عودة الفن الأصيل بتقنيات القرن الحادي والعشرين

أغنيات وألحان نادرة لموسيقيين كبار في متناول الذواقة

TT

إخراج التراث الموسيقي العربي من كهوف النسيان، وإعادة تسجيله على أسطوانات ممغنطة ووضعه بين يدي الجمهور بأبخس الأثمان، كي يكون في متناول الجميع، هي مسألة تستحق الاحتفاء، في زمن تتدهور فيه الذائقة الموسيقية العربية، حد نعيها من البعض. موسوعتان موسيقيتان، انطلقتا وهدفهما إعادة إحياء تراث القرن العشرين الذي بات بعضه مجهولاً تماماً، رغم حداثة عهده. فها هي أسمهان تعود مجددة نقية الصوت، ومعزوفات لكبار موسيقيي سورية وملحنيها تستعيد مكانها في الواجهات، وقريباً بمقدورنا ان نسمع محمد فوزي وداود حسني، يصدحان من أسطوانات حديثة في السيارات ومن الكومبيوترات، بمقاييس تقنية وفنية عالية الجودة. مشروع حديث لكنه اثمر لغاية اليوم ستة عشر ألبوماً، وما يزال المشروع في أوله...

رغم ما يسببه إعصار الفضائيات الغنائية العربية من تشوه وتدهور في الذائقة الموسيقية العربية، فالملاحظ أن المشاريع الثقافية التي قامت في مواجهة هذا الإسفاف العام قليلة، إن لم تكن نادرة فعلاً، وتأثيرها يكاد ينعدم في زحمة سوق الإنتاج الفني. لكن تبقى المشاريع الجادة خارج أعراف السوق تمثل حاجة ملحة كمرجعية، وتضمن وجود المعايير حية، على الأقل، في الذاكرة الثقافية الجمعية. من هنا يمكن تقدير أهمية المشروع الموسيقي الذي تتصدى له "دار الأسد للثقافة والفنون" في سورية، من خلال إصدار سلسلتي "أعلام الموسيقى والغناء في سورية" و"أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي"، من خلال السعي لإحياء إبداعات لمجموعة من الموسيقيين العرب والسوريين الكبار، تكاد تكون أعمالهم مجهولة لجيل الشباب.

المفاجئ، أن حصيلة المشروع من الإصدارات، بلغت منذ انطلاقته في مايو (أيار) من عام 2006، ولغاية اليوم حوالي ستة عشر ألبوماً. بالنسبة لسلسلة موسيقيي سورية: (أمير البزق محمد عبد الكريم 1911 ـ 1989) في ألبومين. (نجيب السراج 1923 ـ 2003) في ألبومين. (محمد محسن 1922 ـ 2007) و(عازف القانون سليم سروة ) و(عازف الكمان صبحي جارور) و(عازف العود عزيز غنام 1920 ـ 1978) و(عازف الناي عبد السلام سفر 1926 ـ 1999) و(مجموعة أسمهان 1917 ـ 1944) في ألبومين. أما سلسلة موسيقيي العالم العربي: الإصدار الأول لأعمال (الموسيقي محمد القصبجي 1892- 1966)، خمسة البومات، ويتم التحضير للإصدار الثاني لمجموعة القصبجي، ولائحة الإصدارات العربية المستقبلية طويلة.

تبرز أهمية المشروع في عملية الجمع والتصنيف والأرشفة والتوثيق التاريخي، هذا بالإضافة للعمليات الفنية من ناحية تنقية الصوت، وعملية النقل من حوامل قديمة، أو أشرطة صوتية، إلى الأقراص المدمجة، لتظهر بحلة أنيقة. وقد زود كل البوم بكتيب صغير عن محتوياته من القطع الموسيقية والأغاني، وتاريخ الظهور، مع اسم مؤلف الكلمات، والقالب والمقام، بالإضافة إلى لمحة موجزة عن حياة الموسيقي أو المغني، بحيث يتوفر بين يدي الدارس أو المهتم، أو حتى "السمّيع" مجموعة الأعمال، مرفقة بحزمة معلومات توفر عليه الكثير من الجهد والوقت، كما تنعش ذاكرة الجمهور بموسيقى والحان أصيلة، في محاولة لوصل ما انقطع مع إرث فني غني وعملاق.

يقول الدكتور نبيل اللو، مدير عام الهيئة العامة لـ "دار الأسد للثقافة والفنون"، والمشرف على هذا المشروع، إن هذه الفكرة كانت حلمه منذ زمن بعيد، ويتابع قائلاً: "من حسن الحظ، أني وُجدت في مؤسسة عنوانها وبناؤها وإطارها، سمح لي بتحقيق هذا الحلم. وأنا أشكر هذه المؤسسة على ما أتاحته ليتحقق هذا الحلم... فقد وفرت كافة مستلزمات العمليات الفنية والتقنية، كذلك الكادر النشيط والمحب لهذا العمل". ويؤكد اللو، أن "جميع الإصدارات تم إعدادها في الدار من الألف إلى الياء، من حيث تجميع المادة السمعية المتشظية، وبعضها كان قديماً جداً، ومن حوامل فيزيائية أقدم من الاسطوانات، مثل كوب الشمع، كما أن معظم الأعمال المسجلة مطلع القرن الماضي مطبوع على أسطوانات الزفت الأولى (78 دورة) وأسطوانات الزفت الثانية (30 دورة)، الأمر الذي تطلب تنقيتها عبر ثلاثة برامج حاسوبية، لتصل إلى نتيجة ممتازة. كما تطلب تدقيق المعلومة التاريخية جهداً بحثياً، بذل فيه جهد كبير كي يُرفق بكل البوم كتيب يتضمن بطاقة تعريف بالموسيقي ومحتويات الألبوم. كل تلك العمليات تمت داخل الدار، ومن يطلع على ما صدر من ألبومات، فلا شك سيقدر حجم الجهد الذي لم نتقاعس عنه لإظهار تراثنا الموسيقي بشكل لائق".

بعض الألبومات استغرق حوالي ثلاثة أشهر من العمل المتواصل مثل: البومات أسمهان والقصبجي، إذ واجهت فريق العمل صعوبة في كتابة بطاقات تعريف للأعمال. فهناك أغنيات مؤلفها أو مغنيها مجهول، والبحث عنه يشبه البحث عن حبيب ليلى مراد في اسكتش (حبيبي المجهول). وقد جرت اتصالات كثيرة بين دمشق والقاهرة وبيروت للوصول إلى الاسم الأقرب للصحة عبر مقاطعة المعلومات، مثل مؤلف أغنية أسمهان (يا حبيبي تعال الحقني) فهناك من قال إنها ليوسف بدروس، فيما دل تقاطع المعلومات على أنها لأحمد جلال. وفي حال لم يتم التأكد من اسم معين تذكر كل الأسماء المحتملة. كما يلاحظ أن هناك تواريخ ظهور اللحن، تتباين بين عام وضع اللحن وعام تسجيله المدون على الاسطوانة وتوزيعه في الأسواق، علماً أن تسجيل الأسطوانات كان يتم في اليونان. وقد تستغرق عمليات الطبع والتوزيع مدة من الزمن من العسير جداً تقديرها بدقة. لذلك كان من الصعوبة أحياناً الوصول إلى معلومات نهائية، حول التاريخ الحقيقي لوضع اللحن.

لاقت الإصدارات الموسيقية ترحيباً كبيراً ونفدت غالبية النسخ، وحسب علمنا أن مؤسسة كويتية اقتنت من كل البوم صندوقاً يحتوي على 100 نسخة. وأخبرتنا إحدى السيدات، أنها اشترت من كل البوم عدة نسخ، ستهديها للأصدقاء، فهي أكثر قيمة من أي هدية أخرى. كذلك كان رد فعل الصيدلاني منير لدى سماعه بصدور مثل هذه الألبومات بمسارعته لشرائها، رغم أن لديه مجموعة أعمال نادرة، موجودة إما على أشرطة أو كاسيتات أو اسطوانات قديمة، قل استخدامها، بعد انتشار الأسطوانات الممغنطة. وبالنسبة لمنير، فهو يعتبر أن "أهمية هكذا مشاريع تكمن بنفض الغبار عن كنوزنا الموسيقية، وتوفير نسخ رقمية جديدة يتاح الاستماع إليها، أينما كان، وأيضا تناقلها في أي جهاز كومبيوتر أو قارئ سي دي أو حتى موبايل. كما أن الكتيبات المرفقة تضفي بعداً ثقافياً، يساعد على تحسس تلك الأعمال الرائعة.

بعض الأعمال شكلت مفاجأة للجمهور السوري، مثل البوم أعمال عازف العود عزيز غنام. ويقول عنه المؤرخ الموسيقي أحمد بوبس في الكتيب المرفق بالألبوم: مارس غنام نشاطه الموسيقي في أندية حلب وفي إذاعتها الأولى التي بدأت إرسالها أوائل الأربعينات، ثم في إذاعة حلب الوطنية بعد الاستقلال، وفيها رعى الكثير من المواهب في الموسيقى والغناء. وفي عام 1960 ومع بدء الإرسال التلفزيوني انتقل غنام إلى دمشق، وأصبح أحد المشرفين في دائرة الموسيقى للإذاعة والتلفزيون، وتولى الإشراف على كثير من البرامج والمسلسلات التلفزيونية منها مسلسل "الوادي الكبير" الذي جمع صباح فخري ووردة الجزائرية.

أولى غنام اهتماماً خاصاً للتراث، فقام بتحقيق الكثير من الأعمال الغنائية التراثية ودونها، ومن ألحانه موشح "حامل الهوى تعب" لأبي النواس الذي غناه صباح فخري. كما حاول غنام تطوير الآلات الموسيقية العربية، كأن يصنع أسرة للعود على غرار أسرة الكمان. وصنع نموذجين لعودين بحجم كبير وصغير لكن غنام لم يتابع هذه المحاولة بسبب تكاليفها الباهظة.

يتضمن البوم غنام 23 قطعة موسيقية، منها ستة عشر عزفا منفردا وتقاسيم على العود، تعتبر من أعذب وأرق الألحان الموسيقية العربية، بالإضافة إلى تقاسيم على الكمان.

ومن المؤسف أن قلة قليلة من الجيل الشاب سمع بعزيز غنام، كذلك بعازف الناي عبد السلام سفر، الذي جاءت معزوفاته (وداع، غروب، الفجر، تنهيدة، بهجة... الخ) قصائد شعر مملوءة بإحساس عميق بالبيئة، وكأنها صوت الطبيعة الآتي من عوالمها اللامرئية.

ولد سفر عام 1926 لأسرة بسيطة في إحدى قرى اللاذقية. تعلم العزف وهو في الخامسة من عمره على يد حلاق كان جاراً لبيت جدته في اللاذقية، وظل يعزف خفية حوالي عشر سنوات. وعندما اكتشف والده أمره كسر الناي، فقد كان يريده (فلاحاً لا راقصاً) ومع ذلك استمر في العزف، وكلما كسرت له نايا، ذهب إلى الحلاق ليعطيه غيره. عمل في الإذاعة السورية، في فرقة الفنانة سعاد محمد، وشكل فرقة رقص السماح مع الفنانين عدنان منيني وعمر العقاد. وفي عام 1964 عين عبد السلام سفر رئيساً لفرقة الإذاعة السعودية. وبحسب المعلومات الواردة في الكتيب، أن سفر اكتشف موهبة الفنان محمد عبده، وربطته صداقة قوية مع الأديب السعودي طاهر الزمخشري. طور سفر الناي بأن أحدث بنهايته ثقباً، يُمكِن العازف من إضافة نوتات موسيقية وعزفها بسهولة. كما طور العود، خاصة زنده، ليحصل على ثبات في دوزان الأوتار، وكان الصانع الوحيد في العالم الذي صنع جسم العود من خمس ريش فقط، وليس من ثلاث وثلاثين ريشة.

من خلال مجموعة الألبومات التي أصدرتها "دار الأوبرا السورية"، يمكن القول إن دار الأوبرا حققت الهدف الأول من هذا المشروع، وهو تعريف الجمهور السوري على ما لديه من تراث موسيقي معاصر، مثل ألحان نجيب السراج وسليم سروة ومحمد محسن الذي لحن لكبار المطربات والمطربين السوريين والعرب في مقدمتهم فيروز وصباح ونجاح سلام وصباح فخري ووردة الجزائرية ومحرم فؤاد ومحمد رشدي وغيرهم. كذلك التعريف بالمجموعة الكاملة لأغاني أسمهان الخالدة، ناهيك عن روائع أمير البزق السوري محمد عبد الكريم الذي يعتبر العازف الأول على البزق في العالم، الذي قال عنه محمد عبد الوهاب: "إذا كانت الموسيقى الأوروبية تفتخر بباغنيني كأشهر عازف كمان، فإن الموسيقى الشرقية تفتخر بمحمد عبد الكريم كأشهر عازف للبزق"، وله أكثر من مائة لحن وعشرات المقطوعات الموســيقية، ونال شهرة عربية وعالمية واسعة، كملحن ومؤلف موسيقي مبدع، ويعتبر من رواد التجديد. وكان يقول: "التجديد ينبع من التراث، وكل تجديد لا يأتي من التراث مصيره الزوال".

حيال جائحة الأغاني الهابطة التي تكاد تقضي على علاقتنا بالتراث والفن الأصيل، تبدو أية خطوة في اتجاه إنقاذ التراث والحفاظ عليه، خطوة مهمة يجب أن تلاقي الدعم اللازم، سيما وأن هناك جمهوراً متعطشاً لهذا النوع من الموسيقى التي للأسف غير متوفرة في السوق في حين أن البومات المطربين الشباب من العرب والأجانب مبذولة في كل مكان على الأرصفة وعلى الشاشات الفضائية. والمفارقة أن المشاريع الجدية غير التجارية لا تحظى بالإعلان والدعاية المناسبين لها، لتبقى فائدتها محصورة ضمن شرائح صغيرة، تهتم بمتابعتها كطلاب المعاهد والدراسات المختصة، ونخبة من المهتمين وذواقة الموسيقى العربية.

الغريب فعلاً بعد هذا الجهد، ألا يترافق نشاط دار الأوبرا بخصوص إحياء ذكرى موسيقيين ومغنين سوريين وعرب بحملة إعلان ودعاية واسعة، وأن يتم التعاطي إعلامياً مع مشروع على مستوى العالم العربي ببرود وخجل، في حين أن شركات الإنتاج الفني في الدول المجاورة، لو قامت بعمل مماثل لكانت ملأت الفضاء الإعلامي بالمواد الإعلانية والإعلامية المكتوبة والمصورة. فما بالنا بمشروع يضع بين أيدي المهتمين مجموعة من الأعمال النادرة بحلة أنيقة وأسعار رمزية، إذ لا يتجاوز ثمن النسخة الأصلية من الألبوم دولارين في وقت لا يقل فيه سعر النسخة الأصلية لأي البوم حديث عن عشرة دولارات.

ويؤكد د. نبيل اللو المشرف على المشروع، أن الهدف منه ليس تجارياً، بل الهدف توفير مادة مرجعية راقية في المكتبة العربية للباحثين والمهتمين بالإضافة إلى تعريف الجمهور السوري بكبار الفنانين، وتعريف الجمهور العربي بما لدى سورية من ارث فني خلال القرن الماضي. ويشير اللو إلى أن المشروع لا يعتبر بالمعيار التجاري رابحاً، لكنه ليس خاسراً، فقد تمكن مع مجموعة العمل من إيجاد صيغة تغذية توليد ذاتية. فالكتلة النقدية التي وضعت كرأسمال، تعود بربح بسيط من الإصدار تكفي لتمويل الإصدار الذي يليه. فتكلفة الألبوم من نسخ وطباعة فقط دون حساب باقي التكاليف كمكافأة الكادر البحثي والفني والتقني، تعادل دولاراً واحداً، في حين يباع الألبوم بدولارين، مع أنه بالإمكان وضع سعر أعلى لتغطية كافة النفقات، لكن يتم تحمل باقي الأعباء، لأن دار الأسد للثقافة والفنون ليست شركة تجارية. وحسبنا أن كافة الإصدارات لاقت إقبالاً كبيراً. وبعضها نفد في اقل من شهر مثل المجموعة الأولى لأعمال محمد القصبجي، وتستعد الدار لإصدار طبعة ثانية. خاصة أنه في القاهرة لم يتم القيام بخطوة مماثلة لجمع آثار القصبجي، اللهم سوى ما ورد من أعماله ضمن موسوعة أم كلثوم الضخمة.

وحسب ما قاله الدكتور نبيل اللو: إن أصدقاء مصريين، رحبوا بمجموعة القصبجي، وأكدوا له أنهم لم يسمعوا عن وجود عمل مماثل خاص بأعماله في مصر. وقد سألناه، إذا كان يحق لدار الأسد إعادة طبع أعمال لفنانين عرب. وكان جوابه، انه حصل على الحقوق من (صوت القاهرة) التي تمتلك حقوق أغاني أم كلثوم، كما حصل على جميع الأعمال التي لحنها القصبجي لأم كلثوم من وكيل صوت القاهرة في سورية. والألبومات الخمسة التي أصدرتها الدار تمثل أعمال القصبجي الكاملة التي غنتها أم كلثوم في الفترة الواقعة بين 1923 ـ 1955 . الإصدارات (تضم أغنيات ومونولوجات وطقاطيق ومواويل) التي أعادتها إلى الحياة دار الأسد للثقافة والفنون، تبشر بمشروع ضروري لحفظ وإحياء التراث، بكل ما يمثله ذلك من أهمية، إلا أن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا إذا اكتمل، وهو ما يتطلب شروطاً تضمن استمراره كمشروع طويل الأمد، مع نقد جدي وحقيقي ومواكب، يُقوم مسير خطواته، وهو ما يبدو صعباً في مجتمعات كمجتمعاتنا ترتبط فيها المشاريع مهما كان حجمها بالأشخاص، وفي حال تغيرهم، إما تتوقف تلك المشاريع أو تنحرف عن المسار المخطط له، لأن سنة حياتنا الثقافية العربية هي أن (الحلو مابيكملش). ونحن نتمنى أن يتكامل حلو دار الأسد للثقافة والفنون كي نستمتع بما تطمح إلى تقديمه ضمن هذا المشروع من أعمال لمحمد فوزي وابو العلا محمد وداود حسني واحمد صبري النجريدي وآخرين.