خيبات متوهجة في رماد الأحلام

المخرج محمد الدروبي يعيد الألق إلى مسرح السبعينات في حلب

TT

فترة طويلة مرت على المدينة من دون أن تشهد نشاطاً مميزاً في الثقافة، أو غيرها... حلب ذات التاريخ الثقافي العريق، تشهد خراباً استمر على مدى أكثر من عقدين من الزمن، في السينما والمسرح والمؤسسات الأخرى بشكل مبرمج أو قدري... وكأن اللامبالاة والإهمال والمرارة صارت صفات ثابتة تدفع الناس إلى الجهل أو التجهيل نهاية إلى الموات الثقافي. وقد شهد المسرح في المدينة نبضة متألقة في أواخر الستينات مع تأسيس مسرح الشعب، تلت ذلك قفزة نوعية بوصول المخرج الراحل فوّاز السّاجر وتأسيسه فرقة المسرح الجامعي وتقديمه لمسرحيات متميزة، شكلت جمهوراً مسرحياً نخبوياً انعكس على الحركة المسرحية التي نهضت بشكل نوعي، امتد على عقد السبعينات ومنتصف الثمانينات (فرقة اتحاد العمال والشبيبة وفرقة الشهباء والمهرجانات المسرحية الدورية... إلخ)، ثم خبا كل ذلك وقلبت الكراسي وسيطرت الفرق التجارية التي همشت دور المسرح ووأدت كل ما له علاقة بالفن المسرحي حتى صار ما تقدمه هو القاعدة، ودخل الفن الأصيل في الاستثناء. وخلال ذلك قدّمت بعض العروض الخجولة التي كانت كالشامات غير المضيئة التي خبت وانطفأت بسرعة، بسبب فقر الدعم المادي والإمكانات الهزيلة، وصولاً إلى النهاية المحترمة.

شهد مسرح دار الكتب الوطنية أخيراً عرضاً مسرحياً نوعياً، اعاد الألق لتلك العروض المتميزة التي كانت تعرض على مسارحها، ويمكن القول إن المخرج محمد الدروبي يواصل بعرضه هذا استمرار مسرح السبعينات.

«تداعيات... في الخيمة» اعادت جمهور المسرح إلى مقاعده الأصيلة وغصت القاعة بالمشاهدين من النخبة المثقفة، التي رجعت بعد العرض إلى المناقشة والتحليل وطرح الأسئلة عن سبب غياب المسرح وطرح المسرح البديل.

لقد أحسن المخرج في اختياره للممثل المخضرم والموهوب ناصر وردياني الذي استطاع، خلال ساعة كاملة، أن يوقف أنفاس المشاهدين بقدرته على الحركة المرنة والحوار المناسب والتقلب بين الشخصيات واستطاع ان يطوع جسده لحركات صعبة رغم تقدمه في السن، ساعدته على ذلك خبرة عريقة قضاها على خشبة المسرح. وقد كان الدور مناسباً له وكأنه مفصل على قده ومعمول له، فالخيبة، أو مجموعة الخيبات كانت أشبه ما تكون خيباته وقد أضاع عمره على الخشبة ولم يحصد سوى الألفة والحب لعمله.

تفتح الستارة على خشبة مسرح فارغة، برسم التسليم لمتعهد ابنية كي يهدمها وينشئ بناء آخر مكانها. على الخشبة قطع إكسسوار، ملابس، صناديق كرتون، تتوزع في كل مكان. يدخل عبد الصمد وهو ممثل في العقد الخامس في زيارة وداعية للمسرح الذي أحب وقضى على خشبته أكثر من ربع قرن... ليبدأ مناجاة طويلة لتلك الأيام، يستعرض أحلامه ويستعيد لحظات من مشاهد لأدوار قام بأدائها... يتقدم لملامسة خشبة المسرح، يجول ببصره في المكان ويتأمل المقاعد.

هذا الوقوف على اطلال المسرح، لم يكن يعني الموت بالنسبة له، بقدر ما كان يعني إعادة الحياة لهذه اللحظة التي يسترد فيها صموده (دلالة الاسم)، والتي تعني استمراريته، ومنها يستمد بقاءه لأنه لا يمكن أن ينهار بهذه البساطة. وإذ ذاك يلتف على وجوده ليكون في ألق المسرح، وها هو الجمهور يصفق له وعبد الصمد يقف امامه بإجلال ليحييه. وبعد ذلك يبدأ بأداء دوره وتفريغ مشاعره الإنسانية الرقيقة وهو يبثها للخشبة والإضاءة عندما كان يحلق وحيداً منتشياً في هذا الملكوت وهو يسبح في بحر الألوان، يستعير الآخرين، حيوات الخائبين والعشاق والشحاذين... كان ممثلاً متألقاً على الخشبة وفاشلاً تماماً على مسرح الحياة... فهو لم يستطع أن يفعل شيئاً، فقد حتى الاحتجاج على بيع المسرح أمام مديره.

يقف الممثل الوحيد أمام ركام من الألبسة والأقنعة والسيوف والرماح والخوذ، وفي هذه الصناديق البائسة ترقد ثياب اللصوص والعشاق والجلادين، رسائل الحب، الأوسمة والنياشين والبيارق... ستذهب جميعها إلى المستودعات، لأنها أدت دورها مثله وحان وقت رحيلها.. فلن تبقى هنا سوى الذكريات.

أثناء تجواله بينها يلمح خوذة دون كيشوت فيتذكر دوره ويؤدي مقطعاً فيه ثم يجري حواراً مع الملقن المتخيل، يدور على مدار الشخصيات التي يؤدي بعض الأدوار منها وهي شخصيات (الملك لير والعامل مكسيم، عنترة وزكريا في الفيل يا ملك الزمان)، ثم يتحول هذا الحوار إلى صراع متصاعد متوتر، تتكشف من خلاله حالات التمرد التي كان يقوم بها عبد الصمد على الأدوار المرسومة له في النصوص وكذلك في الحياة، فالاحتضار لم يكن للمسرح فقط، الزوجة تحتضر أيضاً والأماكن صارت فاسدة، خانه الأصدقاء وهو يعيش في غربة عن أولاده، إنه شيء يشبه انكسار الروح... تراجيديا حالكة الأسى.

إن انتقائية المخرج/ المؤلف في النصّ المكتوب، سهلت عليه اختيار أدق المشاهد الدرامية، وإذا ما أضفنا إليه الثقافة المسرحية التي يتمتع بها كاتب النصّ، فسوف نكون قد حصلنا على نص مكتوب بحذاقة، يعرف كيف يتوجه به كاتبه إلى الجمهور ويبعده عن الملل ويجعل ممثله الوحيد يصطاد لحظات النعاس ليشعلها من جديد في خروجه عن المألوف والعادي والثرثرة المجانية.

محمد الدروبي المخرج المتمكن، استطاع بحرفية عالية ان يستفيد من طاقة ممثله ومن الديكور المخرب ومن ثقافة الحياة وثقافته المسرحية ليقدم هذه الخيبيات المتواصلة، ولم يتركها تندرج في إطار الخشبة والمقاعد، بل خرج بنا إلى الحياة العامة، ليلاحظ ويراقب ويبدي رأياً، غاضباً أو محتجاً من خلال شخصية زكريا في الفيل يا ملك الزمان. وقد جاءت موسيقى رضوان رجب متجاوبة مع طموحات النص مما جعلها تشكل معه تناغماً وإيقاعاً منسجماً مع حالات النفس الإنسانية في توهجها وتألقها وفي يأسها وخيبتها وانكسارها. أيضاً برع الفنان أحمد التنجي في إدارة المنصة وأغنى الخشبة بالحركة وجعل النار الإغريقية التي تأتي من وراء الستار وكأنما كل شيء كان يحترق... وربما يكون غسان الذهبي مساعد المخرج قد قدم كثيراً من الخدمات إلى العمل، كي يكون عملاً جماعياً متقدماً.

تداعيات في الخيبة هي أحلامنا المنكسرة، وخيباتنا، تلك التي تتوهج لنلمسها، في رماد الأحلام لكنها تنسل من بين أصابعنا وتهرب بعيداً لتضيع في العتمة. وما الساعة المائية التي تنقط من السطح المنخور على السطل الموضوع فوق البيانو إلا شاهد على موت الأحلام الجميلة.

فرقة المدى أعادت ألق مسرح السبعينات، ولكن السؤال الذي بقي على المقاعد عنها نهاية العرض: هل تستطيع الفرقة أن تستمر من دون دعم مادي، يجعلها تنهض بعمل واحد على الأقل كل عام؟