليبدي الفنان فيه اهتمامه الخاص بالانسان. وفي الزمن الذي رسم مانتينيا لوحته هذه، كان الانسان قد اضحى حقا، هو مركز اللوحة. ولئن كان الايطاليون اجادوا التعبير عن هذا البعد، فان علينا ان لايفوتنا ان التأكيد على لوحات رائعة اخرى للفنان ومنها لوحة" منيرفا تطرد الرذائل من كهف الفضائل" ولوحة "البارناسوس" اللتين رسمهما لرائعة الجمال ايزابيلا، زوجة امير مانتفا، فرانشيسكو دي غونزاكا، حيث تظهر فيها الغزارة الحسية والاناقة الزخرفية، واثارة المتعة الفنية، متوهجة بالانسجة الوضاءة والحلي والمعادن اللامعة المتألقة، ومناظر من الطبيعة المكثفة، تحملان رموزا للآلهة الرومانية القديمة. ففي لوحة منيرفا الكبيرة الحجم، يظهر ابوللو الذي جلس في الجهة اليسرى، اما ربات الفن فرسمهن في منتصف اللوحة، واحتل جهة اليمين من اللوحة، ميركوري مع جواده المجنح، في حين يحتل مارس وفينوس قمة اللوحة، ويقبع الحداد فولكان زوج فينوس في الكهف، ورسم كوريه وهو يتطلع الى كوبيد الذي ينفخ في بوق طويل. انها لوحة غرام انهمك بها الرسام بمغازلة امرأة، لربما تكون هذه المرأة هي ايزابيلا الجميلة.

من هنا نرى في تلك الاعمال الجدارية الكبيرة التي انجزها، حضورا ممتدا، ويكاد يبدو لا نهائيا للمشهد المكاني. وبالتالي نلاحظ طغيان لغة التعبير الانفعالي، حيث يتوحد كل جسم من الاجسام التي ابدعها، بتوحد كل تفصيلة من تفاصيله من الرأس الى القدم، في تعبير الوجه، وفي دفعة الذراع والتواء الجسم وفي الفكرة التي اوحت بالعمل والتفكير والمزاج، اللذين يريد وضعهما في عمله الفني ذي الابعاد الهندسية، حيث يلعب الضوء واللون الدور الاساس في عملية البناء. مما يجعل ثمة احساسا بانقسام تام بين تعبير الوجوه المرتبط بخبرة بشرية زمنية، وحضور الاجساد وحركتها العنيفة في المكان كجزء من جغرافية العمل الفني ككل، وهذا كله شكل حضورا جماليا متفردا. وقد خدمه في ذلك عيشه القريب في خضم عصر النهضة الانسانية، حيث كان من قراء الفلسفة والعلوم، الباحثين عن شكل للوجود الانساني ومعناه، وعن المثل الاعلى الجمالي عند الانسان.

يطل هذا الفنان متميزا عن غيره من فناني عصر النهضة، بقدرته الفائقة على تحويل رصيده من المفردات الزخرفية، الى رصيد من المفردات التعبيرية ذات الصفات العظيمة. فقد قدم درسا حقيقيا تعلمه من بعده العديد من الفنانين، وهو عدم التأكيد على اللون بالمعنى الذي يبدو فيه الخط ماثلا وقد ذاب في تداخل الظل والنغم، بينما تظل الاشكال سابحة في الهواء والضوء. لقد ساهم مانتينيا في رسم الصور الشخصية للناس والمناظر الاسطورية، وأظهر تفوقا كبيرا في نزعته الحسية وشعوره الرومانسي تجاه الاشياء التي تحيط به. كذلك ابدع الصفات الرومانية والإغريقية المتأخرة التي حفظت، ولم ينبذ في كل ما قدمه افراح الجسد الانساني وافراح الطبيعة انطلاقا من الفعل المتقشف المركز على العالم الاخر، واصبحت لفنه صفات مشابهة للاحلام، حيث تبدو في جانب كبير من اعماله امور لا تمت الى الواقع. ففنه يثري الطبيعة والحواس ويفتح العيون على جماليات الحياة، ومن هنا جاءت عظمة اعماله الفنية التي سايرت في اغلبها حياة الطبقات العليا الشبيهة بالحلم.