روحانية فيّاضة .. وعذرية خلبت المبدعين

سحر الشرق العربي لعنة دفع أبناؤه ثمنها باهظاً

نساء الجزائر الوادعات بريشة دي لاكروا
TT

هل بمقدور الفن أن يكون شريراً، ومؤذياً وربما مدمراً أيضاً؟ هذا هو السؤال الذي يتبادر إلى الذهن حين يتأمل واحدنا تلك اللوحات التي رسمها الفنانون الغربيون عن شرقنا العربي، قبل الاستعمار وخلاله وبعده. فإلى أي مدى ساهم هؤلاء بغواية ساستهم بالغزو والتغلغل في أراض صوروها، بكراً، عذراء ومستسلمة حد الغواية بانتهاكها؟ ثم ما كان دور الفنانين المؤرخين الذين واكبوا المعارك في الجزائر للتأريخ للانتصارات الفرنسية هناك؟ أسئلة كثيرة ومحيرة، لا يزيدها حيرة إلا ذاك الشاعر الألماني الكبير ريلكه الذي يحتفل العالم بمرور 82 سنة على وفاته. ذاك الشاعر الذي رأى في تونس أرضاً لأعياد تبدأ ولا تنتهي، ومع ذلك لم يكتب فيها قصيدة واحدة، وإنما رسائل، تستحق أن تقرأ، لشدة ما فيها من انطباعات تجعلنا نتساءل: هل شرقنا هو بالفعل بريء وغامض إلى هذا الحد؟

* فنانون عبّدوا الطريق للاستعمار بلوحاتهم

* في «متحف محمود خليل» وحرمه بالقاهرة، أتيحت لي مشاهدة المجموعة الفنية الثمينة التي أهدتها زوجته الفرنسية، «إيملين هكتور»، للشعب المصري. أهم مقتنيات المتحف لوحة «الحياة والموت» لغوغان التي تقدر قيمتها بخمسة وثمانين مليون دولار. (كان محمد محمود خليل -الذي تولى رئاسة مجلس الشيوخ المصري- قومسيراً عاماً للجناح المصري في المعرض الدولي للفنون الذي أقيم بباريس عام 1937 ثم أصبح عضوا في الأكاديمية الفرنسية للفنون الجميلة عام 1949). لكن أهم ما لفت انتباهي كان لوحة «الأوداليسكا»، إحدى روائع دومنيك أنغرس (توجد النسخة الثانية منها في متحف اللوفر) وأعمال دي لاكروا ويوجين فرومنتان وأوغست رونوار، وكلها تصور العوالم الشرقية التي خلبت لب العديد من أدباء وفناني القرن التاسع عشر وأفسحت الأبواب واسعة لتغلغل الجيوش الاستعمارية لهذه المنطقة من العالم.

كانت «الأوداليسكا» خلاصة خلابة لكل تخيلات وأوهام الأوروبيين عن الشرق، رسمها أنغرس دون أن تطأ أقدامه أرض مصر ولا أرض الجزائر أو المغرب. لقد انساق ملبيا الأذواق الجديدة لمجتمع يسيل لعابه بمجرد تخيله لجميلات لا تنتظرن سوى إغرائه ولأراض لا تنتظر إلا حشوده. انساق دومينيك أنغرس أيضا وراء تأملاته للوحات دي لاكروا، أول فنان عايش سحر الشرق ونقله في أروع صوره، ولأعمال فنانين آخرين مجدت انتصارات الجيش الفرنسي ونادت إلى مواصلة الزحف الاستيطاني على الجزائر.

جل هذه الأعمال الفنية، المستوحاة من أرض الجزائر، كانت تعرض في الصالونات الفنية الباريسية التي شكلت، في القرن الثامن والتاسع عشر، مؤشرات على الصراعات السياسية الدائرة حول فكرة الاكتفاء بمناطق بعينها أو مواصلة الاستيلاء الكامل على أراضي الجزائر.

حين يسخّر الفن للسياسة

عندما وطأت أقدام أوجين دي لاكروا أرض المغرب الأقصى لأول مرة عام 1832، لم يكن يعرف شيئا عن أفريقيا الشمالية. هذه الأرض الواقعة على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، والتي تفصله عنها تلك العصرنة الوليدة والتصنيع الباحث عن موارد وخيرات جديدة. لم يكن يعرف سوى ما رآه في لوحات انطوان جون غرو، تلميذ دافيد، ولوحات جيرودي لمناظر من مصر وفلسطين.

أفريقيا الشمالية كانت معادلا للفكرة التي صنعها مفكرو الغرب عن الشرق: روحية وشاعرية وعذرية. ودي لاكروا- سليل البرجوازية الباريسية ووريث الشؤون الخارجية الفرنسية (أصبح سفيرا فيما بعد، فواليا على مارسيليا ثم مدينة بوردو)، صديق جورج صاند وشوبان وستاندال- الذي، سخر عدة لوحات زيتية لهاملت وشكسبير وفاوست وغوته، كان بحاجة إلى حدث يقلب حياته ومساره الفني رأسا على عقب، فلم يتردد في الالتحاق بالوفد المتوجه إلى المغرب الأقصى قصد استعادة البوارج البحرية الراسية في الموانئ المغربية، والتي استولى عليها الجزائريون.

شكلت هذه الرحلة، على قصرها، منعطفا في حياة دي لاكروا، وبنكا هاما للمعطيات نهل منه سنوات في ما بعد لإبداع أجمل لوحاته، ونهل منه جل معاصريه.

لقد نجح دي لاكروا في التغلغل إلى الأجنحة المخصصة للنساء في الجزائر العاصمة، وانبهر بالمشاهد المعروضة أمامه. يروي موريس سيرولاز في كتابه الصادر عنه عام 1889، أن هذا الأخير بقي مذهولا أمام مرآى زوجة الباي وصديقاتها، فتوقّد فضوله لمعرفة المزيد حول حياة هؤلاء البشر، بثقافتهم المغايرة وعاداتهم الغريبة وحياتهم البسيطة. كانت النساء أشبه ما تكون بنساء عصر هوميروس بالنسبة إليه: تغزلن الصوف أو تطرزن او ترعين أطفالهن، وهالة من الجمال الساحر تحيط بهن.

بعد الانبهار، جاء دور العمل المتواصل وجاءت لوحة» نساء الجزائر داخل شققهن» عام 1834 . لوحة أثارت الإعجاب الشديد للنقاد، شبهها شارل بودلير، الشاعر المشاغب، بقصيدة داخلية مليئة بالصمت، تنبعث من أفرشتها رائحة تتسلل إلى تلافيف الدماغ لتثير في المشاهد حزنا دفينا. كما قال عنها الرسام «رونوار»، في ما بعد، انه: «لا يوجد أجمل منها في العالم».

زيارة دي لاكروا للجزائر الأولى جاءت في زمن اجتياح عساكر فرنسا لها، زمن اكتشاف مناظر وأجواء غير مألوفة، ومنها اللوحات الخلابة التي رسمها. بيد أن عملية الاستيطان لم تكن بالسهولة التي تصورها هو وغيره. سقوط العاصمة الجزائرية عام 1932 لم يكن مرادفا لانهزام البلاد بشرقها وغربها وجنوبها، وذلك ما انعكس في لوحات فنانين انضموا إلى الجيش ورافقوه لتصوير المعارك التي انتصر فيها على القبائل المقاومة لدرجة تحول فيها أحدهم، «هوراس فيرني» إلى أحد المكلفين بالحفاظ على الذاكرة الاستعمارية والعمل على نقلها إلى الأجيال الجديدة (من أشهر لوحاته «سقوط قبيلة عبد القادر/1845). وقد سار على منوال «فيرني» كل من أدريان دوزا وآنج تيسيي. هذا الأخير الذي حرص على عرض لوحاته، التي تمجد انتصارات الجيش الفرنسي وتنادي ـ على طريقتها ـ بمواصلة الزحف الاستيطاني، في الصالونات الباريسية.

الاحتماء بصمت الصحراء

لكن هذا الدور السياسي، الذي لعبه الفنانون التشكيليون الفرنسيون ـ بطريقة واعية أو غير واعية ـ في التمهيد للاستعمار ومرافقة مراحله المتعددة، لم يمنع بعض الفنانين من التأثر بصدق بالسحر المنبعث من تلك الأجواء وبالألوان الساطعة الناجمة عن شمس حارقة. يبدو ذلك جليا في الرسالة التي بعث بها تيودور شاسيريو لأخيه: «لقد شاهدت أشياء بدائية غريبة ورائعة، مؤثرة وفريدة في الآن نفسه. ففي مدينة قسنطينة، المحلقة فوق الصخور، نجد العرق اليهودي والعرق العربي على الحالة التي وجدوا عليها منذ القدم».

تتلمذ تيودور شاسيريو على يدي أنغرس، لكن تأثره بأسلوب دي لاكروا في الرسم ومساره الفريد جعله يحذو حذوه ويتوجه إلى الجزائر عام 1846، حالما بمعانقة ذلك الشرق الذي يلتحم فيه الحلم بعراقة التاريخ.

وعلى منواله سار يوجين فرومنتان عندما اتيحت له فرصة زيارة الجزائر، ذاهبا إلى أبعد من ذلك حين اختار هذا الموضوع مادة وحيدة لأعماله. حدث ذلك عام 1858، وجاءت اللوحات ثرية ثراء المناطق التي زارها وتشبع بها: مشاهد من أزقة المدن الداخلية، حمامات، منازل، حدائق، قدسية الصمت الرازح على قلب الصحراء الشاسعة البعيدة، تلك الصحراء التي كان الرحالة يخشون التوغل فيها: «الصمت هو أبرز جوانب السحر الذي يتحلى به هذا البلد المعزول، الوحيد. إنه يمنح الروح توازنا لا تعرفه أنت الذي طالما عشت مضطربا». (صيف في الصحراء/يوجين فرومنتان).

عند عودته إلى باريس عرض فرومنتان لوحات جد واقعية مستوحاة من «الضفة الأخرى من البحر»، تلك الضفة التي عاد إليها مرتين، والتي أثارت شهية الكثيرين من معاصريه الذين احتموا بها هاربين من قيظ عالمهم المادي الحارق: غوستاف غيومي (الأغواط/الصحراء الجزائرية)، بول لوروا، أرموند بوان، انتهاء بإيتيان دينيه الذي اعتنق الإسلام واستقر في مدينة «بوسعادة» عام 1913، حيث دُفن.

كان دي لاكروا أول فنان تشكيلي عبدّ طريق الغرب إلى الجزائر قبل أن تخضع نهائيا لجيوش الاستعمار الزاحفة، لكن أوغست رونوار سخّر لها أغلب لوحاته وتغلغل في أدغالها يدفعه حب الاكتشاف: «في الجزائر اكتشفت اللون الأبيض. كل ما فيها بياض..» اكتشاف سبقته إليه رغبته الجامحة في رؤية هذا البلد الذي فاجأه لأول مرة في لوحة «نساء الجزائر» لدي لاكروا، ليُصبح ملهمه في ما أبدع من لوحات، «فتاة جزائرية»، «عرس عربي».. لوحات تنبض حياة، ظل يرسمها حتى بعد رحيله عن الجزائر، لتعطي، بعد قرن من ذلك التاريخ، أصدق صورة عن الحياة التي كانت تعترك في ذلك البلد الذي جنى عليه جماله وبراءته أكبر وبال