فرجة تلفزيونية قيدها سكون الإبداع البصري

أسامة أنور عكاشة في عمل جديد فشل المخرج في استغلال إمكاناته الدرامية

TT

منذ بداية رحلة المؤلف اسامة أنور عكاشة وافتتاح رحلته الابداعية مع الدراما وهو يطرح فكره ورؤيته دوما، انطلاقا من منظور ثنائية «القهر ـ الوعي» التي تناولها عبر العديد من التنويعات الدرامية من خلال الوسيط التلفزيوني والسينمائي. أما الآن فهو يطرح نفس الثنائية العميقة التي تشغله عبر وسيط العرض المسرحي «الناس اللي في التالت» الذي قدم على خشبة المسرح القومي بالقاهرة من اخراج محمد عمر. ولا يعنينا هنا منطق ثبات تلك الثنائية الدرامية، بل يعنينا تتبع ملامح التجديد في هذه المعالجة المسرحية على كل المستويات.

أما الطرف الاول من الثنائية الدرامية فيتمثل من خلال عائلة مصرية، توارثت اجيالها طواحين آليات القمع المختلفة بالتراكم وباختلاف الحقب السياسية الساخنة التي مرت بمصر منذ ما قبل ثورة يوليو (تموز) مرورا بالانفتاح وإلى الآن، وتنتظم هذه الثنائية شبكة من العلاقات الدرامية الفاعلة التي تحمل رؤية نقدية قاسية للمجتمع، ويحمل كل افراد العائلة في تركيبة شخصياتهم الدرامية مساحات شديدة الحيرة والتخبط، بين حقوقهم البديهية كمواطنين غير مدانين بحب الوطن واحتياجاتهم السلطوية القمعية التي تجبرهم على الحياد عن الطريق المسالم من دون قصد متعمد، اللهم الا كرد فعل تجاه السلبية المفروضة عليهم. اما الجيل الاول تاريخيا في هذا النسق الهرمي الدرامي فتحتل قاعدته الأم (سميحة أيوب)، الاستعارة الرمزية للوطن والحائرة في مواقف ابنائها التي تتنافى تماما مع القيم التي حاولت غرسها فيهم، ثم يتحول الكشف الى صدمة حقيقية عندما يقتحم منزلهم المتواضع فجأة فرقة من عسس السلطة بزعامة الرائد (رياض الخولي) ومساعده النقيب (ياسر علي ماهر)، بدعوى تأمين موكب زعيم دولة اخرى سيمر مصادفة من نفس الشارع الذي يسكنونه، وقد وظف العرض هذه المواجهة بتحويلها لمناظرة كشفية مرآوية تنبش الماضي وتستثير الحاضر وتستطلع المستقبل وتحيل للحظة الوعي والاستنارة داخل كل شخصية، مما يحقق بالتبعية الطرف الآخر من الثنائية الدرامية المطروحة. ومن خلال المواجهات المستمرة نجد الجانب الموازي لجيل الأم أي الجار مهيب (رشوان توفيق)، الذي اغتالوا وطنيته في الماضي فاستسلم لركن منزو واعتزل الحياة متفرغا لرعاية زوجة صديقه الشهيد وأسرتها. اما الجيل التالي فيمثله سعيد (عبد العزيز مخيون) الثائر القديم الذي انحنى امام الحاجة الاقتصادية والاحلام البدائية، فارتضى الزواج من زميلته في العمل منال (رباب ممتاز) رغم علمه بعلاقتها بالمدير. اما شقيقه الأصغر المهندس وحيد (فاروق الفيشاوي) فلم يحقق احلامه في بلاد الخليج كما توهم، فلجأ الى النصب وقبل التجنيد لحساب منظمة ارهابية. وتتبقى الشقيقة الرقيقة رباب (عفاف حمدي) التي تنتظر زميلها في العمل الفقير ليتزوجا من دون امل لضيق ذات اليد، بالاضافة للشقيق الاصغر هاني (سيد شفيق) المقعد ممثل قمة الهرم الدرامي واحدث جيل تجرع اخطاء كل من سبقوه ولا حيلة له سوى الفرجة والغناء الحزين. وفي الطريق نصادف وسيلة (نرمين كمال) التي نكتشف انها شقيقة كل هؤلاء الاشقاء من الأب، ولا يعلم ذلك سوى مهاب والأم التي لم تشف طوال هذه السنوات من غيرة المرأة.

اذن فنحن امام بنية هزيمة تحاصر الجميع جبرا واختيارا، وبدلا من أن يتكاتف الجميع للعبور من المآزق المتراكمة تفرغوا لإلقاء المسؤولية على بعضهم البعض والنزاع على الشقة أو الوطن العليل، ليثبتوا أنهم بحق من خيرة سكان عقليات العالم الثالث المتبلدة، وإذا كانت هذه البنية السياسية تحمل بذورا درامية ثرية، الا ان هناك عددا من العناصر اعاقت تواصل تطور الصراع الدرامي بالقدر الكافي، وأول هذه العناصر هو عدم قوة نقطة الانطلاق الدرامية، حيث بدا موقف مرور الزعيم كمبرر لدخول ممثلي السلطة البيت وتعاقب كل الاحداث ذريعة واهنة كانت تحتاج الى الكثير من الصقل والاهتمام، كما خفتت سخونة الصراعات المطروحة كثيرا بالتدريج، بفضل هذا الكم الهائل من المترادفات اللفظية التي ازدحم بها العرض الذي زاد على الساعات الثلاث، مما أوقعنا في دائرة التكرار وترهل الايقاع والشعور بالملل احيانا.

وقد استمال البناء الذي يعتمد المباشرة وطبيعة الصراعات بعض الممثلين لاتباع منهج المبالغة وتضخيم الأداء خاصة في المونولوجات وما اكثرها في هذا العرض، حتى ينتهي الموقف بهبوط الممثل على ركبتيه في نهاية حماسية ساخنة لمشهد متأزم وينتزع تصفيق المتلقي المتأثر بهزيمته المؤكدة، وهو ما يذكرنا بعصر الافتعال التراجيدي والميلودرامي الذي اشتهرت به فرقة يوسف وهبي وفرقة جورج ابيض وغيرهما من الفرق ابنة عصرها. ورغم ذلك فقد افلت بعض الممثلين من هذا المنهج المتقادم بفعل الزمن واختلاف العصور وتطور الفكر الدرامي على مستوى العالم اجمع، وساروا على درب الأداء الهادئ السلس، خاصة الفنانين عفاف حمدي وسيد شفيق ونجم العرض الاول دراميا وتمثيليا رياض الخولي والصادق دائما رشوان توفيق، رغم انه واحد من اكبر الفنانين طبقا للمرحلة العمرية.

ورغم هذا الحشد من الفنانين الذي يصعب جمعه في مسرح القطاع العام بميزانياته المكافحة، فإن المخرج محمد عمر لم يستغل بذور الكلمة الدرامية المقدمة أو امكانات خشبة المسرح القومي بأصالتها وارتفاعها وعمقها من دون سبب واضح رغم انها فرصة جيدة لإثبات قدرته، فلم نجد تصميما ابداعيا يتفاعل مع الفراغ المسرحي المحيط وكسر جمود الحركة المصممة وقولبتها المحفوظة، اللهم استثناءات عابرة، وقد سار الجمود الابداعي لطريق ابعد عندما ظللنا طوال العرض امام سينوغرافيا صامتة لا حراك فيها، حيث ثبت مصمم الديكور «فادي فوكيه» حجرة صالة عادية تماما بمحتوياتها التقليدية طوال العرض من دون ان نلحظ أي ملمح ابداعي حتى على المستوى التشكيلي الجمالي البحت غير المرتبط بالدراما المقدمة. وعلى نفس النهج سار مصمم الاضاءة، عاصم البدوي، من حيث اللون والتصميم على خط مستقيم بدايته صورة طبق الاصل من نهايته، فذهب عنصر الاضاءة في ثبات عميق طوال الوقت رغم كثرة المواقف البلاغية الخطابية الرنانة. وفي النهاية تحولت المساحة البصرية لإنارة مستمرة انقطعت أواصر الاستقبال الايجابي بينها وبيننا بعد دقائق قليلة من بداية العرض، والنتيجة انقلاب الأمر من فرضية فرجة مسرحية حية لفرجة تلفزيونية صماء باهتة تنتحل قناع الوسيط المسرحي بكل مقوماته التي لم نعثر لها على اثر، ولا يفصلها عن الدراما داخل جهاز التلفزيون الا عدم وجود شاشة الحاجز الزجاجي التي لن يحدث وجودها أي خلل ملموس.

=