محيطات الحيرة الروحية

قراءة هولدرلن الألماني لسوفوكليس اليوناني بالانجليزية

TT

فوزي كريم عاش الشاعر الدرامي اليوناني سوفوكليس تسعين سنة (406 ـ 496 ق.م)، عبر فيها الخط الفاصل بين صعود وانهيار الامبراطورية الأثينية. لم يغادر أثينا في حياته، كتب أكثر من مائة عمل درامي لم تصل إلينا منها إلا سبعة وبقايا مقاطع. أقرب أعماله إلى ذاكرة الإنسان الحديث هو «الملك أوديب»، بسبب انتباهة فرويد في علم النفس، إلا أن شعره يعبر التاريخ مثل سحابة ممطرة تنتفع بها كل أرض. ما من شعر يرعد الفرائص كالشعر اليوناني، في قسطه الملحمي (الألياذة والاوديسة) أو الدرامي لدى التراجيديين (اسخيلوس، يوروبيديس، سوفوكليس). وهذا الأخير، وضع الخطوط البيانية لصراع الكائن الانساني مع الاقدار. وأرفع توترات هذه الخطوط تجدها في «الملك اوديب»، أو في الثلاثية كلها التي تحيط بمأساة تحقق النبوءة، ومصير أبنائه، وموته، لكن الموقف التراجيدي لدى سوفوكليس ذو سمة عميقة النبل. الإنسان فيه سيد قدره، لأنه في تحديه واستجابته له إنما يحقق قانوناً لقدر الإنسان عظيم الانسجام والهارموني. انه لا يمنح ملاذا مما يحدث إلا ملاذ المعاناة، والموت مقبول بعقل هادئ وصلابة لا رعدة فيها. وفي رؤياه على الجملة لا تجد أهواء بل قداسة قانون كوني «قانون الصفاء والمهابة، الذي لا يقوده إلى النوم نسيان». انه انتخب القانون بدل الحرية التي أحبها شاعر درامي سابق له، هو اسخيلوس في إحدى أناشيد الكورس يقول: «ما دامت هذه السيادة للقانون ما من شيء ضخم يقتحم حياة الإنسان الزائل دون لعنة». والضخامة هنا، التي تنطوي على معنى اللامحدود واللانهائي لدى اليونانيين، تنطوي على دلالة شريرة. وتبعاً لذلك، لا يرى سوفوكليس الجمال في اللون والضوء والظل وأي منحى للمحسنات، قدر ما يراه في البنية في الخطوط والنسب.

في قصيدته الدرامية تأسرك هذه الاستجابة الشجاعة النبيلة لحكم القدر، الذي لا مفر منه، بل إن اوديب يبدو، على امتداد القصيدة، متألباً على النفس في بحثه عن الحقيقة، التي تعني بوضوح خرابه ودماره.

سبق أن قرأت النص في ترجمتين صدرتا عن بنجوين (ترجمة ولتنغ وروبرت فاغلس)، وترجمة قديمة ضمن أعمال سوفوكليس الكاملة مع ما تبقى من شظايا الضائع منها في سلسلة افري مان لايبرري (جورج يونغ) وترجمة اختارتها الموسوعة البريطانية (ديفيد غرين) في سلسلتها «أعظم الكتب»، على أن الترجمات إلى الإنجليزية لهذا النص قد بلغت العشرات، منذ مطلع القرن السادس عشر. ومعظم الشعراء الإنجليز الأكثر جدية لا يكفون عن انتخاب واحدة من هذه القصائد الدرامية، بين حين وآخر، لإعادة ترجمتها شعراً، وبرؤية شخصية، كما حدث مع الشاعر الشاب سايمون آرميتاج وعمل «هيركليس» ليوروبيديس، الذي عرضت له أخيراً على هذه الصفحة.

عن دار Bloodaxe، صدرت هذه الأيام ترجمة شعرية جديدة لهذه القصيدة الدرامية، لا عن نص سوفوكليس اليوناني، بل عن ترجمة شعرية وضعها الشاعر الألماني الكبير فريدريك هولدرلن (1770 ـ 1843) في لغته. هذه الترجمة إلى الإنجليزية قام بها ديفيد كونستانين (من مواليد 1944)، وهو شاعر وكاتب قصة واستاذ في الألمانية ومترجم عنها، وعن لغات اخرى كاليونانية والفرنسية (ترجم لهنري ميشو وجاكوتيه)، لكن ترجمته لشعر هولدرلن اصبحت حقل اختصاصه، تماماً كما ذهب هولدرلن مع سوفوكليس، فالاصدار الجديد يضم «اوديب ملكاً» و«انتيكونا»، وهما النصان اللذان أكملهما هولدرلن عام 1802، وهو على حافة مرضه العقلي، الذي دفع به إلى الجنون.

ترجمة هولدرلن ليست حرفية، وليست تفسيراً شخصياً (كما رأينا في ترجمة آرميتاج لعمل يوروبيديس)، بل هي ترجمة شاعر يعيد نصا في صياغة من لغته هو، لذلك قد يجد الدارسون الكثير من الأخطاء فيها. في قراءة هولدرلن المفرطة الحساسية، كما يقول المترجم: «لا تكمن خطيئة اوديب في قتله لأبيه وزواجه من أمه، بقدر ما تكمن في انتزاعه بصورة بائسة، إلزامية، وممسوسة وإلقائه وسط اضاءة وأشياء مريعة في الرؤية والسماع». صوت جوكاستا، صوت الراعي، وحتى الكورس، يكبحون جميعاً لجام اندفاعته للبحث عن الحقيقة، التي هي معول هدمه وخرابه وحافة الضوء والكلام هذه التي تملأ النفس بالروع هي ذاتها حافة هولدرلن المطلة على هاوية جنونه.

هذه الترجمة الجديدة نحت منحى بلاغياً كلاسيكياً على شيء كثير من العنت اللغوي. لم يتعامل المترجم معها كنص مسرحي فليس هناك من هوامش لوصف المشهد أو ما يحدث، بل هناك قصيدة تتناوب فيها الأصوات. وأحسب أن المترجم هدف إلى ذلك عن قصد، حرصاً على التعامل مع النص كله كقصيدة طويلة من عدة أصوات، والمترجم هنا هو هولدرلن، وهو كونستانتين أيضاً، فكلاهما حفزا اكثر من طاقة شعرية لديهما من اجل استجابة تليق بسوفوكليس، لذلك تبدو الكلاسيكية هنا رفيعة وليست يسيرة على كل يد، فقد تضافرت على بنائها أكثر من موهبة شعرية، ورفعتها كثيراً.

إن قراءة الشعر الدرامي اليوناني في الانجليزية درس بليغ للخبرة الشعرية، تجد اصداءه المباشرة في الشعر الدرامي الشيكسبيري، يعلّم كيف يمكن أن تمس الصورة الحسية بأصابع اليد وبالبشرة، على أنها لا تهدف إلى ما هو حسي في النهاية، بل تذهب بعيداً في بحران الحيرات الروحية. وشعر سوفوكليس بالذات ينضج هاجس التوازن الرفيع في معمار النص، والنزوع الواعي باتجاه القانون الأشمل والأسمى للحياة وللإنسان. وقصيدة «الملك اوديب» بصورة اخص، لأنها لا تُعنى بالتعرية وحدها بل بالمقاومة ايضا، لأن اوديب لم يستسلم للبلاء القدري الذي حل به استسلام اليائس، بل كشف عن كل تفاصيله بإرادة المندفع باتجاه نهايته، كشف عن البلاء وعراه وتصالح معه وتلاشى.

Oedipus.. Holderlin"s Sophocles (Bloodaxe)