«دار الهجرة» مشروع ثقافي في قلب الصراعات السياسية

حصاد 200 سنة من التدفق البشري على فرنسا

«دار الهجرة» تحكي لضيوفها مغامرات الترحال المضني
TT

حقائب خشبية، أجهزة راديو، لعب، أغراض شخصية قديمة، لوحات فنية، وثائق تاريخية أرشيف مصور، هو بعض مما يحتويه المتحف الفرنسي الجديد، الذي أريد له أن يكون شهادة حية على حصاد 200 سنة من الهجرة الأجنبية إلى فرنسا. المتحف الذي بات يعرف باسم «دار الهجرة» لم يمر بصمت، فقد ترافق بناؤه بصخب سياسي كبير، وتميز افتتاحه بنقاش لا يستهان به، وتحول المبنى الذي يحتضن هذا المشروع إلى مكان تلجأ للاعتصام والتظاهر أمامه الجمعيات والهيئات التي تطالب بحقوق المهاجرين، وتبحث عن شاهد حي على فعاليتهم في بناء فرنسا الحديثة.

«دار الهجرة» مشروع ثقافي أقيم في القصر القديم لمتحف الفنون الأفريقية، في الدائرة الثانية عشرة من باريس. المكان أريد له أن يكون فضاء جديداً يحفظ ويُمجد ذاكرة المهاجرين. وهو أيضاً نصب تقديري لكل أولئك الرجال والنساء الذين ساهموا بعطاءاتهم الثقافية في بناء صرح المجتمع الفرنسي المعاصر. والغرض «تغيير النظرة المعاصرة إلى المهاجر»، كما تشيد به مقولة منقوشة على أحد جدران المتحف.

المشروع الذي افتتح بداية شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، هو في الواقع فكرة جديدة قديمة تعود بداياتها لثمانينات القرن الماضي، حين عرض المستشار البلدي والعضو في حزب الخضر، زهير قددوش، ابن المهاجر الجزائري، مدعوما بمجموعة من المؤرخين الفكرة على السياسيين. ورغم أن المشروع كان واضح المعالم، قوي الحجة إلا أنه اصطدم برفض الإليزيه الذي كان حكامه الاشتراكيون آنذاك، يراقبون بتخوف صعود اليمين المتطرف ويعتبرون أن مثل هكذا مشروع قد يعطي أعضاء الحزب العنصري فرصة ذهبية، لتسجيل أهداف سياسية جديدة. الانطلاقة الفعلية للمشروع جاءت بقرار من الرئيس جاك شيراك الذي أراد بعد فوزه ضد زعيم اليمين المتطرف جان ماري لوبان في انتخابات الرئاسة لسنة 2002 «سياسة جديدة لدمج المهاجرين»، تبدأ بإنجاز معْلم ثقافي على شرفهم يكون بمثابة اعتراف الأمة بمساهمة هؤلاء الأجانب في صنع أمجاد فرنسا الثقافية والتاريخية.

تمتد مجموعات المتحف على مساحة 1100 متر مكعب. وهي عبارة عن نماذج من صور، ولوحات، وأغراض شخصية، وقصاصات صحف وكتب تروي القصص الشخصية لرجال ونساء أتوا إلى فرنسا قادمين من البرتغال، واسبانيا، وإيطاليا، والمغرب العربي، وأفريقيا، وشرق آسيا وتركيا، بحثاً عن أرض جديدة يطيب لهم فيها المقام، وتهنأ فيها النفس بلقمة عيش كريمة.

المعروضات منظمة حسب ثلاث محاور رئيسية: الوثائق (الرسوم الكاريكاتورية، الصور الشخصية، والأشرطة السمعية البصرية) الأشياء (أغراض شخصية لمهاجرين من الخاصة والعامة تبرعوا بها للمتحف مرفقة بشهادتهم الشخصية) والتحف الفنية للفنانين الذين جعلوا من الهجرة والمهاجرين إشكاليتهم المركزية. المعرض الدائم للمتحف والمسمى «معالم» repères يأتي بمثابة استعراض متميز لقصة الهجرة في فرنسا، عبر تسلسلها الزمني، من خلال ثلاثة مضامين رئيسية: الرحيل، العيش في فرنسا والتعددية. تتناول كلها مراحل اندماج موجات المهاجرين المختلفة في المجتمع الفرنسي، بشكل مشوق جديد بفضل إضفاء أبعاد تاريخية سوسيولوجية وفنية على العرض. وإن كانت فكرة تقديم المضامين، تبدو أحياناً فولكورية تفتقد نوعا ما للعمق الذي يتطلبه تناول مثل هكذا إشكالية، وخاصة فيما يخص الهجرة المغاربية التي جسدت ـ لا نعلم لماذا ـ بصور لسيارات من نوع «بيجو» ممتلئة بالمهاجرين وأغراضهم، بحقائب محلات «تاتي» الرخيصة أو الهوائيات اللاقطة، وكأن ذلك هو كل ما يميز هذه الموجة من المهاجرين. إلا أن المعروضات لا تخلو من جوانب ترفيهية، تجعل الزائر لا يكل من التعرف على المحيط الخاص بالمهاجر والتفاعل مع القصص الشخصية لأبطال مجهولين، باعتبارهم عينة ممثلة عن هذه الفئة من المجتمع الفرنسي. فهو تارة يتعرف على شخصية «فاتنة»، العروس التونسية التي تأتي إلى فرنسا للالتحاق بزوجها المهاجر ويشاهد أغراضها وصورها الشخصية. ثم يتعرف الزائر على قصة المهاجر الهندي ناداراجان الذي رحل من بلدته الصغيرة في الهند للعمل في ورش السباكة بفرنسا، ويكتشف في مكان آخر حكاية معاناة نساء ورجال من إسبانيا قدموا إلى فرنسا هرباً من الحرب الأهلية.

المتحف خصص مساحة كبيرة لتمجيد مشاهير المهاجرين من الفنانين والرياضيين من خلال استعراض مشوار حياة بعضهم، كشخصية ماري كلودوفسكا المهاجرة البولونية التي تزوجت بيار كوري، لتصبح في ما بعد ماري كوري عالمة الكيمياء الحائزة جائزة نوبل مرتين، وقصة حياة المغني اليهودي أنريكو ماسياس ورحيله عن موطنه الأصلي الجزائر في بداية الستينات، أو قصة حياة مصمم «الباليه» الشهير رودلف حميدوف نورييف، أو نجم كرة القدم الجزائري الأصل زين الدين زيدان.

الجانب الفني من المتحف يحوي أعمال فنانين معاصرين أمثال برتليمي توغو"" حيث خُصِصت مساحة لعرضه الخاص بحياة المهاجرين داخل ملاجئ الإيواء بعنوان «التراجع للوراء»، الفنان حميد دبارة يتناول نفس الموضوع في 54 صورة فوتوغرافية، أما قادر عطية، فيستعرض فيلمين وثائقيين وصوراً لعمله الفني حول حياة عائلة فرقتها الهجرة 16 سنة. هذا ويتم العمل كي يفتح الصرح الثقافي الجديد الذي يتربع على مساحة إجمالية تقدر بـ 16000 قدم مكعب أبوابه لتنظيم محاضرات ولقاءات فكرية مختلفة، وعرض أفلام، بالإضافة لمكتبة، وقاعة حفلات وورشة للشباب والجمعيات الخيرية.

خصت وسائل الإعلام الفرنسية حدث افتتاح «دار الهجرة» بتغطية كثيفة حركها كل ذلك الجدل الذي صاحب عملية تدشينها. وكان اهتمام الصحافة بهذا الجانب يفوق اهتمامها بالحدث نفسه كقيمة فنية ورمزية جديدة. فقد تناقلت هذه الأخيرة حيثيات افتتاح «دار الهجرة»، متسائلة عن سبب غياب الرسميين عن هذه التظاهرة، وكان معظمهم قد حضر المناسبات الثقافية الأخرى كافتتاح «مدينة المعمار والهندسة» و«متحف كي برنلي».

الجو العام الذي رافق ظهور المشروع إلى الوجود كان مشحونا بالنقاشات السياسية التي صنعت الحدث في فرنسا وملأت صفحات الجرائد، وكلها تدور حول موضوع سياسية فرنسا الجديدة، في مجال تنظيم الهجرة، واتجاهها الحالي نحو المزيد من الحزم والصرامة في التعامل مع المهاجرين. هذه المؤشرات التي بدت جلية من خلال الإجراءات والقوانين التي ظهرت للوجود بعد تشكيل الحكومة الجديدة كمشروع «اختبار الجينات» الذي اقترحه وزير الهجرة والهوية الوطنية الجديد، بريس أورتوفو، ومنع استقبال المهاجرين غير الشرعيين في ملاجئ الإيواء والتي أثارت استهجان جهات مختلفة، رأت فيها تراجعاً للجمهورية الفرنسية عن مبادئها وقيمها المبنية على الأخوة والمساواة.

غياب سركوزي كان ملحوظاً، ولكن أشد منه وطأةً غياب وزير هجرته بريس أورتوفو على اعتبار أن وزارته هي المعنية الأولى مع وزارة الثقافة بهذا المشروع. مولود أونيت، رئيس الحركة ضد العنصرية ومن أجل الصداقة بين الشعوب MRAP، رأى في غياب أعضاء الحكومة عن هذه المناسبة: «إرادة واضحة بعدم الاعتراف بعطاءات الهجرة في التراث الفرنسي»، كما وصف خيار الحكومة في عدم حضور هذه التظاهرة بمثابة «ضمان جديد يُمنح لليمين المتطرف والذي يبدو كانتصار لهم على الهجرة في فرنسا».

أما المؤرخ واختصاصي شؤون الهجرة المعروف، بتريك ويل، الذي كان من بين المشرفين على المشروع، ثم استقال احتجاجا على إنشاء وزارة الهجرة وربط تسميتها بالهوية الوطنية، فقد وصف غياب رئيس الجمهورية بـ«الأمر المُكدِّر، خاصة أن هذا المشروع الثقافي يخُص ما بين 20 و25 في المائة من سكان فرنسا»، مضيفاً أن الحكومة «غابت لأنها تُحس بالحرج لأن محتوى المتحف يرتكز على حقائق واقعة فعلا، بينما خطابها هي مبني على أفكار جاهزة». المشروع الثقافي التاريخي الذي وجد نفسه في قلب الحدث، أصبح بمثابة مسرح للصراعات التي تعرفها مختلف الجهات للتنديد بسياسة الحكومة الجديدة في مجال الهجرة. فقد كان أول ردود فعل جمعيات حقوق الإنسان للاحتجاج على إنشاء وزارة للهجرة والهوية الوطنية لأول مرة في تاريخ فرنسا، كان اجتماعها أمام مبنى «دار الهجرة»، وكذلك فعلت الجمعيات المدنية التي تجمعت أمام مبنى المتحف للتعبير عن رفضها لما تسميه «اللبس الذي تثيره الحكومة في الأذهان حين تربط الخطر على الهوية الوطنية بالمهاجرين». كما كان نفس الحدث قد تسبب في استقالة ثمانية من المؤرخين واختصاصيي الهجرة الذين أشرفوا على مشروع «دار الهجرة»، معتبرين أن سياسة الحكومة الجديدة تتنافى مع مبدأ هذا المشروع الذي يهدف إلى تحسين صورة المهاجر في المجتمع الفرنسي. المعارضة السياسية كانت أكثر من حاول استمالة النقاش في هذه القضية لتوجيه ضربات لليمين الحاكم وتسجيل انتصارات جديدة، وكان رموزها ممن حضروا افتتاح المشروع أمثال، برتران دولنوي عمدة باريس، وفرانسوا هولند الأمين العام للحزب الإشتراكي، قد انتقدوا بشدة غياب أعضاء الحكومة. فتحدث فرنسوا هولند عن «الفرصة الضائعة لليمين»، مضيفاً «كان من الواجب علينا الالتفاف حول هذه المؤسسة الجديدة، كنوع من التقدير لما هو عليه وضع فرنسا الآن. استعراض تاريخ الهجرة يعني بالنسبة لنا تقوية العقد الوطني، وكان من الممكن أن يكون الحدث جميلا لو حضره أكبر مسؤولي الدولة». وتساءل كريستوفر جيرار، نائب اليسار والمكلف الشؤون الثقافية: «كيف يمكن أن يكون لدينا رشيدة داتي وفضيلة عمارة في الحكومة، ولا نكون في حفل تدشين مثل هكذا مشروع؟». وهو ما جعل آن إيلدغوا، مساعدة عمدة باريس، ابنة المهاجرين الإسبانيين، تستنتج هي الأخرى أن «حضور البعض في هذه المناسبة له معنى وغياب آخرين له معنى أيضاً». حادثة غياب الرسميين من الحكومة عن افتتاح أول متحف يمجد ذاكرة المهاجرين جعل السياسيين والمثقفين يتفقون اليوم على أن المهاجر الذي كان يُؤتى به بالأمس، من قريته البعيدة للعمل في ورش البناء وتنظيف الشوارع للنهوض باقتصاد فرنسا، أصبح اليوم بمثابة الفزاعة التي يُلوح بها السياسيون بمناسبة الاستحقاقات. والأذرع التي كانت مفتوحة له بالأمس، أصبحت اليوم حواجز حديدية لدرجة أصبح فيها مجرد الاعتراف بعطاءاته في الميراث الثقافي والتاريخي الفرنسي محط جدل كبير.