مثقفون أتراك يهددون بالهجرة بسبب هيمنة حزب العدالة والتنمية على السلطة

صاي على خطى باموك .. هل يكون الرحيل حلا؟

فاظل صاي عازف البيانو الأشهر في تركيا يستعد للرحيل
TT

التهديد بحزم الحقائب والهجرة إلى بلد آخر، هو الظاهرة التي تعصف في اوساط بعض اهم الكتاب والمثقفين والفنانين الاتراك هذه الايام. فالتحولات السياسية التي تشهدها تركيا منذ 5 سنوات تقريبا، مع وصول حزب العدالة والتنمية، الذي يرفض ان يصف نفسه بالاسلامي المعتدل الى السلطة، لا بل هيمنته الكاملة على مراكز القرار السياسي في رئاسة الجمهورية والحكومة ومجلس النواب، وإطلاقه نهجا وتفكيرا جديدين في الادارة والحكم، تقلق العديد من المثقفين والكتاب والصحافيين العلمانيين واليساريين المتشددين الذين كتبوا ودخلوا مع المثقفين الاسلاميين في اكثر من مواجهة وموقعة. أما آخر هذه المواجهات فكانت مع عازف البيانو الشهير فاضل صاي، مواجهة أسالت الكثير من الحبر، وفتحت جروحاً غائرة.

كان الكاتب والروائي الكبير اورهان باموك، هو اول المهددين بالمغادرة بسبب ردود الفعل العنيفة التي تعرض لها في ضوء تصريحاته حول الموضوع الارمني، ومواقفه السياسية التي اغضبت الكثير من القوميين المتشددين الاتراك، الذين قالوا انها كانت السبب المباشر لمنحه جائزة نوبل. وها هو اليوم عازف البيانو العالمي، فاضل صاي يجاهر بانزعاجه وقلقه حيال هذه التطورات السياسية والاجتماعية القائمة في تركيا، ملمحا الى افكار تراوده باصطحاب ابنته والتوجه الى بلد آخر غير تركيا يمضي فيه بقية حياته.

دائرة الانفجار كان مركزها التصريحات التي ادلى بها عازف البيانو العالمي هذا، وصاحب اهم المعزوفات الموسيقية، والحائز عشرات الجوائز الدولية في مقابلة مع احدى الصحف الالمانية أخيرا، وعبر اثناءها عن تخوفه مما يجري داخل تركيا لناحية الصعود الاسلامي وتمدده. اعقب مقابلته هذه، على الفور ما نقله عنه الصحافي التركي المعروف طوفان تورنش: «تبخر حلم تركيا التي كنا نريدها.. زوجات الوزراء كلهن محجبات... الاسلاميون فازوا بالاكثرية في الانتخابات، نحن 30 بالمائة وهم 70 بالمائة. دعوا من ارادوا الى احتفالات العيد الوطني في قصر شنقايا الرئاسي، لكنهم نسوني! ألست محقا عندما اقول انني سأغادر؟».

ومع ان الناطق الاعلامي باسم قصر رئاسة الجمهورية، سارع لرفض ما جاء على لسان صاي، بإعلانه ان اسم هذا العازف الكبير كان مدرجا على لائحة المدعوين، وان دعوة ارسلت اليه ولم تعد ادراجها الى سكرتاريا الرئاسة، فافترضت انه تسلمها. كل ذلك لم يمنع التصعيد والانقسامات في اوساط المثقفين والكتاب والاعلاميين الاتراك، الذين استغلوها كعادتهم فرصة لتصفية الحسابات، وصب الزيت على النار، وقول ما عندهم بهذا الشأن.

وزير الثقافة التركي، ارتوغرول غوناي، الذي قال أن لا مبرر لهذا القلق المضخم من قبل العازف صاي، قابله تصعيد في اوساط المعارضة اليسارية واليمينية على السواء: «التراجع على هذا النحو ليس حلا، المطلوب هو البقاء والمواجهة... اذا كان صاي يبدي قلقه على هذا النحو، فعلى الحكومة ان تتعامل مع ما يقوله بجدية كاملة».

دعوات الاعتدال والتروي التي اطلقها الكاتب والمعلق الصحافي الشهير طه اقيول، في جريدة «ميليت»، مذكرا ان صاي قادر على تنفيذ ما يقول، وان عواصم كثيرة جاهزة لاستقباله، «لكن الاهم من كل ذلك هو عدم التنكر لهذه الارض التي نشأ وترعرع فيها، وسهلت له الوصول الى ما هو عليه اليوم». أما مسارعة الكاتب الاسلامي في جريدة «زمان» احمد توران القان الى القول، «نحن ايضا لم ندع الى الاحتفالات، لكننا لا نهدد بترك البلاد»، فقد قابلتها مواقف منتقدة متشددة، عبر عنها القيادي في حزب العدالة والتنمية، مير دنغير فرات، الذي أعلن ان «من لا يرضى بالارض التي كبر فيها ويريد التخلي عنها وتركها فإننا سنحترم قراره، ولن نأسف على مغادرته. وزاد الأمر تصعيدا وتحديا، تصريح مماثل للكاتب الاسلامي، عبد الرحمن ديلي باك، «سنطاردك حيثما تكون ببرامج تدريس القرآن لفتيات صغيرات يرفعن الحجاب فوق رؤوسهن».

الصحافية الليبرالية المعروفة بكتاباتها المسمارية، بريهان معدن، استغلتها فرصة لاعلان دعمها لصاي، وللكشف عن انها هي ايضا تدرس بجدية فكرة المغادرة، والعيش في مكان آخر، بسبب الحالة العامة التي لا تعجبها في البلاد. وسهلت بالتالي دخول الصحافي احمد هاقان على الخط، من خلال محاولته قراءة الحالة النفسية للعازف صاي، طارحا ان ما يزعج العازف صاي ويقلقه ليس الصعود الاسلامي وتمدده في البلاد، بل تقديم هذه الجماعات لنفسها على انها الممثل الحقيقي لارادة الشعب وصوته الوحيد الواجب الاستماع اليه.

الكثير من المقربين الى صاي قالوا مازحين، انه في العام الواحد يقيم اكثر من 140 حفلا بعيدا عن منزله في اسطنبول، الذي لا يمضي فيه اكثر من اسبوع واحد، وان لا حاجة الى كل هذا الضجيج. ومع ذلك، فالايام القليلة المقبلة، هي وحدها التي ستظهر لنا، اذا ما كان صاي الذي حمل الى تركيا سمعة عالمية في الموسيقى والابداع، هو جاد في تهديداته بحزم الحقائب ام انها مجرد «فشة خلق»، وغيمة سوداء ستزول سريعا، بعدما اعلن اكثر من مرة انه رفض جميع العروض والاغراءات المقدمة من قبل العديد من الدول الغربية لمنحه جنسيتها، مشددا تمسكه برؤية الهلال والنجمة على جواز سفره؟

رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان تدخل بدوره، ولو متأخراً، في محاولة لحسم القضية، وإنهاء هذا الضجيج غير المبرر، وإغلاق الملف بإعلانه: ان ثقافتنا التي نتبناها تقود الى اللحمة والتضامن وليس الى التشرذم والتشتت، ومن ولد على هذه الارض لا يمكنه الابتعاد او التخلي عنها بهذه السهولة. فهل تعيد رسالة اردوغان هذه، المياه الى مجاريها وتطمئن الموسيقي الغاضب؟