اللعب الإعلامي على الجهاز العصبي للجماهير

تعريفات كثيرة للرأي العام لم يتفق على أحدها المختصون

TT

وصف سقراط الخطابة ـ الإعلام في زمنه ـ بأنها صاحبة الأمر، فقد كان كل شيء في أيدي الشعب، وكان الشعب في أيدي الخطباء. ما تمارسه وسائل الإعلام هو تغيير شروط ممارسة حريات التفكير، كما تساهم في تحديد المسألة السياسية وحركيتها وتكوين وتغيير الرأي العام وتوجيه فعله وتأثيره، فمن ذلك تنبع خطورة التعددية الإعلامية الآيديولوجية في الوطن الواحد إذا كان مفككاً إلى مجتمعات متصارعة تفتقر إلى الولاء الوطني، لأنها تفرز مجموعة آراء عامة تعبّر عن عصبيات متعددة لكل منها مفاهيم خاصة وتأثيرات متمايزة.

يطرح الدكتور علي عوّاد مسألة الإعلام والرأي، وكيفية تأثير الإعلام في سلوك الجمهور وأخلاقياته، فيرى أن الجمهور في البلاد النامية صدى للتأثيرات الخارجية، وهو يعكسها بتغييرات مستمرّة في الآراء والسلوك. فعوامل التحريض والدفع والإغراء والإرغام ملحّة وحاسمة لدرجة أن مصلحة الأفراد ضمن هذا الجمهور تنتفي وتزول. فمن خلال مراقبة معمقة لما يجري داخل أية مظاهرة أو انتفاضة أو ثورة أو أي مظهر جماهيري آخر ذي طابع عنفي، يمكن الملاحظة بوضوح أن السلوكية المتبعة ليست متعمَّدة أو مهيأة من قبل أغلبية أفراد الجمهور المشارك. ولكن، يتم إثارة العنف بتحريض نفساني وفيزيائي يستتبع استدعاء لا إرادياً لسلوكية محددة يريدها المحرِّض ويخطط لها: سلوكية فجائية جارفة يغيب عنها التوازن والتعقل لدرجة انتفاء المصلحة العامة للجمهور والفائدة الشخصية للفرد.  

يستغل المحرضون هذا النزق الجماهيري باستخدام الإشاعات والأكاذيب ووجهات النظر الملتوية وفق البيئة التي يتأثر بها الجمهور، ويعملون على ترويج الأسباب والغايات التي تثير في الجمهور غرائزه بحقنه بجرعات مناسبة حتّى ينفجر غاضباً فيصبح مطواعاً في أيدي المحرِّضين.

هل يحمل الجمهور في ثناياه عوامل التحطيم الذاتي، ويهوى الانتحار طوعاً؟ أم أن تفاعل العوامل الداخلية والخارجية تجعل من الشعوب أداة صالحة وطيِّعة للاستعمال وفق إرادات الآخرين؟ وكيف يتم ذلك؟.

يتحرك الجمهور ويسيّر غالباً بدافع المشاعر الدفينة، فأفعاله وسلوكياته إبّان الأزمات تكون تحت تأثير جهازه العصبي أكثر من كونها خاضعة للعقل. فالفرد يعمل وينفعل غالباً تبعاً للإيحاءات والتأثيرات التي تمارس عليه. وهذه التأثيرات، خاصة السياسية منها، تمارس بتخطيط مدبّر ومرسوم وبتقنية علمية. لكن الفرد يعتقد أنها تمارس عليه صدفة، ويقنع نفسه بتبريرات ذاتية مختلفة.

الفرد في لجّة الجمهور يصاب بتحوّل يدفعه لا إرادياً إلى السلبية في محاولة الهروب من المسؤولية وإلقاء تبعتها على الزعيم. فعناصر الشحن التي تمارس عليه وينساق وراءها تتستّر بدوافع نبيلة وبطولية. هذه العناصر تصبح عند انعدام التوجيه والمناعة قوية ومسيطرة وجارفة، وهذا هو التهور الجماهيري الجماعي. هذه العناصر قادرة على الإيحاء ومتغيّرة تبعاً للظروف السياسية والعسكرية. وكما التأثيرات تتغير بسرعة كذلك الحركية تصبح مستمرة وسريعة، فالجمهور قد ينتقل بسرعة من التمظهر النبيل والبطولي إلى آخر شرس ومتوحش، يمكنه أن يكون بسهولة فظّاً وجلاداً، ويكون بسهولة أيضاً الشهيد والضحية.

تتميز مشاعر الجمهور السيئة أو الحسنة، السلبية أو الإيجابية، المسالمة أو العنفية بميزتين: التبسيط المبالغ به، والتطرف المبالغ به. يكون هذا التبسيط أو التطرف، انعكاساً لما يريده المخطِّط أو المحرِّض من مناخ الاستغلال لمشاعر الولاء التي يكنها الفرد لجماعته التي ينتمي إليها. فعندما تعمد الجماهير إلى المبالغة، فإنَّها تحاول حماية نفسها من الشك. فالشك يتحوّل عند الجماهير إلى تأكيد غير قابل للنقاش. ويتحول ما يمكن أن يكون نقاشاً إلى مشاعر عنفية دموية مبالغ فيها عند الجماهير المتنافرة. ويلعب عنصر انتفاء المسؤولية دوراً هامّاً في المبالغة، فالإفلات من القصاص يكون مؤكداً لدى أفراد الجمهور، فيصبح واثقاً من سلطته، ويتحرر الفرد من إحساسه بالعجز وعدم كفايته وأهليته، ويمتلك قوة خشنة قاسية وأحياناً متوحشة، جبّارة بفعل امتلاكها المشروعية بنظر الجمهور المشارك المعبأ والمحتقن.

يعمد صانعو الدعايات والخطباء والزعماء إلى استحضار الفكرة التي تسحر جمهورهم وتهيج مخيلته، وتنسجم مع تموجات عواطفه، وتزيد من الدفع والإثارة. فالخطيب السياسي يرتبط نجاحه بمدى قدرته على معرفة اختيار الجمل والتعابير التي تستحضر التصورات والتخيلات المحرِّكة للمشاعر الدفينة، وليس بالحجج المنطقية التي تتوجّه للعقل لا للعواطف.

ويرى المؤلف أن على صانع الدعاية عندما يريد دفع سلوكية جمهور معين أو شحنها أو تغييرها أن يطّلع جيداً على عمق الإحساس الجماهيري وكيفية إثارته، وما هي الصيغ والأفكار المؤدية إلى ذلك، وأن يقنع الجمهور بأن هذه الأحاسيس مشتركة، وأن يعمد إلى ايجاد مناخ عام وصور إيحائية جديدة تتآلف مع أفكار الجمهور الأولية المخزونة، وذلك بالمعرفة التامة لحاجاته عند كل مرحلة من مراحل الدفع والتغيير. وكذلك أن يتأكد جيداً وفي كل لحظة من المشاعر التي تمّ بثّها في عمق هذا الجمهور، والتي يمكن خلقها في المرحلة الآتية وما يتبعها.

بالتالي، إن ضرورة تغيير لغة ردّات الفعل تستوجب متابعة الوميض السلوكي الناتج في لحظة مخاطبته والعمل عليه للانطلاق إلى الخطوة التالية. وهذا يتقدّم في الأهمية والأولوية على كل خطّة دعائية. فرجل الدعاية الذي يسير وفق تعرجات تفكيره المسكوب في خطته فقط دون متابعة تعرجات سلوكية الجمهور وتحولاته الشعورية، يخسر التأثير المتوخّى.

ما هو الرأي العام الذي يعمل رجل الإعلام على استقطابه؟ هل هو فهم معين للمصالح العامّة الأساسية الذي يتكوّن عند كل أعضاء الجماعة؟ أم هو حاصل ضرب الآراء الفردية في بعضها وليس حاصل جمعها؟ أم هو الحكم الاجتماعي لجماعة ذات وعي ذاتي لموضوع ذي أهمية عامة؟ هناك الكثير من التعريفات للرأي العام لم يتفق على أحدها المختصون وهذا عائد إلى التباين في وجهات النظر حول المدى الذي تبلغه الجماهير المشاركة في مجال العمل السياسي. لكن من المؤكد أن وجود ظاهرة الرأي العام يعتبر مظهراً مباشراً لوجود المجتمع، أما غيابها فهو تغييب أو تدجين أو سحق له.

لقد أثبت علماء الإعلام أن الرأي العام يتفاعل بالتأثيرات التالية: نوعية الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد، نوع الثقافة التي تلقاها، تأثير وسائل الاتصال والتواصل، تأثير الدين والتقاليد، أهمية المدرسة والبيت، أهمية التجارب الإنسانية التي اعترضت الفرد أو المجتمع الذي ينتمي إليه، والظروف التي يعيشها ويفكّر فيها للمستقبل.

يحتل الرأي العام ليحتل المرتبة الأساسية في نشوء الضوابط الأخلاقية لما يمتلكه هذا الرأي من احتواء للقوة صانعة الحق، والعادات حاكمة المجتمع، والعقل ضابط الغرائز. وعندما يفقد الرأي العام قوة الامتلاك هذه، يبدأ انهيار المنظومة العامة للقيم الاجتماعية وبالتالي انهيار المجتمع وتفكك النظام العام.

الرأي العام هو رأي الجمهور أو الجماعة بشقيها: المؤيدين والمعارضين، وليس هو الرأي الإجماعي كما يتوهم البعض. فعندما ترفض المعارضة الرأي العام النهائي فإن الجماعة تكون منقسمة على نفسها. أما إذا قبلت المعارضة رأي الأكثرية، فذلك هو الرأي العام الحقيقي والطبيعي، وتلك هي الديمقراطية.

أما بالنسبة إلى الإعلام، فإنه، كما يقول المؤلف، والرأي العام وجهان مختلفان لعملة واحدة.

إن العناصر الأساسية الثلاثة المهمة لظاهرة الاتصال هي: الإعلام، المجتمع، والجمهور. هذه العناصر غير مستقرّة، فكل عنصر يتبادل التأثير مع الآخر. فوسائل الإعلام لا تعمل في الفراغ بل في مجتمعات وتتوجه لجمهور. من الناحية العلمية المثالية الإعلام هو عملية نشر الأخبار بصدق، وتوزيع المعلومات بموضوعية، ومخاطبة الجمهور في مضمون يؤدي إلى بلورة رأيه الأفضل. ووظائف الإعلام تتحدد في: التوجيه، نشوء بنية الاتجاهات، التثقيف وضخ المعلومات، تعزيز العلاقات، الدعاية التجارية والإعلان، التسلية والترفيه.

من الصعب التمييز بين الإعلام والدعاية، لأن التمييز مسألة نسبية، فالإعلام يتلون بألوان الدعاية نتيجة استخدامه للتأثير على الجمهور عن طريق اختيار بعض الأحداث وتجاهل البعض الآخر، وتزييف الأرقام  واتباع أساليب متنوعة في عرض الأخبار المنتقاة.

من أجل كشف الدعاية في الإعلام يجب تحليل المضامين الإعلامية وعرضها على الاختبارات التالية: اختبار المجاهرة، اختبار المطابقة بعرض مضمون المادة الإعلامية مع مضمون مادة يروجها الطرف الآخر، اختبار الاتساق بين الخبر والمناخ، اختبار العرض بكشف العوامل السلبية والإيجابية في الموضوع. اختبار المصدر، اختبار المصدر الخفي، لماذا يتخفّى، وما هي مصداقيته؟ اختبار التمييز بين العبارات والألفاظ والرموز المستعملة، اختبار التشويه. رغم ذلك تبقى الحاجة ماسّة لكشف المضمون الدعائي في المواد الإعلامية التي تنشرها أطراف النزاع، حتى الصديقة منها، لأن ذلك يخضع لإرادة المحللين ومدى خضوعهم لإغراءات أو تأثيرات معينة.