نعيم فرحات تاجر اللوحات الذي تحول الى متحف آدمي

من أميركا إلى معتقل الخيام

TT

بدأ نعيم فرحات حياته تاجراً للوحات الفنية، في الولايات المتحدة الأميركية، وقد غرق في هذه التجارة التي باع من اجلها إرثه العقاري، حتى الثمالة. لكن عودته إلى لبنان عام 2003 غيرت مجرى حياته، ووجد نفسه يطارد لوحات من صنف آخر، ربما لم يخطر بعد على بال أصحاب المزادات العلنية. نعيم فرحات، يغامر أم يستطلع مستقبل تجارة الفن بعينين ثاقبتين بعد ان اشترى 800 عمل تجمعها كله رؤية واحدة: الألم الإنساني.

الحديث عن نعيم فرحات ومعه، يكافئ الدخول في حكاية ملونة، حكاية عمر مزخرف بكل مكونات الطيف، حيث تطالعنا الخطوط متعرجة متشابكة فنحار في فك ألغازها.

الجلسة مع هذا الأميركي ذي الأصول اللبنانية تماثل الغوض في عمق لوحة صاخبة معلقة الى جدار التجربة.

يروي محدثنا أن الصدفة قادته الى لبنان عام 2003 ليجد أمامه نتاج سمبوزيوم معقتل الخيام، كان العمل قد أنجز قبل عام، وكان سبعون فناناً من العرب والأوروبيين قد أمضوا فترة في المعتقل ليستلهموا منه مناخات التعذيب والاعتقال، ويمطروا بها لوحاتهم البيضاء ألواناً وأشكالاً متناقضة. كانت صرخات ما يقارب الأربعة آلاف معتقل لا تزال تتردد أصداؤها فوق الجدران الصماء، وكان الصوت بعيداً تائهاً في برية الوحشة، والذائقة الابداعية تائقة في بحثها عن وسيلة للقبض على اللحظات المتراقصة في ظلام العيش. وكان أخيراً ان اشترى نعيم 104 لوحات هي نتاج المعرض الذي كان مقرراً له أن يؤول الى الدمار بفعل القصف الذي تعرض له معتقل الخيام في حرب يوليو/تموز من العام الفائت. هكذا تحول تاجر اللوحات الى منقذ لها، وتوطدت أواصر الصلة.

في العام التالي أي 2004 كان معرض آخر أنجزه 23 فناناً فلسطينياً يجول في عدد من الولايات الأميركية: تكساس، سان فرنسيسكو، فيرمونت واشنطن، ونيويورك.

حمل المعرض اسم «صنع في فلسطين»، وهو يتمحور حول حق الانسان الفلسطيني بالوجود في المطلق أولاً، وفوق أرضه المحتلة تالياً. كانت نوعيته من بين الأفضل عالمياً بشهادة الخبراء، واحدى المشاركات فيه، اميلي جاسر، حازت جائزة عالمية.

مرة أخرى أقدم نعيم فرحات على شراء كل اللوحات المعروضة للبيع في المعرض.

موعده اللاحق كان مع مجموعة رسومات أنجزت في معتقل عسقلان وللحكاية تفاصيل مثيرة تستحق أن تروى. كان المعتقلون الفلسطينيون في السجن الاسرائيلي يتوقون الى ممارسة بعض الشغب الذي يؤكد بقاءهم على قيد الفعل، فعمدوا الى رسم أعمال تشكيلية على أغطية وساداتهم، وكانت الأغطية تهرب في أكمام الزوار، ثم يجري بيعها وتحويل مردودها المادي الى ذويهم.

يقول نعيم نقلاً عن «فناني نحت الأرض» أولئك، ان فقدان غطاء وسادة كان يعني في أذهان السجانين لوحة فنية معادية لهم، ويحيل صاحب الغطاء المفقود الى غرفة العزل.

ما لم يعرفه السجانون أن لجنة نقاد فنيين من بين السجناء كانت تتولى اجازة تحويل الأعمال الملائمة من مسودة فوق الورق الى لوحة على غطاء وسادة. في المحصلة أضاف نعيم فرحات 24 لوحة جديدة الى مقتنياته، بينها لوحات للفنانين زهدي العدوي ومحمد الوقوعي. وهما مشهوران اليوم بعد أن خرجا من المعتقل في عملية تبادل للأسرى.

صلته القديمة بالفن الأميركي جعلته يفتح عينيه على أعمال بعض المستشرقين من الأميركيين والأوروبيين الذين زاروا منطقة الشرق الأوسط، الأراضي الفلسطينية المحتلة خاصة، واطلعوا على تفاصيل الحياة فيها قبل أن يحولوا انطباعاتهم ومشاهداتهم الى منجزات تشكيلية معبرة. بين هؤلاء المستشرقين سوزان فلوستيز وايان افيرارادو. ومرة أخرى كانت مجموعة نعيم فرحات التشكيلية التي راحت تنمو باطراد واسع، على موعد مع 80 عملاً جديداً.

اثر ذلك كانت له عودة جديدة الى لبنان بعد حرب يوليو من العام الفائت. هذه المرة أثارت اهتمامه لوحات لأطفال كانوا يرسمون في ملاجئ تحت القصف، وبينهم من لم يحمه الملجأ، فأدركته كتلة النار الحاقدة وقضى. بحث نعيم تحت الأنقاض عن لوحات لفنانين تهدمت منازلهم بفعل القصف وعثر على بعضها، وكذلك أبدى اهتماماً بالصور الفوتوغرافية التي أنجزها مصورون مغامرون وتحملوا في سبيلها مخاطر جمة، بحيث اقترنت كل صورة بحكاية مؤثرة. فكان رصيده منها 1280 صورة. وقد توصل بفعل التجربة الى أن الصورة التي يسعها تحريك مشاعر المشاهد، هي عمل فني وليست مجرد نتاج حِرفي فقط.

في المحصلة الآنية، احتوت جعبة تاجر اللوحات، الذي توطدت علاقته بمقتنياته وبلغ حرصه عليها حد الاقلاع عن التجارة، على ما يقارب الثمانمائة عمل منوع بين لوحات فنية وتماثيل ومنحوتات، اضافة الى الألبوم الفوتوغرافي.

محدثنا تخلى عن فكرة الاتجار باللوحات، كما سلفت الاشارة، وغدا اليوم مهجوساً بفكرة اقامة متحف يضم هذا الكم الاستثنائي من المنجزات الفنية التي تتقاطع كلها حول الهاجس الانساني بالرغم من تنائي منصات اطلاقها. يخوض نعيم اليوم نقاشاً دائباً مع عدد من المرجعيات بينها وزارة الثقافة اللبنانية وعدد من البلديات بغية انشاء متحف تحط مقتنياته رحالها فيه، وتمارس من خلاله دورها البديهي في امداد المتلقي بشحنات من الأسئلة الانسانية والوجدانية التي رافقت مخاضات انبثاقها. وهو امتلك استناداً الى تجربته المخضرمة ما يكفي من الادراك ليقول جازماً ان الفن العربي، بما يمتلكه من أبعاد انسانية متجذرة في عمق التجربة، قادر على اثارة اهتمام المتلقي لا سيما أولئك القادمين من الغرب الذين يعانون حاجة الى المضامين الوجدانية في اطار التفاعل مع المعطى التشكيلي، بعد أن قادته مرحلة الحداثة وما بعدها في الغرب الى تجريبية تحاذي الفراغ.