ابن خلدون.. هل كان مكيافيلي عصره؟

مكتبة الإسكندرية ترجمت أهم دراسة إسبانية عنه

TT

يضم الكتاب 50 مقالا علميا حاولت الإجابة عن العديد من الأسئلة المتشابكة في سيرة حياة وأعمال ابن خلدون، مبرزة الدروس المستفادة من خبرته التاريخية، ومحاولته التأكيد على المقاربة الإنسانية سواء في رؤيته للأحداث وفي التدليل عليها بالبرهان؛ وذلك من خلال 9 أجزاء هي: «ابن خلدون وعصره»، «القرن الرابع عشر: الزمان والمكان»، «أحوال الدولة»، و«الحروب والدبلوماسية والتوسع»، و«التجار والطرق والبضائع»، و«علم السكان ونهاية العالم والعلاج»، و«لمحة عن حياة ابن خلدون (1332 – 1406)، واشبيلية في القرن الرابع عشر.

صدر كتاب «ابن خلدون.. البحر المتوسط في القرن الرابع عشر، قيام وسقوط إمبراطوريات أولا باللغة الاسبانية في احتفالية أقيمت بإسبانيا ما بين شهري مايو/ أيار/ وسبتمبر/ أيلول/ 2006 برعاية ملك إسبانيا خوان كارلوس الأول والملكة صوفيا، تحت عنوان «ابن خلدون.. البحر المتوسط في القرن الرابع عشر، قيام وسقوط إمبراطوريات». وقدم للنسخة العربية الدكتور إسماعيل سراج الدين مدير مكتبة الإسكندرية، والمنجي بو سنينة المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، والشيخ مشعل بن جاسم آل ثاني رئيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث بقطر.

ومن خلال ابن خلدون وسيرته وأعماله وأسفاره يقدم الكتاب على هامش كل هذا بانوراما لتاريخ مصر، والجزائر، وتونس، والمغرب، وإسبانيا، والممالك المسيحية، وتاج أراغون، وجزر البحر المتوسط، وفرنسا، والمدن الإيطالية، والإمبراطورية العثمانية.

ففي مقالة للدكتور عبد السلام الشدادي من جامعة محمد الخامس بالرباط، حول «عالم ابن خلدون» يرى الباحث أن «النظرة الشاملة والعالمية عند ابن خلدون»، تستند إلى فكرة الروابط القومية (الأممية) التي كانت معروفة في عصره. ومنها يتطرق للإجابة عن سؤالين هما: ما الأسس النظرية لعلم الاجتماع في فكر ابن خلدون؟ وما العناصر الاجتماعية والتاريخية التي بنى عليها نظريته؟ وهو يرى أن ابن خلدون استند إلى الخصائص الأساسية للحضارة الإنسانية حسب المفهوم الفلسفي التقليدي، بداية من تعريفه للإنسان بأنه حيوان سياسي. ومن هذا التعريف استخلص ابن خلدون نقطتين أساسيتين لنشوء المجتمعات والحضارات: الأولى هي أن المجتمع ضرورة لحياة الإنسان، الثانية هي أن المجتمع البشري المرتكز على التعاون من أجل توفير مقومات الحياة والدفاع عن الأفراد لا بد من أن يخضع لقوة سياسية. أما النقطة الثانية، فتتلخص في أن النظرية الحتمية الجغرافية للمناطق المناخية التي بنى عليها ابن خلدون تعامله مع المجتمع البشري (الاجتماع الإنساني) والحضارة (العمران البشري) في مجمليهما، أي من حيث انتشار المجتمعات مكانياً، ومن حيث استغراقها زمنيا، مشيرا إلى أن الثقافة الإسلامية خلال القرن الرابع عشر، كانت وما زالت تعتبر أن شعوب العالم مرتبطة بنسب واحد يرجع إلى آدم عليه السلام. شكك ابن خلدون في تلك النظرية متسائلاً: «أنه بفرض أن الإنسانية مرجعها إلى أولاد نوح الثلاثة سام وحام ويافث، فإن ذلك مجرد نقل للتقسيم الجغرافي للعالم. ففي الجنوب يوجد نسل سام وفي الشرق نسل حام وفي الشمال نسل يافث»؛ من وجهه نظره، فإن الفائدة من علم الأنساب هي فائدة سياسية واجتماعية.

ويقول جان بيير مولينيا من المركز القومي للبحث العلمي بباريس، في مقاله " فشل اللقاء بين ابن خلدون وبيدرو الأول ملك قشتالة «أن هذا اللقاء بين الشخصيتين مثل فرصة للقاء بين الغرب والشرق، لكنها فرصة ضاعت من دون أدنى مسؤولية من كليهما. وقد أفرد الباحث في مقاله مساحة، أشار فيها إلى أن وجهة نظر الإسبان المسيحيين عن العالم الإسلامي قد تغيرت في النصف الثاني من القرن الرابع عشر، أو تبدلت استناداً لما أطلق عليه ثورة تراستمارا، وذلك طبقاً لوجهة نظر القشتاليين، التي تمثل على صعيد البنى الاجتماعية، مرحلة عودة العلاقات الودية للبلاد مع باقي دول العالم الغربي المسيحي.

وتناول رافيل بالنسيا من جامعة سابيا في مقالة «ابن خلدون وتيمورلنك» العلاقة ما بين العلامة العربي ابن خلدون وتيمورلنك سلطان المغول. وكان اللقاء الأول بينهما على أطراف دمشق في 10 يناير/كانون الثاني/ سنة 1401، وحدثت هذه المقابلة قبل موتهما مباشرة. واستنادا إلى عدة مصادر فان هذه العلاقة انتهت في 26 فبراير/ كانون الثاني/ من العام نفسه.

ويستكمل فرانسيسكو لوبيز استرادا من جامعة كومبليتنزي بمدريد ملابسات النقاش الذي دار بين تيمورلنك وابن خلدون كما أكده الأخير في سيرته الذاتية، مشيرا إلى أن ابن خلدون استخدم كل خبرته كرجل بلاط مطلع ودبلوماسي ومفاوض وسفير للتفاوض مع تيمورلنك الفاتح العظيم. وأثمرت المحادثات السيد الجبار وابن خلدون ثمارها، واكتشف تيمورلنك أن ابن خلدون يعرف سيرته ونسبه. وخلال محادثاتهما، اخبره ابن خلدون أنه كان يكتب عن تاريخ الشرق والغرب، وفيه ذكر أكثر الرجال أهمية ومن بينهم تيمور لنك، وود أنه لو انتهز فرصة اللقاء لتصحيح أي أخطاء وأن يعطي روايته دقة أكثر. وسأله تيمورلنك كيف حصل على معلومات عن نسبه، فأجابه ابن خلدون بأنه حقق ذلك بسؤال التجار الذين يعتبرهم الأكثر جدارة بالثقة.

وفي القسم المعنون «لمحة عن حياة ابن خلدون 1332 – 1406»، كشف طاهر الحمامي من جامعة منوبة بتونس عبر مقالة «حياة ابن خلدون ونشاطه السياسي أو العلامة» جوانب مهمة عن حياة ابن خلدون الخاصة؛ مولده وأصله وتعليمه وعائلته والحركة الفكرية. ثم تعرض لزخم الحياة السياسية حيث كان النشاط السياسي لابن خلدون محوراً أساسياً في تورطه في زخم القضايا العامة، وعرض كذلك لصلات ابن خلدون بالسياسة من خلال الوظائف التي تقلدها والبعثات التي وكلت إليه. وقد بدأت هذه المهام عندما عينه أبو محمد بن تافراكين في وظيفة «كاتب العلامة» في تونس، في خدمة السلطان ابي اسحاق.

حاولت هذه المقالة تتبع ابن خلدون في رحلاته في البلدان الإسلامية في المغرب والمشرق. ويرى الحمامي أن الرجل عندما كان يهم «للتخلص من عبء الأسفار» ويفكر في الاستقرار، كان يستدعى للترحال مرة أخرى. وهو في هذا كان شبيهاً بالمتنبي. لقد كان طموح ابن خلدون من صنف طموحات المتنبي كما كان واسع الآفاق مثله، غير أن زمن ابن خلدون كان يشهد التفكك في العالم الإسلامي، أما المتنبي فقد عاش مع بدايات هذا التفكك.

وتخلص هذه المقالة إلى أن تنقل ابن خلدون من المعسكر الضعيف المتخاذل برغم ما كان يحوط به من نفوذ إلى المعسكر الأقوى، يمثل بالنسبة له توجهاً نحو الواقعية التي كان يؤمن بها والتي يطلق عليها «المكيافيلية»، لقد كان ابن خلدون يفتش عن ضالته المنشودة في شخص لديه من الزعامة ما يتوافق مع رؤيته في كتاباته، على الرغم من أن هذا البطل المنشود كان وسوف يظل في واقع الأمر مجرد وهم ثقافي يرى في نفسه شيئاً أرقى من روتين البشر، وتفاهاتهم، ومن ثم فإنه يتعفف عن النزول من عليائه ليبدد طاقاته في رخص الحياة اليومية. ويلفت الحمامي إلى أنه من ثم يمكننا القول بأن مسيرة ابن خلدون كانت مسيرة «العلامة»، الذي كان يعيش على «حبل البهلوان» السياسي، محاولاً قصارى جهده أن يوازن بين تكامل شخصيته من ناحية وبين ما يوكل إليه من مهام ومناصب. لقد أثار ابن خلدون شهية الأتراك العثمانيين، والأوروبيين خاصة الفرنسيين، منذ القرن السابع عشر. وكان لهؤلاء قصب السبق في تحقيق وترجمة ودراسة أعماله.

يعتقد محمد طلبي الاستاذ بجامعة تونس والاكاديمية الملكية للتاريخ بمدريد، أنه لا يجب ظلم ابن خلدون محدث ببساطة لأنه شارك وانخرط في بعض متطلبات زمنه، كما يفعل كثير من المثقفين الآن. ويشير إلى أن ابن خلدون أعطى أهمية للقضايا الدنيوية بتركيزه على الأسئلة العملية التي لها تأثير على الحياة وتطور المجتمعات في زمن كان الاهتمام منصبا فيه على القضايا الروحية التي تم إعطاؤها الأولوية على القضايا الدنيوية.

وتكشف لنا مقالة بعنوان «مملكة مالي في القرن الرابع عشر وفقا لابن خلدون ومعاصريه»، للدكتور عبد الواحد أقمير من جامعة محمد الخامس بالرباط، عن أن ابن خلدون هو مؤرخ العصور الوسطى الوحيد الذي زودنا بسرد للملوك الماليين، منذ تأسيس السلالة الحاكمة في ثلاثينيات القرن الرابع عشر حتى بداية تدهورها في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي. ويذكر المقال أيضا بإسهاب علاقات مالي مع العالم العربي كما حللها ابن خلدون، من حيث العلاقات الدبلوماسية وتبادل الهدايا والسفراء ين الملوك الماليين والمرينيين، وأيضا العلاقات التجارية بينها وبين دول الجوار، والعلاقات الاجتماعية كما ذكرها ابن بطوطة والعمري، والعلاقات الثقافية والروحية.