يوم كنت فتى في ذلك «الطاق» الغريب

عام 2000 زار الكاتب حارته في بغداد القديمة ليشاهد الدرب الذي افتتح به رواية «الرجع البعيد»

TT

فؤاد التكرلي محلة «باب الشيخ»، على جهة من شارع الكيلاني أمام جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني تماما وبجوار «الديوخانة» يقوم نفق لا يتجاوز طوله الأمتار العشرة رطيب ومظلم، يندس بين بيوت آل الكيلاني كنا نسميه الطاق.. «الطاك»، ولم يكن، في الحقيقة، غير درب غُطي جزء منه، من أجل المرور من دار الى أخرى بدون النزول والسير في الطريق العام.

دخل «الطاك» حياتي كلغز غير قابل للحل، حين كنت أمر خلاله قاصدا مدرسة باب الشيخ للبنين في أول سنة دراسية لي. كنت أبذل جهدي كي اسرع في خطوي ما أمكن مانعا نفسي من الركض أو الهرولة. كان لغزا بسبب وجوده الشاذ وظلمته وبسبب الشائعات الكثيرة التي كانت تدور حوله. فالحاج شاكر، ذلك المجرم محترف القتل، نصب كمينا لأحدهم في جوف الطاك وأطلق عليه النار فأرداه قتيلا فبدأت ملاحقة الشرطة له.

كان يشهر مسدسيه الطويلين راكضا، وهو يرمي بالرصاص كل من يتصدى له، مثل ذلك المجنون الماليزي في قصة «آموك» لزفايك، وكان مساعده كاظم يتابعه في الجري ويحمل له خراطيش الرصاص، يناوله ما يحتاج من طلقات حين يفرغ أحد مسدسيه.

قيل إن طفلا في الخامسة من عمره كان واقفا في مفترق طرق، فلما مر الحاج شاكر مهرولا في هياجة الحيواني ومضى الى جهة ما، أشار الطفل اليه في محاولة لارشاد الشرطة الى الطريق الذي سلكه فرآه الحاج شاكر فرماه بطلقة من مسدسه أصابت الطفل في فمه وقتلته في الحال.

ألقي القبض على الحاج شاكر بعد ان شبع من قتل الناس ونفد رصاصه، فأحيل الى محكمة الجزاء الكبرى فحكمت عليه بالاعدام شنقا، ونفذ فيه الحكم علنا في ساحة قريبة من الطاك.

حدث هذا في أواخر سنوات الثلاثين وكنا ـ صبية المحلة المراهقون ـ غالبا ما يمتلكنا الضجر رغم ان الخيال لا يعوزنا. فكنا حين تتعبا لعبة «التنس» التي تشبه لعبة البيزبول الاميركية نلجأ الى ألعاب «الدعبل» أو نسعى للدخول في «مكاسرة» مع الأرمن الاثوريين كما كنا ندعوهم أو نجتاز شارع غازي ـ بدل اسمه الى شارع الكفاح ـ لنجرب تطبيق معركة حربية على الطبيعة تدور بين حفر الاساسات وركام الطابوق لبناية لم يكمل انشاؤها، أو، أخيرا، نتوزع الى قسمين في لعبة «حرامية جرخجية» ـ لصوص وحراس ـ التي كانت تستهلك طاقتنا البدنية بالكامل. غير ان هاجسنا العميق الذي أولعنا به كان اعتقادنا بوجوب وجود عصابة غريمة لنا في مكان ما قريب أو حولنا، تراقبنا وتتحين الفرص لتهاجمنا وتقضي علينا واحداً بعد الآخر. لم يكن لدينا أي دليل يؤيد هذا الهاجس، لكن القراءات القصصية والخيال وحب المغامرة، كانت تقتضي وجود أمور كهذه. أما حين لا توجد.. فما العمل؟

طرح هذا السؤال نفسه علينا، أنا وصديقي محمد طارق ذات يوم صيفي حار من أيام بغداد، ونحن جالسان باسترخاء تحت الطاك. اقترح أحدنا ان نعمل على بث الحياة في الفكرة الوهمية وان نحققها على أرض الواقع بطريقة ما.

وهكذا قررنا، بين الجد والهزل، ان نبعث برسالة تهديد الى اصدقائنا الآخرين في المحلة على لسان عصابة غامضة ننذرهم فيها بالويل والثبور ان لم يستسلموا.

أمسكنا بصبي نعرفه يلقب بـ «جدو» لضعف بنيته واستكانته، فطلبنا منه، سرا، ان يدعي بأن عصابة عدوة لنا طلبت منه تحت وطأة التهديد، ان ينقل الينا رسالة التهديد هذه، وسلمناه رسالة كتبناها أنا ومحمد طارق بكل عناية.

قام «جدو» بالمهمة على أحسن وجه وأوصل رسالة التهديد الى الجماعة بحضورنا، فسيطر الخوف والانفعال والتوجس على الجميع حالا، وتظاهرنا، أنا ومحمد طارق، بالاهتمام المبالغ فيه وبوجوب التصرف بحذر وكما يجب. بدأت الافكار والاقتراحات، العملية والخيالية، تنهال من كل جانب. واحد عرض علينا ان نقوم بهجوم كاسح ومباشر على أوكار العصابة والآخر نصح بالانسحاب الى بيوتنا حتى تمضي العاصفة، اما الثالث فقد أشار علينا باخبار الشرطة قبل ان تقع الكارثة.

كنا تسعة مراهقين، كما أتذكر، منتشرين على جهات من «الطاك» ذي الجو الرطب وشعور بالخطر يخيم علينا، حين عن لصديقي محمد طارق ان يقوم، خفية، بحركة استفزازية غير متوقعة، فيتناول حجرا ويرميه، دون ان يراه أحد غيري، الى مدخل «الطاك» صارخا في الوقت نفسه ومحذرا من هجوم مباغت.

سيطر فزع كبير على الاخوة الاصدقاء، فتقافزوا مرتعبين من لا شيء وتراكضوا بسرعة جنونية هاربين، ونحن، أنا ومحمد طارق، نحاول ان نلحق بهم فلا نستطيع، فقد شلنا الضحك وكدنا نقع على الأرض.

كانت لعبة من نوع خاص، يتدخل فيها الخيال والتمثيل وما تبعثه خلفيات «الطاك» من رعب في النفوس وهي، في رأيي، أفضل من مسرحية تعرض على الركح ويعلم الجميع، ممثلين ومتفرجين، انها تمثيل في تمثيل، لا علاقة له بالحقيقة أو الواقع.

لم يكن الاخوة الاصدقاء يمثلون حين امسكوا بدشاديشهم واسرعوا بالفرار، إلا انهم كانوا هاربين من لا شيء، هاربين من وهم غير مسرحي، ويبدو ان هذا التناقض هو الذي أضحكنا انا وصديقي محمد طارق.

هذا التناقض بين الفعل وبين اسبابه، غير موجود على المسرح، وأعني بذلك خوفا حقيقيا لا تمثيل فيه، ولكن لا سبب له ايضا.

في المسرح، كل شيء مصنوع، أما في لعبتنا هذه، فقد كان فيها جانب مهم وصادق جدا.. هو رعب اصدقائنا وهروبهم، وفي اعتقادي، ان المسرح لو احتوى على بعض العناصر من هذا الصدق التلقائي لأمكن له ان يكون مسرحاً جديداً.

لم تستمر لعبتنا طويلا، فقد تمرد «جدو» علينا أو لعله سئم من لعب دوره ذاك، فأخبر الاخوة الاصدقاء بحقيقة الأمر وانتهت القضية بعتاب مرير وسخرية ونسيان.

حدث ذلك، كما قلت، في نهاية الثلاثينات من هذا القرن، وكانت «باب الشيخ» آنذاك ما تزال محتفظة بشكلها وطابعها التقليدي الجميل الذي بقيت أخفي صورته في قلبي.

أما في سنة 2000، حينما زرت بغدادي ومحلتي القديمة فقد واجهني تناقض من نوع خاص بين الصورة المشرقة التي تسكن اعماقي عن «باب الشيخ» وبين الخرائب المقطعة الأوصال التي آلت اليها هذه المحلة.

لقد سوي بالأرض ذلك الدرب الذي لا اسم له والذي افتتحت به رواية «الرجع البعيد» وكذلك دارنا العتيقة العزيزة ودار السيد مصطفى النجار ذات السدرة الوارفة، وانقطع شارع الكيلاني في منتصفه قبل ان يصل نهايته في «راس الجول»، واحتلت الشوارع العريضة محلة «الخلاني» والأزقة المحيطة بجامع الشيخ عبد القادر الكيلاني الى مسافات كبيرة، إلا ذلك «الطاك» المظلم المسكون بالحكايات الغامضة والاشباح، فقد بقي ثابتا في مكانه ينشد بخفوت لحن زمنه الذي مضى. تطلعت اليه من بعيد. بدا لي فوهة سوداء لا معنى لها، ولعله لم يكن ذا معنى من الأساس، بدون ذكرياتنا وهواجسنا وألعابنا الطفولية.

لم أرد ان أعاود الدخول الى تلك المساحة المسحورة من الأرض. عرفت أني لن أجد هناك شيئا ذا دلالة، حتى الحيطان والتراب والسقف المنحني، أضاعت صورتها الماضية، ربما، وتلاشى معناها في نفسي وحتى الحاج شاكر، الذي مر من هنا وهو في أقصى حالات الهياج البشري وعلى الحافة القصوى من الحياة، لم يستطع ان يثبت حضوره الانساني المتوحش ذاك، ولم يترك شيئا وراءه.. لا شيء على الاطلاق.