طه حسين يرد على أندري جيد في وثيقة تنشر لأول مرة بالفرنسية

الإسلام لا يدعو إلى السكون وإنما إلى التفكير العميق

TT

إدريس كسيكس * ان القول بشرق روحاني وبغرب عقلاني قول ما زال مستبدا بعقول العديد ممن يحق لادوارد سعيد أن يدعوهم بمستهلكي الاستشراق، وهو تصنيف يضم ليس فقط أغلب ساكنة الغرب ولكن أيضا عددا لا يستهان به من العرب والمسلمين المستغربين في أرضهم. ولا شك أن اضفاء بعض الكتاب والمثقفين، الذين يتمتعون بوضع اعتباري أو ممن يملكون سلطة رمزية، صفة السكون والخنوع على الشرق المسلم من الأمور التي ساهمت في تكريس صورة الشرق الروحاني المستسلم لدرجة أصبحت معها هذه الصفة لاصقة بمخيلة المتلقي الغربي.

لا يهمنا في هذا الحيز ان كان الحكم صائبا أو خاطئا. ولكن ما يهمنا هو كيفية الرد عليه. فقليلا ما وجد من بين المثقفين العرب الممتلكين لناصية التفكير العقلاني من استطاع أن يفحم مخاطبا غربيا ويستدل استدلالا منطقيا على أن هذه الصفة الملتصقة بالشرق صفة عارضة وليست جوهرية وأن جوهر الشرق المسلم ليس بالضرورة مطابقا لما هو عليه ظاهر الحال. أذكر كل هذا لأتحدث عن مضمون المراسلة التي نشرت اخيرا في مجلة «لوموند دي ديبا» عدد مايو (أيار)، والتي تبادلها أندري جيد وناقل نصوصه للعربية، الأديب طه حسين، في الفترة الممتدة بين عامي 1945 و1946 على هامش صدور ترجمة «الباب الضيق». فلأول مرة منذ ذلك التاريخ، يتعرف القارئ الغربي والمستغرب على حد سواء على فحوى خطاب المؤلفين في ترجمة كاملة للمراسلتين الى الفرنسية واللافت للنظر هو أن موضوع هذا الحوار السجالي بين علمين يرمزان ثقافيا لباريس من جهة وللقاهرة من جهة أخرى لم ينحصر في موضوع «الباب الضيق» وانما تعداه الى أرض الاسلام والى مجال المتلقي العربي المفترض للنص المنقول. فبينما كان طه حسين ينتظر من صاحب الكتاب تقديما يوطئ به لترجمته، توصل برسالة من أندري جيد، أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها مستفزة، فرغم انفتاح المؤلف على ما يدعوه بـ«أنوار الاسلام» ورغم لقاءاته بالعرب والمعربين وأسفاره التي جعلته يتخلص من «المركزية الغربية المفرطة»، فهولا يظن أن العالم العربي قادر على «التلقي» مثلما هو قادر على «العطاء». فهو يعتبر أن «من تربى في ظل القرآن وعلى هديه ليس لديه الاستعداد الكافي للتساؤل والحيرة». أي أن الاسلام في نظر جيد هو «مدرسة اليقين» لا غير. لذلك فهولا يرى كيف يتسنى لأفئدة مستكينة وآمنة أن تولي ما يكفي من الاهتمام «للقلق الروحاني» المنبعث من الباب الضيق، خصوصا أن لهذا القلق الوجودي جذور بروتيستانتية غريبة عن القارئ العربي والمسلم. وفي محاولة من جيد ابداء شيء من اللباقة ليكفر عن قساوة أحكامه، يتساءل ان كان أضفى على مؤلفه ما يكفي من المحبة ومن الهموم الانسانية لكي يثير أحاسيس قراء يفترض أنهم بمنأى عن مخاضه وهواجسه. وجاء رد طه حسين لبقا وواقعيا ومقنعا في نفس الوقت. فهو لم يعترض على ما أبداه جيد من أحكام ولكن اعترض على موضوع الحكم، اذ اعتبر أن جيد يجهل جوهر الاسلام ولا يعرف سوى ثلة من المسلمين الذين يجهلون بدورهم ثوابة دينهم وحضارتهم، فهؤلاء برأيه «سذج لا يستطيعون أن يجزموا ان كان القرآن يقترح أجوبة فقط أو يتعدى ذلك لاثارة أسئلة جوهرية». وطه حسين يؤكد في هذا الباب أن «الاسلام لا يدعو الى السكون بتاتا وانما يحفز على التفكير العميق ويثير لدى المرء قلقا بالغا»، والدليل على ذلك ما شهدته القرون الخمسة الأولى من صراعات وما أنتجته من شعر روحاني راق ورفيع. أما ما عرفه العالم العربي في ما بعد من تشبث بالقشور ومن استسلام لليقينيات فهو نتيجة الانحطاط والتقهقر الثقافي، الذي جعل الجهل يستقوى على المعرفة.

أما عن قول الكاتب الفرنسي ان العالم العربي غير قادر على «العطاء» وعاجز عن «التلقي»، فذلك طرح مرفوض برأي طه حسين، لأن الاسلام في تقدير هذا الناقد الفذ للتراث الاسلامي «ما استطاع أن يعطي الا لأنه تلقى ما يكفي من الآخرين، أي من اليهودية والنصرانية ومن الحضارتين الاغريقية والفارسية» وتمكن من صياغة كل هذه الروافد في بوتقة وقالب أصيلين، فانه قادر على «تلقي ثقافة أوروبا المعاصرة» وتأمل التساؤلات المضمرة في نصوصها. لم يكن جيد يعلم حينها أن ترجمة أخرى لروايته الشهيرة «مدرسة النساء» كانت قيد التحضير وأن حركة ثقافية دؤوبة كانت تعتمل في الساحة العربية استمرارا لحركة النهضة. أما الآن بعد مرور أكثر من نصف قرن على هذه المراسلة ذات الدلالة الرمزية العالية، فاننا نجد أن تردي الواقع الثقافي العربي ساهم في استحكام الكليشيهات والأحكام الثابتة. ولعلنا نستلهم من طه حسين دروسا جمة، فمراسلته تزكي ضرورة الحوار والتواصل مع الآخر والتحكم في آليات العقلانية ليس فقط لافحام المخاطب ولكن أيضا، وهذا جوهري، لادراك من نحن إدراكا واضحا وعميقا ونقديا. اما الدرس الثاني فهوضرورة الانفتاح ونقل ما ينتجه الآخرون من نصوص لأن صلابة الأمم لا تقاس فقط بما ورثت ولكن كذلك بما استوردت واستوعبت داخل فضاءاتها من نتاج الآخرين وتساؤلاتهم.

أكيد أن الهاجس الأساس حاليا لدى الكثيرين ممن يخشون آثار العولمة هو العودة الى تربة الخصوصيات، لكن لا يجب أن ينسينا ذلك وجود كم هائل من النتاج الكوني قد يتلاشى أو يضمحل ان لم نحقق ظروف تبادل ثقافي سليمة. فبمعرفتنا للآخر نتمكن أفضل من معرفة ذواتنا. ذاك ما علمنا اياه عميد الأدب العربي، طه حسين.