محاولة لتفكيك ثقافة الخوف من الأسئلة

التطرف جاء أيضاً من مناطق أخرى غير التعصب الديني

TT

من خلال أكثر من ثلاثين مدخلاً، هي عناوين فقرات هذا الكتاب، يسلط المؤلف الضوء على جانب أساسي في ثقافتنا السائدة، أي شيوع التطرف وتبرير ممارسة العنف بالصيغة العدمية المعروفة، التي لا تؤدي إلى أضرار مادية فقط، بل أيضاً تلك الأضرار الثقافية التي تصيب بعدواها الرأي العام والأجيال المقبلة، ما خلق بالتراكم ما يسميه المؤلف «الانسداد التاريخي» كنتيجة لشيوع ثقافة الخوف من طرح الأسئلة الضرورية والبحث في الخلفيات التراثية لهذه الحالة.

أهمية كتاب هاشم صالح لا تكمن في جرأة طروحاته فقط، بل أيضاً فيما يتيحه من إمكانية للحوار، أي للقبول أو الاعتراض، أو في الأسئلة الكثيرة التي يثيرها حول أوضاع الثقافة العربية، خصوصاً وفي الدول الإسلامية عموماً، مركزاً على مسائل مهمة عديدة، منها أن «مشكلتنا نحن العرب، وهنا يكمن الفرق الأساسي بيننا وبين الأوربيين، هي أننا نعتقد بأن كبت المشكلة، أو خنقها أو تأجيلها يعني حلها أو تجاوزها! كل المنهجية العلمية والخبرة التاريخية والحديثة تدل على عكس ذلك. ومع هذا فنحن مصرّون على المنهجية القديمة، منهجية الكبت والقمع والردع. هل هناك من أب يستشير أبناءه في مشكلة تخص وجودهم؟.. هل هناك حاكم يقبل أن يستشير شعبه في مشكلة مهمة قد يتوقف عليها دماره أو بقاؤه؟ حتى مسائل الحرب والسلم لا يُستشار بها الشعب! وهكذا يستطيع حاكم واحد مستبد أن يغامر بكل شعبه من دون أن يرف له جفن! ثم يصفق له المفكرون العرب (العظام) ويقولون: ها قد فتح لنا التاريخ من أوسع أبوابه، هذا هو الطريق، هذا هو الحل! مأساة هي حالة الفكر العربي المعاصر، ومصيبة كبرى حقاً» ص24.

في العديد من فقرات الكتاب، يقارن المؤلف بين جرأة المفكرين الغربيين الذين استطاعوا تفكيك المقولات اللاهوتية الكنسية التي هيمنت على الدولة والمجتمع لقرون طويلة مظلمة، وما نتج عنها من تناحرات دموية رهيبة رافقت العداء الطائفي بين الفرق المسيحية، إذ أدى ذلك النقد الذي تبنته ودفعت ثمنه غالياً، أجيال متتالية من المفكرين، إلى إنقاذ الديانة المسيحية والمتدينين من العداوات الطائفية، ومن جهة أخرى إنقاذ الدولة والمجتمع من عوائق التطور العلمي والثقافي، حيث أدى ذلك لاحقاً إلى النهضة الحضارية والحقوقية التي تتمتع بها المجتمعات الغربية الآن، مقارناً ذلك بالأوضاع المضطربة التي نعيشها جراء تراجع المفاهيم الحقوقية وحرية التعبير وبالتالي تراجع إمكانية نفوذ النقد البناء للقراءات المتطرفة للنصوص الدينية، ما ألحق الضرر بالجميع دون أن يستفيد أحد !!

يَعتبر هاشم صالح كارثة 11 أيلول (سبتمبر) مفصلاً ثقافياً أساسياً لا بد من التوقف عنده ملياً، ليس انتهازا لفرصة، بل إدراكاً للضرورة، ضرورة النقد المعرفي الذي لا يُلحق الضرر إلا بعوامل التخلف والتراجع وهذا ما أثبتته التجربة الثقافية عند مختلف المجتمعات التي أدركت بأن وقوع كوارث من هذا النوع لا بد أن يتحول إلى محطة للمراجعات الجادة. يقول المؤلف (11 سبتمبر حصل لكي يكشف عن الأزمة العميقة التي كان يعانيها العالم الإسلامي منذ عدة قرون، لقد حصل لكي يكشف عن الانسداد التاريخي. لا ريب في أن الكثير من المفكرين والشعراء والكتّاب كانوا قد انتبهوا إلى هذه الأزمة وتحدثوا عنها سابقاً، لكن العالم كله لم يُدرك هولها وخطورتها إلا بعد حصول الضربة، وإحدى النتائج الأساسية التي سوف تترتب على ذلك، هي ان القراءة التاريخية النقدية للتراث الإسلامي سوف تفرض نفسها علينا شئنا أم أبينا، فالقراءة الأصولية العمياء التي أدت إلى الضربة، والتي جعلتنا نصدم بالعالم الحديث كله سوف تفقد صدقيتها تدريجياً وسوف تسقط يقينيات كانت راسخة رسوخ الجبال! وفي كل الأحوال فإن نقدها أو تفكيكها بعد 11 سبتمبر أصبح أسهل بكثير مما كان عليه الحال قبله، فالتنويريون العرب أو الإيرانيون أو الأتراك أو الباكستانيون.. الخ، ما عادوا معزولين ومحاصرين، وإنما أصبحت الكرة الأرضية بأسرها تستمع إليهم وتتمنى ظهورهم، وذلك لأن ضحايا الأصولية الراديكالية ما عادوا جزائريين أو مصريين أو سوريين أو إيرانيين فحسب، بل أصبحوا أمريكان وفرنسيين وأسبانيين وروس أيضا..) ص77. وضمن هذا السياق يؤكد المؤلف على أهمية دور الفكر العربي في مواجهة نفسه وتحمل مسؤوليته إزاء ما يحدث محلياً وعالمياً. وهاشم صالح إذ يدرك أهمية الإصلاح، يقول (ان الاصلاح ينبغي أن يحصل تدريجياً لأن الشعب ليس مؤهلاً للانتقال دفعة واحدة من عقلية القرون الوسطى إلى عقلية العصور الحديثة. ومن ثم فإذا كان الغرب نفسه قد أخذ الوقت الكافي للقيام باصلاحاته، فلماذا يريد أن يفرض علينا الاصلاح بين ليلة وضحاها؟ هذا مستحيل، بل خطر من الناحية الإنسانية والنفسية لأنه يزلزل العقلية الجماعية. ولذلك نقول نعم للاصلاح ولكن على مراحل وبهدوء) ص37. وبالرغم من جرأة وغنى طروحات الكتاب، خصوصاً الفقرة المهمة المعنونة (رحيل آخر الكبار: بول ريكور بين الدين والفلسفة) 187، والفقرة اللاحقة المتممة لها، وأيضاً تلك الفقرات التي تناقش وتدحض المقولة الزائفة التي روجتها بعض الجهات في الغرب والتي تدعي بأن (الإسلام دين مضاد للعقل)، حيث استشهد المؤلف بمقولات العديد من المفكرين الغربيين أنفسهم الذين يدحضون هذه المقولة بالشواهد التاريخية المعروفة، فإن الاعتراض الرئيسي هو حول تعويل المؤلف وتركيزه على إمكانية الفكر وحده، أي القراءة النقدية المعرفية للتراث، على تغيير الواقع! وهو يركز على ذلك في العديد من فقرات الكتاب.

في المقدمة يقول صالح: «ولأنني اشتغل في القطاع الثقافي وأعرفه أكثر من غيره، فإني سأقصر حديثي عليه، أترك للآخرين مهمة التحدث عن القطاع الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي» ص26 والسؤال: كيف يمكن فهم ظواهر خطيرة كاستشراء العنف والتطرف بعيداً عن الخلفيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟! نجد مبرراً للتساؤل لأن تفكيك المقولات والمفاهيم المتطرفة لا يمكن أن يكون مجدياً أصلاً إلا إذا اقترن ذلك بتفكيك البنى التحتية التي تدعم وتحمي تلك المقولات، أي أن المطلوب هو التأسيس لنسق حضاري جديد يتلاءم مع معطيات الحياة المعاصرة، بدءاً بالثقافة الحقوقية للدولة مروراً بمناهج التعليم وليس انتهاء بالتصنيع وتحديث أدوات وأساليب الزراعة، أي بخلق الظروف القادرة على ايجاد طبقة وسطى تجد مصلحتها ومصلحة المجتمع في كل ما من شأنه أن يؤدي إلى المحافظة على الأمن الاجتماعي بجانب حرية العمل والتفكير، باعتبار ذلك هو أساس استقطاب العقول والكفاءات لاستمرار وتطوير المشاريع الحضارية وسوق العمل ومستوى المعيشة، أي تضييق الهوة بين الفقراء والأغنياء، وهذا يعني العمل على زيادة عدد المواطنين الذين يمكن أن ينتموا للطبقة الوسطى ليشاركوا في عملية الإنتاج ويساهموا في تطوير اقتصاديات البلد المعني، ما يوفر للنظام السياسي قدرات أكبر على تحقيق السيادة والاستقلال. والمقصود هنا ليس الاستقلال التام، لأنه لا توجد دولة لا تتأثر قراراتها بالتجاذبات الدولية، المقصود هو ألا تصبح دولنا العربية سهلة الكسر، وتجربة (عراق صدام) أخطر دليل على ذلك، فالدولة تصبح قوية ليس بأجهزتها فقط، بل بطبقتها الوسطى واقتصاديتها، أي بزيادة عدد الفئات المستفيدة من الأنظمة الاقتصادية والحقوقية في البلد، حيث تتحول الدولة إلى هوية للمجتمع وحامية لأمنه ومصالحه، ومن هنا تأتي الوحدة الوطنية الحقيقية التي تصبح صمام أمان للمجتمع وللنظام السياسي معاً. هذه العملية التاريخية هي التي ستؤدي إلى عزلة ثقافة التطرف وفقدانها أهميتها، وتُنتج فكراً ومفكرين أحراراً، ومجتمعاً مؤهلاً لاستقبال أفكارهم استناداً للضرورة ولمصالح مادية ملموسة. ان المسألة ليست معقدة كثيراً إذا ما اتبعنا المناهج العلمية لصناعة الدولة المعاصرة والمجتمع المعاصر رغم أنها تأخذ وقتاً طويلاً نسبياً. وايضاً، ليس من الصحيح اعتبار ظواهر التطرف الديني والطائفي هي وحدها المسؤولة عما نحن فيه من أزمات وتراجع! فالبطالة وأزمة السكن والأمية وأحزمة البؤس حول المدن الكبرى وضعف الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان.. الخ. هي أزمات واقعية، لكن ليس التطرف الديني هو من يقف وراءها، وربما كان التطرف نتيجة من نتائجها. ولنفرض جدلاً أننا لا نعاني من التطرف الديني، أو أننا نجحنا في إيجاد حل له، فهل هذا يعني أن حياتنا ستكون خالية من الأزمات؟!

طبعاً لا. لكن أهمية الفكر والمعالجات المعرفية الحديثة تكمن أساساً في عدم إعطاء فرصة للمتطرفين بأن يُقنعوا المزيد من الفئات المتضررة بأن التطرف والعنف هو البديل، في حين أن بديلهم المظلم هذا لا يُزيد الأمور إلا تعقيداً وتراجعاً نحو العدمية. ان من الضروري أن نفرق بين أهمية وضرورة المواجهات الفكرية المستمرة لثقافة العنف والتطرف الدينية وغير الدينية، أي تفكيك خلفياتها والبرهنة على كونها تنتمي لعصور الظلام، وأيضاً كونها نتاج ثقافة مأزومة عاجزة عن استقبال الآخر المختلف والتواصل معه، وبين ضرورة خلق وقائع سياسية واقتصادية قادرة على أن تسحب البساط من تحت أقدام المتطرفين، لأن المجتمع المأزوم سياسياً واقتصادياً لا يمكنه عموماً استقبال الأفكار التحررية ناهيك عن إنتاجها.

إن التطرف جاء أيضاً من مناطق أخرى غير التعصب الديني، ومن أخطر ظواهر التطرف في حياتنا العربية ظاهرة (دولة الأجهزة) التي اعتمدتها أنظمة الانقلابات العسكرية وحكومات الحزب الواحد أكثر من سواها، فهي كانت مَفرخة للمتطرفين وحاضنة لأفكار التطرف والعدمية السياسية، فدولة الأجهزة تعتقد أن المجتمع هو مجموعة أفراد أو فئات يمكن السيطرة عليها وترويضها، ثم توجيهها الوجهة التي تريد! في حين أثبتت الوقائع التاريخية عدم صحة هذه (النظرية) عندنا وعند سوانا، وإلا كيف نفسر استمرار الثورات والتمردات التي اقترنت بوجود المجتمعات الإنسانية منذ أقدم العصور؟! والتي لم تجد حلاً إلا من خلال دولة القانون، أي النظم السياسية التي تضع مسافة بين المجتمع الرسمي (مجتمع الدولة) وبين المجتمع المدني، حيث أصبحت الأجهزة حارسة للقانون الذي يساوي بين المواطنين، ولتلك المسافة الحقوقية بين الدولة والمواطن.

إن واحدة من مهمات الفكر التنويري تكمن في محاولة إنقاذ المتطرفين من تطرفهم، أي إعادتهم إلى جادة الصواب، وذلك بأن نقدم لهم أفكاراً ذات مصداقية، وقد أوضح واستفاض هاشم صالح في نقطة أساسية بهذا الشأن، وهي أن الثقافة الحقوقية الحديثة لا تبعد الإنسان عن دينه، بل تحمي حقه هذا حماية قانونية تامة، وتضمن له حرية التعبير وكذلك حقه بأن يكسب الآخرين إلى جانب قناعاته، لكن القانون ذاته لا يسمح لأحد أن يجبر أحداً على فرض رأيه بالإكراه، وهذا هو منطق الإسلام عينه، فانتشار الإسلام في اندونيسيا مثلاً، لم يأت بالإكراه ولا بالجيوش. لكن المؤلف في فقرات عديدة من الكتاب، يقدم لنا التجربة الأوربية في التخلص من العنف والتطرف وإشاعة ثقافة التنوير، من طرف واحد، أي نسي الطرف الثاني، وهو أن الغرب تخلص من العنف داخلياً لكن رحَّله إلى الخارج من خلال التنافس على مناطق الهيمنة أو ما سمي بالاستعمار، وكنا نحن ضمن الشعوب الضحية لهذا التنافس الدولي، خاصة وأن المتطرفين يعتمدون في تبرير تطرفهم على مقولة (الغرب الاستعماري الكافر) كذريعة لتكفير كل من له علاقة بالغرب، وهذه ذريعة زائفة طبعاً، لأن العلاقات الدولية قضية موضوعية لا بد منها، لكن هذا لا يلغي بأن الاستعمار الغربي فرض على العديد من الشعوب هيمنته بالعنف العسكري، أو العنف الاقتصادي أي الهيمنة على مقدرات الشعوب الاقتصادية، لكن ما لا يُدركه المتطرفون هو أن محاولة تقويض الدول العربية من داخلها هي خدمة مباشرة لما يسمونه (الغرب الاستعماري الكافر) ولسياسة الهيمنة التي يتبعها من خلال إضعاف الآخرين، لأن جهودهم وأعمالهم العدمية تدل على شعورهم المسبق بفشل مشروعهم. إننا نقاوم التطرف والمتطرفين لأنهم سبب من أسباب ضعفنا وتراجعنا التاريخي، ولأنهم يعطون صورة مشوهة عن الإسلام الحقيقي وتاريخه الحافل بمحطات التنوير لا سيما في بغداد العباسية والأندلس الأموية، نعم كان هناك تنوير وكان هناك صراع حقيقي من أجل التنوير، كان هناك من دافع ودفع الثمن غالياً، من أجل قراءة متنورة للنصوص الدينية ولظواهر الحياة عموماً.

هناك ملاحظة أيضاً، هي ان عنوان الكتاب (الانسداد التاريخي) يثير إشكالية أخرى، لأن التاريخ غير قابل للانسداد بمعنى التوقف، فالتاريخ لا ينسد ولا يتوقف، بل هو في حركة دائبة، لكن حركته ليست إلى الأمام بالضرورة، فهو اما أن يتقدم أو يتراجع. وعليه يمكن القول ان تاريخنا لا يعاني انسداداً بل تراجعاً. ليس فقط تراجع دور الحضارة العربية التي ازدهرت في العصور الوسطى واستمرت بالتراجع بعد سقوط بغداد ثم الأندلس، بل أيضاً تراجعنا الراهن، والمقصود هنا أننا كدول ومجتمعات عربية نمتلك طاقات كبيرة وكبيرة جداً مقارنة بما نحققه من انجازات بسيطة، إننا لا نجيد استثمار إمكانياتنا وطاقاتنا المادية والعلمية بالطريقة المطلوبة، بل غالباً ما نهدرها بطريقة مثيرة للاستغراب! رافضين الرأي الآخر المختلف، وهذه احدى علامات المأزق الحضاري. إنه تراجع خطير بحد ذاته. والسبب هو هيمنة النسق القديم، أي مجموعة المفاهيم ونظم العمل ونوعية التعليم التي لم تعد تتلاءم مع الحياة الحديثة، حيث الشعوب المتحضرة تتقدم بوتائر سريعة بينما نحن ما زلنا في حالة تراجع، خائفين من حقائق الحياة الجديدة وأسرار تقدمها! وعليه فقد كان عنوان (التراجع التاريخي) أكثر دقة وأقرب لتوصيف الواقع العربي.

إن أية ملاحظات أخرى لا تقلل من أهمية كتاب هاشم صالح، فهو من أكثر الكتب، التي صدرت خلال السنوات الأخيرة، حيوية وإثارة للنقاش.