أدبيات الفساد العسكري

«بالذخيرة الحية» رواية تخدش صورة الجيش الإسرائيلي

TT

يعتبر رام اورين ظاهرة ملحوظة في دنيا النشر في إسرائيل، كان مراسلاً عسكرياً سابقاً لجريدة «يديعوت احرونوت»، التي تطبع اكبر عدد من النسخ وأصبح رئيس تحرير ملحق المنوعات المصوّر الذي تُصدره. هذا الصحافي الذي أدرك الخامسة والستين، ترجمت أخيرا إلى الفرنسية روايته «بالذخيرة الحية»، التي بقيت تحتل رأس قائمة المبيعات نحو ستة وثلاثين أسبوعاً. وبهذه المناسبة كتب سيلفان سيبل S. CYPEL في ملحق الكتب (لوموند» 27 ابريل/نيسان) عرضا موجزا لهذه الرواية المؤلفة من 522 صفحة، وثمنها 20 دولاراً، هذا نصه: مَن في تل أبيب لا يعرف «القرية»؟ اسم مجموعة من المنازل تقع في قلب المدينة وتضم زبدة الأوساط الأمنية الإسرائيلية: مكاتب وزارة الدفاع ومصالح هيئة الأركان العامة والمخابرات. وبوسع هذه «القرية» أن تتباهى بأنها أعطت إسرائيل لجيلين عدة رؤساء وزارات، من اسحق رابين إلى شيمعون بيريس وايهود باراك وارييل شارون، كما أعطتها اثنين من رؤسائها، هرتزوج وفايسمان، ونحو خمسين وزيراً، ورهطاً متنوعاً من الدبلوماسيين وكبار الموظفين ومديري الشركات. فالمؤسسة العسكرية الإسرائيلية لا تكتفي بـ«تصدير» أكثرية النخب السياسية والاقتصادية، لكنها تشكل أيضاً قاعدة المجتمع الوحيدة ربما، التي تعطي التماسك «لقبائله» المتعددة.

في قدس الأقداس هذا، حيث تقيم المؤسسة الأمنية تدور أحداث «بالذخيرة الحية»، رواية أورين البوليسية الإسرائيلية المعاصرة جدا، وتختلط فيها الجرائم بالمطامع على خلفية من تجارة الأسلحة والرشوة.

أجاد المؤلف بشكل ملحوظ استيعاب القواعد الأساسية للتسويق الأدبي. فالكتابة رشيقة ونشطة، والتحكم بالحبكة يتم بشكل جيد، لكن هناك نصيحة تُساق إلى القارئ، بألا يبحث كثيراً عن عمق نفسي للشخصيات: فالأبطال أنقياء يتحلون بالصلابة، وهي الصورة الشعبية التبسيطية الشائعة عن «الصابرا» (من الإسرائيليين المولودين في فلسطين بعد احتلالها)، القساة المظهر، الليّني المخبر. وتمتلئ الرواية بالجنرالات «المهنويين» الذين لا همّ لهم إلا حرفتهم والتملق والتزلّف، وبالسياسيين عديمي الكفاءة أو المتلاعبين بالخيوط، وبتجار الأسلحة عديمي الذمة.

يوجد الجوهري من الرواية في مكان آخر، وهو الأمر الذي صنع نجاحها الاستثنائي. إنه في وصف الجيش: «هذه الآلة البيروقراطية الضخمة الواقعة على بعد سنوات ضوئية من صورتها الأسطورية»، كما يقول المؤلف بلسان احدى شخصيات الرواية.

أما رئيس الأركان فإنه يقول في مجالسه الخاصة، جيش الدفاع، حيث يتمتع أبناء الأوساط العليا بامتيازات بلا وجه حق، لكي لا يؤدوا خدمتهم العسكرية في لبنان أو في الأراضي الفلسطينية، وحيث تسهر الرقابة على التقليل من الخسائر التي تسببها وسائل الإعلام. هذه الرقابة التي ننسى غالباً أنها لم تُلغ في يوم من الأيام، وحيث تعرف هيئة التفتيش العامة ـ عندما تريد ـ كيف تدفن الملفات المزعجة. أما الجدول الذي يضم أسماء الضباط الذين أفلتوا من التحقيق بفضل تدخل قياداتهم، فهو طويل جداً.

في حين يقول جنرال آخر لبطلة الرواية نووا الساذجة هذه الكلمات التي تجعلها مبهوتة: يُبنى الجيش لهدف واحد ووحيد، ربح الحرب، وإذا جرى في الطريق الالتفاف على القانون أو الأخلاق.. فهذا غير مهم.

يتمكن القارئ اليقظ وهو يقلّب صفحات الرواية، من التعرف على الجنرال الفلاني «المرتشي»، الذي كان الشاغل الوحيد لوسائل الإعلام أخيراً، وعلى الجنرال الآخر الذي أثرى من لعب دور الوسيط في قضية «إيران جيت»، كما سيفهم هذا القارئ النوادر المتنوعة التي لطّخت سمعة «العصمة» التي أحاطت بالجيش الإسرائيلي.

تحمل بطلة الرواية نووا الساذجة، رتبة نقيب، هي التي كانت تحلم دائما بجيش: «تهيمن عليه مبادئ الاستقامة والعدالة والنزاهة والمساواة». إنها ساذجة ونقية، قادمة بخط مستقيم من اسطورة «نقاء السلاح» الإسرائيلي، لكن عملها في إحدى القواعد السرية أقل نقاء، وينحصر في تدريب رجال الإغارات «كوماندو» على ممارسة إرهاب الدولة، لكنها لا تجد في عملها هذا مادة للتناقض مع نفسها.

يغيب الفلسطينيون نهائياً عن كتاب يتركز كله على الجيش الإسرائيلي، وهذا ليس من قبيل المصادفة، فالمؤلف يعرف أنه بالمستطاع العيش يومياً في الدوائر الأمنية العليا في تل أبيب من دون «أن نتجابه أبداً مع هؤلاء الجيران»، «الآخر» بالمفهوم المجرد والمربك المزعج في الوقت نفسه.

في مشهد ختامي يُقدّم عاشق نووا الشاب هذا التفسير لمعشوقته: «الجيش ليس شيئاً آخر غير ما علّمونا دائماً: إنه انعكاس صورة هذا الشعب».

* ترجمها عن الفرنسية الدكتور ثائر معيطة