إدوارد سعيد مات مقهوراً على العراق وعنده رغبة جارفة لكتابة رواية

زوجته تتحدث عن أيامه الأخيرة

إدوارد سعيد رحل قبل ان يكتمل الحلم
TT

في آخر أيامه كان إدوارد سعيد، يؤلف كتابا حول «أميركا الأخرى»، لكن العمر لم يسعفه. وكان يحمل في طيات نفسه حلماً كبيراً بأن يكتب رواية، لكنه لم يجد الوقت لذلك أيضاً. هذا ما كشفته مريم سعيد عن حياة زوجها الراحل، المفكر والمحلل والناقد الموسيقي العربي - الاميركي، ادوارد سعيد، في حديث خاص لـ «الشرق الأوسط». ومريم سعيد تحمل سلة الذكريات والمعلومات الأكثر ثراء عن ادوارد سعيد، وتلف بها العالم اليوم تحاول اكمال مشاريعه الانسانية الابداعية العديدة، فوصلت الى الناصرة، لتلتقي بعضا من تلاميذه وأعضاء فريقه الموسيقي من جمعية «اورفيوس» لنشر الثقافة الموسيقية، وهناك كان لقاؤنا بها.

كان إدوارد سعيد قد ساهم بشكل شخصي من خلال مؤسسته وشريكه الموسيقي اليهودي دانئييل بارنيويم في دعم جمعية «اورفيوس» وتطويرها موسيقياً، وهي التي قامت منذ أيام، بإحياء الذكرى السنوية الرابعة لوفاته بوجود زوجته مريم.

وتروي لنا مريم سعيد بعض الحكايات عن ادوارد سعيد، وهي تتذكر: «حياته كانت مضطربة أو «مقلقزة» كما يقولون. في اوائل الخمسينات ارسل الى اميركا البعيدة، وهو لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره. في كتابه «خارج المكان» اشار الى انهم «شحطوه» من المدرسة، معتقداً ان ارساله الى اميركا كان عقابا على خطأ ارتكبه. وصل للدراسة في ولاية ماساتشوستس، فلم يلائمه لا طقسها البارد ولا اجتماعياتها الباهتة. احتاج الكثير من الوقت للتأقلم مع وضعه الجديد. كل الوقت، كان لديه شعور بأنه منفي، ويعيش بين عالمين، حتى اكتشف ايجابية المنفى. وهذا ساعده كثيراً عندما سطر كتابه عن «الاستشراق» وآخر عن القضية الفلسطينية، لم يترجم للعربية بعد. لقد استطاع ان يرى العرب بعين الغرب. كان همه تغيير نظرتهم للعرب وللقضية الفلسطينية. بنفس الوقت فسر للغرب كيف نرى نحن تلك القضية، محاولا ان يقيم جسرا بين الحضارتين».

عندما اعتلت مريم المنصة لإلقاء كلمتها، استأذنت الجمهور أن تتحدث بلهجتها اللبنانية، حتى تتمكن من التعبير عن مشاعرها بشكل أفضل، كما قالت. تحدثت بعفوية وبفرح طفولي، ينم عن التقدير الكبير لزوجها، ولاولئك الذين يحيون ذكراه. في قمة تأثرها قالت مريم سعيد: «أتمنى لو ان ادوارد كان حاضراً بيننا، ليرى بعينه وليسمع تلك المواهب الواعدة». في حديثها معنا قالت انها حضرت بعض التمارين، التي عزف خلالها اطفال لم يتجاوزوا العاشرة. وانبهرت بهم، لأنهم يتقنون عزف أجمل المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية والعالمية. ادوارد كان سيسعد بهذه النتيجة المهولة، من دون شك.

الحفل هذه المرة كان على غير الاحتفالات السابقة، فإضافة الى الكلمات المؤثرة بحق إدوارد سعيد ومكانته المحلية والعالمية، كانت معزوفات موسيقية بأداء عازفين عرب من فلسطينيي 48، يهود وأجانب. الفنانة الفلسطينية، أمل مرقص، اختارت مقتطفات إنسانية مؤثرة من كتابه «خارج المكان»، أدتها بجمالية آسرة. سألنا مريم سعيد عن أمور اراد سعيد قولها ولم يمهله الزمن: «ارجّح انه اراد قول الكثير من الاشياء. قبل ثلاثة اسابيع من وفاته بدأ الاعداد لتأليف كتاب عن «أميركا أخرى»، اراد من خلاله اجراء مقارنة بين الشعب الاميركي والحكومة الأميركية ونقاط الاختلاف والتحول بينهما. لكن حلمه هذا لم يتحقق كما لم تتحقق رغبته الجارفة في كتابة رواية». تعقيباً على ما رواه في كتابه «خارج المكان»، حيث أشار الى انه في مرحلة معينة توجه الى طبيب نفسي لتفريغ الضغوطات النفسية والصراع الذي عاشه في اميركا، أكدت مريم سعيد صحة الكلام مضيفة: «لقد كان بحاجة لشخص يتحدث اليه ويفهمه ويساعده. وجوده في بلاد مثل أميركا، شجعه للتوجه الى طبيب نفسي، فهذا هو أمر عادي في البلدان الحضارية، فقد أراد مساعدته للخروج مما يضايقه. وهو لم ير أي ضير في التوجه للطبيب كلما أحس ان هنالك حاجة لذلك. لقد كان هذا الأمر يريحه ويساعده وهذا أهم ما في الأمر». حساسيته تجاه قضية أبناء شعبه الذين يعيشون تحت وطأة الاحتلال معروفة، وقد ترجمها في محاضراته وكتبه، لكنه غادرنا من دون ان يحظى برؤية الحل الذي يؤمن به - الحوار واحترام الآخر. سعيد كما تقول زوجته، آمن بالحل الانساني، الذي رآه في أن يعيش الشعبان، الاسرائيلي والفلسطيني، في دولة واحدة. ورأى ان القضية الفلسطينية هي قضية تحرر وطني، ولكنه أراد لهذا التحرر أن يكون ليس فقط من الاحتلال، بل من الانغلاق على الآراء القديمة، فالانفتاح في نظره هو أفضل تحرر. وتضيف: «لقد مات مقهوراً ايضاً بسبب الحرب الاميركية على العراق، التي بدأت قبل ستة أشهر من وفاته، غضب كثيراً ورأى فيها حرباً من أسوأ الحروب، بل اعتبرها أنحس من حرب فيتنام». ما لا يعرفه كثيرون من أهل الناصرة، الذين زارتهم مريم سعيد، هو انهم أخوال زوجها. فوالدة إدوارد سعيد ولدت في الناصرة لعائلة بشوتي، التي تعتبر إحدى العائلات العريقة في المدينة. والدها كان قسيسا معمدانيا، وهو الذي أسس الكنيسة المعمدانية في الناصرة وقام ببنائها. ولذلك فإن زيارته لها لم تكن صدفة. بيد انه هنا تعرف الى ابن المدينة الشاب، الذي أصبح عازف بيانو عالميا، سليم عبود. وتقول مريم سعيد ان ادوارد كان قد شاهد عبود يعزف أول مرة في برنامج لإحدى القنوات التلفزيونية الأميركية: «سحره عزف سليم وأعجب به كثيراً. وتخيل بالطبع ان الكثير من الأميركيين سيتأثرون مثله، وسينظرون اليه بالأساس كفلسطيني، مما يعني ان صورة جديدة ايجابية ستظهر للأميركيين عن الفلسطيني. فقرر البحث عنه وتقديم ما يستطيع من خلاله لفنانين فلسطينيين أمثاله. وهكذا نجح ادوارد باجراء التواصل. ولم يقتصر الأمر على سليم عبود، بل تجاوزه ليأخذ مجموعات من العازفين من فلسطينيي 48 واخوتهم في المعهد الموسيقي في رام الله كأول خطوة، ثم ضم اليهم عازفين يهوداً. وتقوم هذه المجموعات بالعمل الابداعي المشترك أمام العالم، كإشارة الى ان السلام ممكن بين الطرفين». هذه العلاقة المستمرة منذ عدة سنوات، تطورت أكثر بعد أن دخل الى الصورة الموسيقي اليهودي المعروف دانئييل بارنيويم الذي يحمل افكاراً تشبه افكار سعيد من بينها قناعته بالتعايش المشترك بين الشعبين واحترام الآخر. وتخبرنا أنه في زيارتهما الاولى للناصرة حرص على ان يرافقهما اولادهما: «حتى يتعرفوا على فلسطين». وتعبر مريم سعيد عن مشاعرها وهي تشارك في احياء ذكرى رفيق دربها قائلة: «شعوري هذه المرة، يختلف عنه في الزيارات السابقة. هذه المرة أشعر أن رسالته بدأت تصل وكتاباته تطبق». ادوارد سعيد الذي يعتبر بحق شخصية متعددة التخصصات، بقي من أبرز المدافعين عن قضية فلسطين في الغرب. فقد «لاحظ ان العالم بعد حرب 1967 استثنى القضية الفلسطينية، وان الضحية تحولت الى مجرم وان المجرم يمثل دور الضحية. ادوارد رأى في القضية الفلسطينية حركة تحرر مثلها مثل أي حركة تحرر أخرى في العالم. من هنا نشأت فكرته بأن التحرر ليس بتحرير الوطن فقط انما بالانفتاح، فهم الآخر والتعايش معه».