أحمد برقاوي: أريد أن أفضح العالم وهذه هي مهمة الفيلسوف

بعد كتابه الجريء عن «الأنا» وسبل انتزاع «الحرية»

أحمد برقاوي
TT

> فيما ينشغل أغلب المفكرين العرب بالهموم المعاصرة لعالمنا العربي، تبدو أنت وكأنك تغرد خارج السرب، بدليل أنك أصدرت، منذ عامين، كتابا عن «الأنا». هل توافقني الرأي؟

- أبدا، كتاب «الأنا» ليس تغريدا خارج السرب، على العكس هو في صميم المشكلة التي نعيش، لأن العرب عموما قد نسوا الإنسان، وأنا أريد أن أعيد لهذا لإنسان مكانته وموقعه في عالمنا، بل أريد للأنا أن تتحول إلى قيمة حرة في ذاتها كي تقدر على صناعة التاريخ. وبالتالي كتاب «الأنا» ليس كتابا ميتافيزيقيا عن مشكلة لا تهم إلا عددا قليلا من الناس، على العكس كتاب الأنا يهم كل إنسان في هذا العالم العربي.

وبالتالي أنا أدافع عن الأنا الحر الذي كبل بكل أنواع الأغلال، بدليل أنك موجود في هذا العالم العربي، وهناك سلطة وإيديولوجيا تقمعك ودين وعادات وتقاليد تقيدك، فإذاً كيف ستصنع تاريخا وأنت لا حول لك ولا قوة؟

> هل تريد أن تقول ان الأزمات التي نعيشها في المنطقة العربية تعود، بمعنى من المعاني، إلى غياب الأنا الحر والفاعل، بدليل أنك تقول في كتابك «تاريخنا هو تاريخ غياب الأنا وليس تاريخ حضوره»؟

- بالضبط، هل تعتقد أن هذا الخراب الحاصل في العالم العربي كان يمكن أن يحصل لو كان «الأنا» حاضرا؟ وأود أن أشير هنا إلى أن السلطة في العالم العربي التي هي عبارة عن عصبيات قوية، تكونت تاريخيا وأنتجت سلطاتها، ولا تريد أن تتغير إطلاقا مع تغير المجتمع، وبالتالي لا تريد لأي «أنا» حر أن يعبر عن ذاته بقوة الرفض والتمرد والـ «لا»، لكنها تريد أن تدجّنه ليغدو كل ما فيه «نعم». لكن المسؤولية عن الوضع القائم لا تنحصر فقط في السلطة السياسية، هناك الدين في حضوره على الشكل الراهن أيضا، إضافة إلى الدور الذي تلعبه القوى الغربية.

>لكن البعض يقول انك تنزع في كتابك هذا إلى النرجسية أو الفردية، بمعنى أنك تعود للكوجيتو الديكارتي «أنا أفكر... أنا موجود» مرة أخرى.

- على العكس، لست نرجسيا ولا فرديا، لكن ربما أفكر بطريقة تفاجىء الآخرين. بمعنى أن العامة وأشباه العامة، يفرحون عندما تفكر مثلهم، لكن عندما تفكر على نحو آخر فتصدم أفكارهم المسبقة، يقولون عنك انك فردي أو مغرور وإلى ما هنالك. دعني أقول لك: أنا أحب جميع الناس وأفكر بحياتهم وهمومهم، لكن ما ذنبي إذا كان العالم خربا إلى الحد الذي لا أجد فيه إلا اللغة القاسية لنقده وفضحه؟ أريد أن أفضح العالم، وهذه هي مهمة الفيلسوف الذي يحاول أن يقبض على حقيقة الأشياء ويكشف عن معنى وجود البشر.

أما بشأن الكوجيتو الذي ذكرته، فالتفكير لا يكفي للوجود، لأنه لا بد من التمرد أيضا. ربما هذا يحيلنا إلى ألبير كامو الذي يفرق بين مفهومي التمرد الذاتي والتمرد الميتافيزيقي، حيث يعني الأول أن يتمرد الإنسان بهدف تحقيق منفعة شخصية، بمعنى أن ترفض وجودك موظفا في هذه الدائرة، وتريد أن تصبح مديرا، وعندما تحقق ما تريد تكف عن التمرد. في حين يعني الثاني- الذي أنشده - التمرد على الوضع العام. أي التمرد على غياب الحرية والاضطهاد الكلي أو التمرد ضد السلطة السياسية. وبرأيي إنه على الإنسان أن يظل متمردا حتى ولو تحققت أهدافه في الأرض، لأنه يجب أن يسعى دائما إلى ما هو أفضل، وهذه هي الحرية.

> بمناسبة الحديث عن الحرية، كيف تعرف الحرية؟ ومتى يكون الإنسان حرا؟ وما قصة نزعة الإطلاق التي نجدها في مقالك عن الحرية المطلقة؟

- الحرية كما عرفتها في كتابي «الأنا» هي: زوال المسافة بين الأنا الظاهر والأنا الخفي. بمعنى أني عندما أذهب لاختيار حاكم أكتب ورقة وأضعها في صندوق الاقتراع دون خوف أو وجل. هذه الورقة تعبر عن خياراتي الحقيقية (أوافق أو أرفض، أحب أو أكره)، وبذلك أسلك سلوكا ظاهرا متوافقا مع ما أنطوي عليه من «أنا خفي» وبذلك أكون حرا.

عندما تتحقق هذه المعادلة التي قلتها «تزول المسافة بين الأنا الظاهر والأنا الخفي»، يكون الإنسان حرا.

لكن ثمة أمراً يحمل الإنسان على أن يخفي حقيقته وهو الخوف من السلطات القامعة (السلطة والهيئة الاجتماعية ورجل الدين). وعندما يزول هذا الخوف يظهر الإنسان على حقيقته. وعندما لا يكون ظهور «الأنا» كاملا بهذا المعنى، يظهر الكذب والنميمة والنفاق في المجتمع. لذلك قلت في كتابي: «إذا طلبوا منك أن تضحك وضحكت، فلقد وضعت رجليك على حافة المستنقع. وإذا طلبوا منك أن ترقص ورقصت لأنهم طلبوا منك أن ترقص فقد دخلت رجلاك المستنقع. أما إذا اعتليت المستنقع منصة للخطابة فأنت حر». وأن يكون الإنسان حرا فهذا لا يتعارض مع كونه ملتزما بقضية أو موضوع معين، بمعنى أنك إذا كنت معجبا ببرامج وأفكار حزب سياسي، واتخذت قرارا حرا بأن تلتزم بهذا الحزب فأنت إنسان حر. ولكن بالمقابل، إذا شعرت أن وجودك في الحزب، يقيدك ويمنعك من التفكير الحر، فأنت حر في أن تخرج منه، لذلك ليس هناك أي تناقض بين الحرية والالتزام.

أما حول نزعة الإطلاق التي ذكرتها، فلقد كتبت مؤخرا مقالا عن الحرية المطلقة بعد أن حاول البعض أن يربط بين الحرية والجنون، بمعنى أنهم تساءلوا: أنت تقول ان الحرية مطلقة، إذاً هل يستطيع الإنسان أن يمشي عاريا في الشارع. وأردت أن أقول ان الإنسان كائن عاقل، إذا ما الذي يدفع عاقلا للسير عاريا ؟ بمعنى عندما يكون الكائن الحر عاقلا، وعندما يفعل وفق مبدأ العقل، وعندما يرى الآخر حرا ولا يعتدي على حريته وبالتالي هو يسلك سلوكا حرا، وبهذا المعنى الحرية مطلقة وليست نسبية.

> بهذا أنت تؤيد مقولتي هيغل: «لست السيد لست العبد ولكن أنا الحرية» وسارتر: «أنت لست شيئا سوى حريتك». على أن هذا الأخير يقول أيضا: «وجودنا في هذا العالم هو حدّ لحرية الآخر»، كما أنه يعرف الآخر بأنه «جحيم»، وأنت لديك مقال في هذا الشأن.

- أوافقك الرأي بالنسبة للشق الأول من السؤال، وبالمناسبة هيغل لديه قول آخر هو: «ليس التاريخ إلا مسار وعي الحرية لذاتها»، لكني لا أوافق على الشق الثاني، بمعنى أن وجودنا في هذا العالم واعتراف كل منا بالآخر على أنه كائن حر، يمكن أن يحقق فكرة الحرية ويكف الآخر عن أن يكون جحيما. أي يكف عن محاولته سلبك حريتك وجعلك نسخة عنه.

> لو انتقلنا إلى مستوى آخر، متى يكون المثقف حرا؟ وما هي المسؤولية التي يتحملها المثقف في المجتمع؟

- يكون المثقف حرا، عندما يعبر عن رأيه ويدافع عنه ويتحمل تبعاته. والمثقف الحر هو المثقف الملتزم بتعريف سارتر أي «الذي يكتب بمسؤولية عن هموم الناس دون أن يكلفه أحد بذلك»، وفي حال كلفه أحد لا يصبح حرا. ومن هنا ميز غرامشي ذات مرة بين المثقف الديموقراطي والمثقف الذاتي، فالأول يعني عنده «ذلك الذي يعبر عن هموم الناس»، أما الثاني فهو «الذي يعتبر همه الذاتي هما كليا»، بمعنى انه أناني. وبالمناسبة ليس بالضرورة أن يقدم المثقف دائما صورة بهية عن المثقفين.

أما بالنسبة للمسؤولية التي يتحملها المثقف، فأعتقد أن مسؤوليته تنحصر في الالتزام بقضايا الناس ومشاكلهم وهمومهم، لأنه لا يصنع التاريخ لكنه لديه هاجس تكوين المعرفة المطابقة للعالم، وفي حال أكد المثقف وظيفته هذه، يكون قد قام بدوره على أكمل وجه، وأنجز مسؤوليته. أما إذا كان بوقا وقلما للإيجار، فهو بالأساس لم يعد مثقفا، وقد يكون أحيانا جزءا من المشكلة لكنه ليس هو المشكلة. والمواطن العربي يعول دائما على المثقف أن ينجده كلما شعر بهشاشة السياسي وضعفه. على أن المثقفين هم عدة أنواع، فإضافة إلى المثقف الملتزم هناك المثقف المتسول، والمثقف المأجور الذي يريد مالا ومنصبا وشهرة.

> في تأملك للمسألة العربية، تتساءل عن سبب التجزئة المستمرة بين الدول العربية، رغم وجود الروابط المشتركة، مفندا قول البعض: إن حركة العلمانية أتت على الفكر القومي العربي، بدليل نشوء الدول القومية، إضافة إلى توحيد الألمانيتين بعد انهيار المعسكر الاشتراكي. وبالتالي أنت تتبنى تعريفا جديدا للعلمانية يختلف عن الطابع الهدام للقوميات والهويات الذي ينعتها به البعض.

- أرى أن العولمة هي الرأسمالية في تعيّن جديد يقوم على علاقات أكبر في السوق العالمية وعلى هجرة الرأسمال وتداوله عالميا. ومما يزيد من قوة الترابط العالمي الثورة التكنو - إلكترونية وما تبعها من وسائل اتصال وما شابه ذلك. لكن أهم ما في العولمة أنها حولت العالم إلى مراكز بلا أطراف، بمعنى أنها حاولت توحيد العالم. وأريد أن أقول: إذا كانت العولمة هي حركة لتوحيد العالم فأولى بنا نحن العرب أن نقيم شكلا من أشكال الاتحاد أو الوحدة أو التجمع العربي. لكن هناك عدة شروط تحول دون تحقيق ذلك، ومنها وجود السلطات المحلية، وأنا أسميها سلطات احتلال. وهي شبيهة بسلطة الاحتلال الخارجي، وهدفها هو: نهب خيرات، مراكمة أموال وتصديرها للخارج، ووجود أمن وجيش لبقائها وحارات خاصة بها.

وإذا كانت الإمبريالية بصفتها الاستعمارية قد أنتجت حركات التحرر من هذا الواقع الموضوعي، فلماذا يجب أن نقف مكتوفي الأيدي أمام شرور الرأسمالية المتعولمة؟ بمعنى إذا كنا وقفنا ضد الإمبريالية، وهي حركة موضوعية، فلماذا يجب أن نستسلم أمام الرأسمالية المتعولمة، وهي حركة موضوعية أيضا، لا نستطيع أن نوقفها ولكن لا نستطيع أيضا أن نتحمل عذاباتها. نحن لم نوقف الإمبريالية، لكننا تحررنا من استعمارها. فالطبقة العاملة لم تلغ الإمبريالية، ولكن أخذت مكاسب هائلة من الدولة الرأسمالية، فإذاً موضوعية الظاهرة لا تلغي إمكانية مقاومتها.

> من جانب آخر أنت لا تريد الاعتراف بمفهوم «صراع الحضارات» الذي طرحه هنغتينتون، وبديله «حوار الحضارات» الذي طرحه بعض المفكرين العرب، وكأنه تغريد خارج السرب مجددا.

- دعني أوضح أمراً، عندما كتبت عن منطق العلاقة بين الحضارات، لم أقل إنني ضد الحوار أو الصراع، لكنني كشفت عن منطق العلاقة القانونية بين الحضارات تاريخيا، وببساطة اعتمدت على ابن خلدون وغيره. وتبين لي أن الحضارة القوية تؤثر على الحضارة الأضعف، وأن الحضارة الصاعدة تأخذ وتعب من الحضارات السابقة، وتعيد إنتاجها فتكوّن حضارتها. فالحضارة الإسلامية أخذت من اليونان والهنود والفرس، لكن كونت حضارتها الخاصة ودون الشعور بالدونية.

الحضارات لا تتحاور ولا تتصارع، هناك حركة انتقال وتأثير. الحضارات الضعيفة لا تؤثر في الحضارة القوية بل العكس، ما تأثيرنا على الحضارة الفرنسية الآن نحن العرب؟ نحن عندما كنا أمة عالمية أثرنا في العالم، لكن الآن نحن مجموعة من الكيانات التي لا طعم لها ولا لون. كما أن الصراع لا يقوم بين حضارة أميركية وحضارة عربية، لكن الصراع يقوم بين إمبراطورية أمريكية ذات مصالح ونزعة إمبراطورية للهيمنة على العالم وبين شعوب تريد أن تعيش بحرية. والصراع هو لاقتسام العالم، لذلك كان الصراع دائما بين دول متشابهة حضاريا (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا ولاحقا أميركا) وصراع الدول الثلاث الأولى أدى إلى حربين عالميتين. أما الحوار فهو يستدعي وجود تكافؤ، والحضارة القوية لا تحاور أصلا الحضارة الضعيفة، لكنها تبتلعها في أحيان كثيرة.

>لكن كيف تفسر الأزمة التي أثارتها الرسوم المسيئة للرسول الكريم، هل هي نتيجة عدم وجود فهم للآخر، أم أنها تنطوي على كره الغرب للمسلمين، كما تعبر في مقالك (لماذا يكرهوننا)؟

-في الغرب يقولون ما يشاءون، ويرسمون ما يشاءون. بالمناسبة أليس الغرب مسيحيا، لكن هو الذي قال إن المسيح أسطورة، وكتب عنه آلاف الكتب. الغرب يكره الإسلام، هذا صحيح، لأن لديه صورة نمطية عن العرب والمسلمين نقلها المستشرقون وغيرهم وهي في غالبها صحيحة، وتتلخص بعصر الحريم وضرب المرأة والتعصب. لكنهم يربطون صورتنا النمطية بالإسلام، وهذا ليس صحيحا.

الأحداث الأخيرة يجب ألا تثير فينا ردود فعل عنصرية تجاه الغرب، صحيح أن الغرب في أحد وجوهه عنصري، لكن رد الفعل على العنصرية لا يجب أن يكون عنصريا. وكان الأولى بالعرب والمسلمين أن لا يثيروا ضجة حول موضوع الرسوم، لأن الضجة التي أثيرت دفعت جميع الناس لمشاهدة الصور المسيئة للرسول. وهذا شبيه بالذي حدث مع رواية سلمان رشدي «آيات شيطانية»، حيث مضى على نشر الرواية أكثر من عام من دون أن يلتفت إليها أحد لدرجة أن الناشر لم يجد سوقا لبيعها. لكن مجرد أن خرجت المظاهرات في باكستان وإيران، انتشرت الرواية وطبعها الناشر عشرات الطبعات، وهذا يؤكد مقولة: إذا أردت أن تنشر شيئا فامنعه واحتجّ عليه.