نسل لم ينقطع رغم الطغيان الشمولي

الليبرالية في العراق حتى نهاية العهد الملكي

الملك فيصل الثاني آخر ملوك العراق (1935ـ 1958)
TT

البحث عن جذور التيارات الفكرية السياسية والتأريخ لها، يستلزم فيما يستلزم، الانطلاق من قراءة أفكار الروّاد الدعاة، الذين وضعوا الأسس ورسموا السبل، وعملوا على بلورة الغايات والأهداف، ونشطوا في إرساء القواعد النظرية والأكاديمية، وتعميم مفاهيم الدولة العصرية بموازاة وتماس مع الواقع عبر فهمه والإفادة من إرثه.

العالم العربي اليوم بات أحوج ما يكون لاستلهام تراثه، ودراسة دور الرواد الأوائل في نشر الوعي والثقافة الحقوقية، خصوصاً في ظل المعاناة المتعاظمة من التشظّي والاحتقان الطائفي والإثني، والفوضى الأمنية، والنقص الفادح في الوعي في هذا الميدان الحيوي.

انطلق المؤلف للتأريخ للتيار الديمقراطي في العراق، من قراءة أفكار حسين جميل أحد أبرز منظري هذا التيار، والمخضرم الذي شارك على مدى ما يقارب القرن من الزمن (1908 ـ 2002) في الحياة السياسية العملية نائباً ووزيراً، ومحامياً ونقيباً للمحامين العراقيين، وأميناً عاماً لاتحاد المحامين العرب. كما شارك في النشاطات الفكرية بمؤلفاته ومذكراته القانونية وأبحاثه ودراساته الفقهية. فأصبح بذلك نموذجاً للحياة المدنية والسياسية والقانونية في العراق. تميز بالاعتدال والوسطية والتسامح في مرحلة كان التطرف والتعصب فيها سمتين تطبعان سلوك الفرقاء السياسيين والمفكرين.

يحاول الكاتب الإجابة عن أسئلة محورية لمقاربة الإشكالية: لماذا تدهور التيار الوسطي في الحركة السياسية في العراق؟ ولماذا تبدد التيار العقلاني؟.

هذه الأسئلة قادت إلى أخرى: هل انقطع نسل الوسطية العراقية؟ أم ثمّة عودة جديدة لهذا التراث؟ وما هي العلاقة بين الليبرالية والوطنية؟ ولماذا حصل في العراق وما يزال يحصل من استبداد، رغم العلاقة الناجحة والوثيقة في البيئة الأولى بين الليبرالية والوطنية.

قد يكون في الإجابة عن هذه الأسئلة، إضاءة لمستقبل العراق. وقد يكون من نتائجها الكشف عن جوانب مهجورة ومرذولة بسبب سيادة الفكر الإطلاقي، والنزعات العسكريتارية، وترييف المدن، وتأثيم وتجريم وتحريم الآخر، ونبذ كل فكر بعيد عن ذاتية القائد وأناه، التي تضخمت بنرجسية على حساب المجتمع، وكذلك غياب الحوار والتعايش والتسامح، مقابل هيمنة الإقصاء والإلغاء والتعصب والعنف.

يرى المؤلف أن الأجيال على مفترق طرق، فالبعض يذهب بعيداً معولاً على العامل الخارجي في إحداث التغيير المطلوب، في حين يحجم البعض الآخر عن الانخراط في دائرة المطالبة بالإصلاح بزعم استفادة القوى الخارجية منها. لذلك على الحقوقيين والمدافعين عن حقوق الإنسان الإمساك بهذه المعادلة بدقة وصرامة، لكي لا يسوغوا الاحتلالات وإملاء الإرادات والاستتباع من جهة، وكي لا يقعوا في فخ الدفاع عن أنظمة التسلط والاستبداد وهدر حقوق الإنسان من جهة أخرى.

يحاول المؤلف تعريف الليبرالية بين الأصل والفرع، والصورة والظل بعد انهيار نظام القطبية الثنائية، وتوغل العولمة، واختلال موازين القوى لصالح النظام العالمي الجديد. ليكشف العلاقة بين الليبرالية الكلاسيكية بمفاهيمها المعروفة، والليبرالية الجديدة التي تحاول فرض مفاهيمها.

نشأت الليبرالية في أوروبا في عصر التنوير، وتنامت إبان الثورة الصناعية (1750 ـ 1850) وتمكنت من إقامة الدولة ـ الأمة، استناداً إلى قاعدة الحريات الفردية والاقتصادية التي تمثلت بمجموعة حقوق أصبحت تقاليد سياسية، وفلسفة سياسية ـ اقتصاديةً، ومنظومة قيمية أخلاقية أساسها الفرد. وتمكنت الليبرالية من تحقيق منجزات تاريخية مهمة، أبرزها امتلاك الفرد لمستقبله بصناعة يومه، لأن القسم الأكبر من الإنسانية لا يملك تاريخاً بالمعنى الحقيقي، لأن الاستبداد حال دون صنعه لتاريخه.

واجهت الليبرالية عوامل كبح حدّ من انتصارها الشامل وذلك من نقيضين: الأول البورجوازية التي استولدت النظام الإقطاعي. والثاني: الطبقة العاملة والفقيرة، والحركات ذات النزعة الاشتراكية. ما اضطر النظام الرأسمالي إلى تعديل بعض مفاهيمه وتكييفها لكي تستجيب للمطالب العمالية. وإن كانت الطبقة العاملة قد عارضت الرأسمالية إلاّ أنها استفادت من الأجواء التي أغنتها الليبرالية، وحققت بعض المطالب على صعيد الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، بتقديم الخدمات في مجالات الصحة والتعليم والضمان والتقاعد وغيرها.

غير أن الليبرالية المحصورة في إطار النظام الرأسمالي، ظلت ملتبسة بشأن قضية العلاقة بين السلطة والثروة. فهي تقوم على أساس الفصل بين مجالين في الحياة الاجتماعية، وهما مجال إدارة الاقتصاد، التي تتركها للمنطق الخاص بتراكم رأس المال ومجال إدارة سلطة الدولة. وهذا الفصل الاعتباطي يفرّغ الإمكانية التحريرية التي تدعيها الليبرالية من أي مضمون. فتقع تحت قيود الرأسمالية في تناقض، حيث تَعِد بأكثر مما تستطيع أن تحقق، وبهذا تخلق آمالاً زائفة.

بعد الحرب العالمية الثانية، وهزيمة الفاشية والنازية، اللتين نشأتا في رحم النظام الليبرالي وشكلتا قطيعة مع التقاليد الليبرالية، نشأت أنظمة «التحرر الوطني» التي كانت امتداداً وعمقاً لقيام منظومة اشتراكية في عدد من بلدان أوروبا الشرقية والصين، وقامت عدد من الدول القومية في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية التي حصلت على الاستقلال، وسعى بعضها إلى سلوك سبيل التطور الليبرالي، لكن بعضها الآخر اختار طريق تطور اجتماعي، حاكى الأنظمة الاشتراكية الشمولية. فتراجعت النخب السياسية الحاكمة في مرحلة ما بعد الاستقلال، وبخاصة في قضية الحريات، واتجهت بعض الدول إلى الانقلابات العسكرية، التي قطعت خط التطور التدريجي لليبرالية، مستبدلة ذلك بأنظمة «ثورية» شمولية، ذات نزعة استبدادية. لذلك انكفأ التطور الليبرالي رغم تشويهاته وانحرافاته، وقامت محله أنظمة عسكرية فردية في الغالب تتحكّم فيها مجموعة صغيرة باسم الزعيم أو القائد الواحد أو الحزب الواحد أو غير ذلك من المسميات.

عمدت الرأسمالية التي دخلت مرحلة جديدة في مواجهة الاشتراكية إلى الحد من الليبرالية المطلقة، وتهذيب قواعد اللعبة من خلال الدور الذي لعبته الدولة في المجال الاقتصادي والاجتماعي. وفي مجال الموازنة بين تقلبات الطلب الكلي وقوى العرض الكلي. فتدخلت في النشاط الاقتصادي وكذلك ازداد الإنفاق الحكومي وتنوعت مجالاته، فأطلق عليها مرحلة «دولة الرفاه». غير أن العالم الرأسمالي تعرّض إلى أزمة اقتصادية حادّة مع نهاية ستينات وبداية سبعينات القرن العشرين، وقد تمثلت هذه الأزمة في تراجع معدلات الربح في قطاعات الإنتاج المادي، وبروز ظاهرة التضخم الركودي، وتدهور الإنتاجية وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي. لكن الليبرالية الاقتصادية الجديدة، تمكنت من تثبيت قواعد النظام الاقتصادي الجديد للرأسمالية باعتماد وصفات جاهزة، تم تعميمها على الدول النامية دونما تمييز، تحت عنوان الإصلاح الاقتصادي، والتثبيت الهيكلي من خلال صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. وهكذا استطاع النظام الرأسمالي مواجهة الأزمة وتجاوزها خلال محورين: إضعاف دور الدولة في النشاط الاقتصادي. وضخ الأموال الفائضة إلى الدول النامية للتخفيف من حدّة التضخم الركودي وإعادة احتواء هذه البلدان بخلق آليات جديدة للسيطرة على أوضاعها الاقتصادية.

مع انتهاء الحرب الباردة، انبعث نموذج جديد لليبرالية كان تعبيراً عن سياسات المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، ارتكز على نظرية «نهاية التاريخ» لفوكوياما، و«صراع الحضارات» لهنتنغتون. فالعالم حسب فوكوياما ينقسم إلى قسمين: عالم التاريخ وعالم ما بعد التاريخ وهو عالم الدول الصناعية المتقدمة. وإذا أراد العالم التاريخي دخول العالم ألما بعد تاريخي، فعليه التخلي عن آيديولوجيته وعقائده، والتسليم الكلي لهذا العالم الجديد.

تعزز تطبيق هذه النظرية في عهد الرئيس بوش الابن، التي ركّزت على ظفر الليبرالية على جميع الصعد باعتبارها الخيار الإنساني الوحيد والشكل الأخير من أشكال إدارة المجتمع البشري. واعتبرت ما حدث في 11/9 تأكيداً لصحة النظرية. التي ترى أن على الولايات المتحدة البقاء على أهبة الاستعداد لأن خلودها إلى الراحة سيولد نوعاً من الفراغ يملؤه الإسلام الذي سيثقل ويعطل النهاية الحتمية للتاريخ. وهذا ما ذهب إليه «هنتنغتون» بنظرية صدام الحضارات، مركزاً على الصدام الثقافي بين الغرب وحضارته المسيحية اليهودية، وبين الإسلام والحضارات والثقافات الأخرى، معتبراً النصر في هذه المعركة أمراً أساسياً لولوج عصر الليبرالية. فالثقافة هي سياج الهوية، وبالتالي تشكّل إحدى الأسس المهمة للمقاومة. والإسلام هو القادر على التعبئة والتحرّك الشامل من المغرب إلى باكستان. فالإسلام وفق هذه النظرية يشكل النقيض للحضارة الغربية، بل إنه يشكل تهديداً لها. وينسى هنتنغتون أن الحركات الإسلامية المتطرفة والمنغلقة، شكلت تهديداً لدولها ومجتمعاتها قبل أن تشكّل تهديداً للغرب.

بهذا المعنى لا تصبح أعمال المقاومة المشروعة رديفاً للإرهاب، بل الإسلام والعرب هما الرديفان.

إزاء ذلك لم تطرح الليبرالية العربية الجديدة القضايا الفلسفية والأخلاقية، بل انحصرت في الجوانب السياسية على نحو محدود، وببعض الجوانب الاقتصادية في نظرة تجزيئية. مع أن الإصلاح أصبح فرض عين، يمكن أن يُبنى على قرار الأمم المتحدة الصادر في 4/12/2000، الذي وافقت عليه جميع الدول العربية والمجتمع الدولي ونص على ما يلي: أولا: لا وجود لنموذج عالمي واحد للديمقراطية. ثانياً: تأكيد التنوع والطبيعة الغنية للشعوب وتجاربها. ثالثاً: اعتماد المشترك الإنساني للتجربة البشرية، فالديمقراطية هي نتاج تفاعل التجربة الإنسانية وليست انعكاساً لحضارة أو لمجتمع دون سواه.

يؤرخ المؤلف للتجربة الليبرالية العراقية باستعادة وتأصيل تجربة امتدت من السومريين إلى نهاية العهد الملكي عام 1958، ويفرد فصلاً من كتابه لكتابات حسين جميل كنموذج لليبراليين العرب، ليؤكد أن نسل الليبرالية العربية لم ينقطع رغم الطغيان الشمولي في العهدين البعثي والأميركي الحاضر.