هل يمكن للمبدع العربي أن يطلب حرق أحد أعماله بعد رحيله؟

وصية نابوكوف طرحت علامة استفهام

TT

هل من الممكن ان يوصي مبدع عربي بحرق بعض أعماله بعد رحيله، ليمنع وصولها إلى القارئ؟ سؤال يحمل سمات الفانتازيا، لكن مبرراته قائمة، فقد تسببت وصية قديمة لفلاديمير نابوكوف في طرحه. فالوصية التي يطلب فيها الروائي الروسي حرق عمله الأخير غير المكتمل «أصل لورا» عادت للظهور، بعد أكثر من ثلاثين عاماً من كتابتها، لأن آخر ورثته أعلن اعتزامه تنفيذها، رغم انه هو نفسه الذي ظل طوال السنوات الماضية يروج للرواية، باعتبارها ذروة ما كتبه والده! الأدباء العرب تعاملوا مع السؤال من منطلقات مختلفة، وقدم كل منهم وجهة نظره، التي تفاوتت بين تأييد حق الكاتب في نشر عمله أو الحكم عليه بالإعدام المؤجل، لكن هناك أيضا من رأى في الأمر بدعة غربية لا تتناسب مع واقعنا الثقافي العربي، الذي لا يهتم بإبداع يرغب صاحبه في نشره، فكيف نجد من يولي اهتماماً لما هو دون ذلك!

يرى الروائي جمال الغيطاني أن المبدع قد يقدم أحيانا على إتلاف عمل، ربما يسبب أذى لأسرته، لكنها حالات نادرة: «لا يمكن أن يقدم عليها الكاتب بنفسه إلا في لحظات ألم أو إحباط استثنائية». هذا ينطبق على قيام المبدع بإحراق إبداعه بنفسه، لكن ماذا عن الحالات التي يوصي فيها المبدع ورثته بذلك؟ سؤال يرد عليه الغيطاني بقوله: «أعتقد أن هذه هي الحالة الوحيدة التي يجب أن يقوم الورثة فيها بمخالفة الوصية، لسبب بسيط وهو، إذا كان المبدع يرغب في ذلك فعلا، فلماذا لم ينفذ رغبته بنفسه؟». يبدو أن هناك سبباً آخر لدى الغيطاني يتعلق بالخسارة التي قد تلحق بالأدب نفسه. ويحيل الغيطاني إلى واقعة غربية: «عندما أعطى كافكا أعماله لصديقه ماكس برود وأوصاه بحرقها، ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن ماكس نفذ ذلك؟ هل يمكن تصور خارطة الرواية العالمية بدون أهم إبداعات كافكا؟». ننتقل بالسؤال إلى المستوى الشخصي: هل لديك شخصياً عمل يمكن أن تطلب عدم نشره في ما بعد؟ يرد عليه الغيطاني: «ليس لدى عمل أخجل منه لا فنياً ولا أدبياً. فكل عمل يمثل مرحلة أعتز بها. حالتي مختلفة تماماً، فأنا الآن أرغب في نشر أعمالي المبعثرة بين دور النشر، لا أن احرق بعضها». وماذا لو كان لديك عمل غير مكتمل؟ يجيب الغيطاني: «الأمر مختلف مع الأعمال التي لم يرغب الكاتب نفسه في نشرها. ففي حياة نجيب محفوظ، قام أحد أصدقائه بنشر رواية كان محفوظ قد قدمها لأحد منتجي السينما، لكنه لم يرغب في نشرها بكتاب، وقد سبب ذلك استياء وقتها». هناك أعمال، إذن، قد يرغب المبدع في عدم نشرها، وربما تكون من بينها الأعمال التي يمنع الرحيل اتمامها. يعقب الغيطاني: «إذا رحلت ولدي عمل غير مكتمل، فالسؤال هو: لماذا يكون من المهم أن ينشر؟ أعتقد أن الأهم هو أن يوضع في متحف أو يتاح للدراسة الأدبية». يصمت قليلاً ثم يستطرد ساخرا: «هل هناك اهتمام في عالمنا العربي بالأعمال المكتملة لكي يكون هناك اهتمام بالأعمال غير المكتملة؟ وما هو مدى الاهتمام بأعمالي بعد رحيلي؟ من حق ابني بالتأكيد ان يتصرف في كل أعمالي، ولا أعتقد أنه سيواجه مشكلة مع أي عمل غير مكتمل، لأن المنطقة العربية تختلف عن الغرب، فليس هناك اهتمام بالعمل الكامل لكي يهتموا بالعمل الناقص!».

تنطلق وجهة نظر الروائي يوسف القعيد مما نشر عن نابوكوف، فيرجح أن ما نشر مجرد دعاية للرواية على الطريقة الغربية، ويتساءل: «توفى نابوكوف منذ زمن بعيد، فلماذا الحديث عن الوصية الآن؟ ولماذا لم يحرقها نابوكوف بنفسه طالما استطاع أن يسجل ذلك في وصيته؟» أسئلة القعيد مشروعة لكن ما نشر عن وصية نابوكوف يطرح تساؤلا في المقابل: هل يمكن لمبدع عربي أن يوصي بإتلاف كتاب له بعد وفاته؟ يجيب القعيد: «أرى أن ما يحدث هو من غرائب الأدباء. هناك حالة شبيهة حدثت أخيراً، وهي عكس ما هو مطروح هنا. فقد ترك معروف الرصافي وصية طلب فيها عدم نشر كتابه «الشخصية المحمدية» إلا بعد خمسين عاماً من وفاته. وقد نشر أخيراً في ألمانيا. وربما يكون المبرر هو ما تضمنه الكتاب من وجهة نظر مغايرة. أنا أرى أن الكاتب يمكن أن يقرر منع نشر عمل ما في حياته لاعتبارات آنية، لكن هذا المنع يسقط بموته، ويصبح النص ملكا للناس». وماذا عنك شخصياً، يرد القعيد بقوله: «أرى توسعاً لدى الكتاب العرب فى القول بأنهم كتبوا كذا وأحرقوا كذا، وأعتقد أن شجاعة الكتابة لا بد أن توازي شجاعة النشر. فطالما كتبت ينبغي أن أنشر وإذا كنت أخشى النشر فينبغي ألا أكتب. أنا ضد فكرة أن أكتب وأقول أحرقوا هذا بعد وفاتي. لو أن هناك ما يستدعي الحرق فسأنفذ أنا هذا بنفسي». يتوقف للحظات ويستطرد في عبارة ختامية: «في ظل تسليع كل شيء والاعتماد على الإثارة في الترويج، أنا أشك في القصة برمتها كما أشكك في خبر آخر نشر في نفس التوقيت عن حذف تسليمة نسرين صفحات من روايتها الأخيرة لتصبح ملائمة للقراء المسلمين. وأعتقد أنها مجرد دعايات على الطريقة الغربية».

قبل فترة نشرت إحدى الصحف قصائد لأمل دنقل، قصائد تنتمي لمرحلة البدايات، أثارت جدلا واعترض البعض على نشرها طالما لم يحرص أمل نفسه على تضمينها أي ديوان له. وقتها اعترضت أرملته الناقدة عبلة الرويني، والسبب حسبما تقول: «اعترضت على نشرها بشكل مستقل في جريدة يومية باعتبارها نموذجا لشعره، ويتم التعليق عليها بوصفها قصائد رديئة. لم تكن موضوعة في سياق علمي، ولكن في سياق به قدر من الإساءة. اعتراضي كان على سياق ومكان النشر». وكيف خرجت هذه القصائد طالما أنت معترضة على نشرها؟ تجيب الرويني: «لم تكن ملكي، ظلت عند الدكتور جابر عصفور سنة وعند الدكتور سيد البحراوي عاماً آخر، ثم انتقلت لشخص آخر لتظل عنده نحو خمس سنوات، وكانت طول الوقت متاحة للدراسة في رسائل الماجستير والدكتوراه. وهو أمر لا أعترض عليه». أي أن ظهور تلك الأعمال إلى النور ليس مرفوضا؟ فإذا كانت الأعمال مجرد تجارب ناقصة أو ساذجة لانتمائها للبدايات، فلا بد أن توضع في سياق، تبقى فيه مجرد مادة للدراسة يحلل من خلالها المبدع ومراحل تطوره، من دون أن تعتبر نماذج أصيلة وأساسية في التجربة الجمالية للكاتب». لكن هناك وجهة نظر تقول بأن إبداع الأديب يصبح ملكا للجمهور تلقائيا، تعلق الرويني قائلة: «هذه القصائد ظلت تحت يد أمل نفسه لمدة تجاوزت العشرين عاماً قبل رحيله، ولم يحدث طوال تلك الأعوام أن وضع واحدة منها في ديوان له، وبهذا يكون رأيه واضحا في نشرها. ولا يستطيع أي إنسان أن يدعي عكس ذلك. فهو لم يلتفت إليها طول حياته ولم يرغب في نشرها».

بدوره يرى الروائي علاء الأسواني أن من حق المبدع أن يلغي أي عمل له أثناء حياته، وهو حق لا ينبغي أن يسقط بالوفاة. ويوضح: «لأنه لو كان على قيد الحياة لاتخذ هو نفسه القرار بمنع نشرها أو حتى إتلافها. وقد تابعت أثناء إحدى زياراتي لدار الشروق حدثاً دالاً، فابنتا الأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ كانتا هناك، وقد أصرتا على عدم نشر رواية «أولاد حارتنا» إلا إذا تحقق الشرط الذي وضعه محفوظ أثناء حياته، وهو أن يكتب مفكر إسلامي مستنير مقدمة لها.

سؤال فجّ نوجهه لعلاء الأسواني: أنت شخصياً هل يمكن أن تضمن وصيتك طلباً بمنع نشر أعمال سبق لك أن كتبتها؟ يجيب: «الأعمال غير المكتملة ومشروعات رواياتي لا أحب أن تنشر، فجهاز الكومبيوتر المحمول الخاص بى مليء بمشروعات وأفكار روايات، وقصص شخصيات وبدايات فصول لروايات لم أتمها، وبالتالي فأنا حريص على ألا يطلع عليها أحد أثناء حياتي، وبالتالي ينسحب المنع نفسه بعد رحيلي. أنا مصمم على ذلك رغم وجود اتجاه آخر يرى أن كل شيء يصبح ملكية عامة بعد وفاة مبدعه».

«ربما لا تكون فكرة حجب بعض أعمال المبدع بعد وفاته مطروحة بالنسبة للكاتب العربي، لكن يفضل ألا يتصرف أحد في أعماله بعد رحيله طالما لم يوص بالعكس». بهذه الكلمات بدأ الروائي إبراهيم عبد المجيد طرح وجهة نظره. لكن رأيه تطلب سؤالاً عن الأساس الذي ينبغي أن يتصرف ورثة المبدع اعتماداً عليه، هل النشر هو القاعدة والمنع هو الاستثناء أم العكس، في حالة عدم وجود وصية؟ يرد عبد المجيد: «الأساس هو نشر الأعمال، لكن لا بد أن تكون هناك أخلاقيات تحكم ذلك، فهناك أعمال ربما لم يكن لدى الكاتب رغبة في نشرها».

وماذا عنك شخصيا؟ يرد قائلا: «بعض كتاباتي الأولى لم أنشرها ولا أرغب في نشرها وأحتفظ بها على سبيل الذكريات». هل لديك استعداد لكتابة وصية تطلب فيها عدم نشرها؟ يرد بسرعة: «لو تذكرت». وما هو الحل الذي يضمن عدم نشر أعمال لم يكن المبدع يرغب في ظهورها في حالة نسيانه أو تجاهله كتابة وصية؟ يرد عبد المجيد قائلا: «رأيي ألا تنشر بعد وفاة أي كاتب سوى أعماله المنشورة فقط». وماذا عن الأعمال غير المكتملة؟ يجيب: «نشرها ليس مضراً لكن على أن يتم ذلك من باب التكريم، من دون أن يدخل العمل في دائرة الأحكام النقدية».